الإعلام السوري البديل.. نجاح قليل وغياب الشفافية


05 أيار 2017

غياث الجندي

كاتب سوري

بعد غياب ما يقارب الخمسة عقود عن غياب أيّ وجود لإعلام مستقل أو شبه مستقل في سورية نتيجة لاحتكار النظام القمعي الشمولي لوسائل الإعلام  والتغييب الممنهج لظهور أي نوع من الصحافة المختلفة عما يكتب في صحف النظام، أتت ثورة 2011 لتفتح الباب على مصراعيه لظهور وسائل إعلام  ونواة إعلام مستقل في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام أو في منافي الدول المجاورة وأوروبا.

وبشكل طبيعي، واجهت معظم هذه الوسائل صعوبات كثيرة نتيجة لنقص الخبرة في تسيير وإنتاج وسائل إعلامية جديدة، وأيضا نقص الدعم أو عدم إمكانية وصول الدعم. وفي مرحلة لاحقة تمّ وصول الدعم وقام بعض المموّلين والمنظمات الحقوقية بدعم إنشاء إذاعات محلية ومواقع إلكترونية، وأيضاً بتنظيم دورات تدريبية تمحورت حول بناء قدرات هذه الوسائل الجديدة وإدارتها إلأ أنّ النتائج لم تكن بالشيء المرجو، فاستمرت الصعوبات، وخصوصاً الإدارية، وما أدى إلى توّقف بعض هذه المشاريع الناشئة، وبعضها بقي ليصارع من أجل البقاء.

ورغم أنّ بعض الوسائل الإعلامية قامت بإنتاج يستحق الذكر رغم الإمكانيات المتواضعة إلا أنّ بعضها الآخر لم يستطع أو لم تحاول أن تطوّر في المشهد الإعلامي أو في بناء أرضية جيدة لقيام إعلام تعددي مستقل. وهنالك أيضا شيء جدير بالملاحظة، أنّ بعض هذه الوسائل دخلت في حالة تنافسية حادة وغير موضوعية مع مثيلاتها بحجة "التميّز" أو مطاردة المموّولين بدلاً من القيام ببرامج مشتركة وأعمال جماعية.

والملاحظ أنّ أغلب هذه الوسائل لم تستطيع أن تتطوّر لا في أدائها الداخلي ولا في قدرتها على إنتاج تغيير واضح على الأرض بالرغم من الإمكانيات السخية التي قدّمت لها. ولم تستطيع الغالبية الساحقة من المنظمات الإعلامية السورية أن تتقدّم بخطوات واضحة نحو الشفافية المادية أو الإدارية، ولم تقم هذه الغالبية مثلاً بانتخابات داخلية لتعيين مجلس أمناء فعّال وقوي في اتخاذ القرارات اللازمة لإدارة المنظمة، لا بل على العكس انزلقت الجمعيات تلك نحو هاوية الارتباط باسم محدّد بما يوحي أنّه مالك أو مالكة الجمعية وليس مديرها على سبيل المثال. لقد رأينا  في كثير من المنظمات والمؤسسات الإعلامية انعكاساً للحياة والنشاط في ظلّ النظام القائم داخل سورية.

تجارب ناجحة

لقد كانت مثلا تجربتا "عنب بلدي" و"طلعنا عالحرية" وغيرها تجارب مشجعة في الحقل الإعلامي بالرغم من الضغوط والحصار الذي تعرّضت لها هذه المؤسسات الناشئة. أما في المنافي فظهرت وسائل إعلامية غالبيتها، إذاعات على الأنترنت أو إذاعات بث على الإف إم، وكان أغلبها موّجهاً للسوريين والسوريات في الداخل السوري، وخصوصاً المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، ووقعت تحت سيطرة المعارضة المسلحة، والتي بدورها شاركت النظام في اعتبار الإعلام أحد أهم أعدائها، وقامت بمنع توزيع الجرائد أو وقف بث الإذاعات التي كانت تعمل من تلك المناطق. وفي غازي عنتاب مثلا، تركز عدد لا بأس به من المحطات الإذاعية التي تلّقت دعماً سخياً من قبل مموّلين أوروبيين وأمريكيين، لكنّ الغالبية العظمى راوح في مكانه لأسباب أهمها، غياب الشفافية والممارسة الديمقراطية وغياب تقسيم الأدوار بشكل موضوعي حيث يقوم كل شخص بالدور المناسب له أو لها.

 لقد ابتليت هذه المنظمات الإعلامية بنفس الأمراض التي كنّا نعيشها تحت وطأة نظام القمع في سورية. هنالك الكثير من القائمين على هذه المحطات هم من غير الصحفيين أو غير الملمين بالأمور الإدارية أبداً. وفي كثير من الحالات ظهرت حالات سيطرة عائلية أو قرابية على وسائل الإعلام تلك مثل حارة إف أم التي قامت السلطات التركيا بإغلاقها اليوم، مع غياب كامل للتخطيط الإعلامي أو لاستراتيجية إعلامية تهدف أيضا إلى التطوّر نحو حالة إعلامية مستقلة. وقياساً على ذلك، صارت بعض الوسائل الإعلامية الناشئة منبراً شخصياً أو ملتقى بين أصدقاء، وهنالك أمثلة على وجود موظفين في وسائل الإعلام تلك بدون أيّة خبرات إعلامية أو صحفية.

دور سلبي للمانحين

ولا يمكننا تجاهل دور المنظمات الدولية المانحة السلبي، والتي قامت بدعم وسائل الإعلام المذكورة، سواء عبر الطريقة التي أدارت فيها تقديم المنح أو إنشاء المؤسسات منذ البداية. هنالك الكثير من المنظمات الدولية التي لم تقم بأيّة بحوث أو استشارات حول تقديم المنح أو دعم اقتراحات لإنشاء وسائل إعلامية بل هنالك منظمات دولية تجاهلت البحوث والنصائح وقامت بالمضي قدماً في خططها التي انتهت بفشل ذريع.

على سبيل المثال، كنت شخصياً واحداً من اثنين طرحوا فكرة إنشاء محطة إذاعية تهدف لأن تقدّم نوعية جديدة من الإعلام المستقل وتُبنى على الشفافية في العمل وفي التوظيف وفي الإدارة. بعد عدّة جلسات مع الجهة المانحة وشارك بها عدد لا بأس به من الصحفيين والصحفيات السوريات، تمّ الاستغناء عن أغلب الذين شاركوا في نقاش التأسيس وتم فيما بعد إطلاق محطة إذاعية من باريس اسمها روزنة. لم يكن للجهة المانحة أيّ استيعاب أو محاولة استيعاب للحالة السورية، وتمّ جلب أشخاص لم يسبق لهم ولهنّ القيام بإدارة محطة إذاعية أو أي منظمة مجتمع مدني من قبل. لم تقم الجهة المانحة، مثلا، بتدريب المديرة التنفيذية على الأمور الإدارية وأمور التواصل مع الموظفين والموظفات، ولم يتم انتخاب مجلس أمناء بل تمّ انتقاء مجلس أمناء بناء (على ما يبدو) صداقات تعود للإدارة، وبعض أعضاء مجلس الأمناء عمل كمدربين مدفوعي الأجر، وهذا يتنافى تماماً مع دور مجلس الأمناء.

 مثل جهات مانحة أخرى، لم تقم International Media Support (منظمة دعم الإعلام الدولي/ims) بالفصل بين دورها كجهة مانحة أو مموّلة ودورها في تعيين مديرة تنفيذية، ناهيك عن عدم امتلاكها لأيّ خبرة إدارية. لقد قاد هذا النوع من التخطيط إلى نكسات كارثية في المشهد الإعلامي الناشئ، وقام صحفيو وصحفيات مكتب غازي عنتاب بالإضراب احتجاجاً على سوء المعاملة من قبل الإدارة، وبدل أن تتدخل الجهة المانحة كوسيط للحل قامت عبر أحد أعضائها بإرسال إيميل للمضربين لفك الإضراب أو إغلاق مكتب غازي عنتاب لراديو روزنة، بينما قامت مديرة المحطة بفصلهم من العمل بشكل مباشر وفوري بدون الدخول في أيّ مفاوضات أو نقاش. ومع أنّه تم التراجع عن قرار الفصل بعد وصول الأنباء إلى منظمات دولية أخرى، وتمّت مفاوضات تمّ خلالها الوصول إلى اتفاق لم يُحترم من قبل الإدارة أبداً وبعد الاتفاق غادرت الغالبية العظمى (11 من أصل 14) العمل في الإذاعة بسبب الضغوط التي تعرّضوا لها، وتم استقدام مدير مكتب ليس له علاقة بالإعلام، وكان هو أيضا على خلاف مع عدد من الموظفات في الإذاعة بسبب إساءات قام بها تتعلّق بالتمييز ضد المرأة ضد صحفية بالإذاعة ونساء ناشطات أخريات. ومع تدخل الجهة المانحة في عمل الراديو من تعيين إدارة وما شابه ذلك إلا أنّها لم تتدخل في حلّ الأزمة، ووقفت طرفاً واضحاً لصالح الإدارة المخطئة.

أيضا.. تحرش!

هنالك أيضا قصص مثيرة للاشمئزاز من طرف محطات إذاعية ووسائل إعلام أخرى حيث تمّ فصل العاملين من دون أسباب، ومن دون تعويضات وأيضا هنالك قصص عن تحرّش جنسي كبير ضد الصحفيات العاملات في بعض المؤسسات، ولدينا توثيق لقصص من هذا القبيل من قبل صحفيات تعرّضن للفصل بسبب رفضهن الرضوح لمطالب مدارئهن الشخصية.

 لقد بقيت قصة التحرش الجنسي في العتم، ولم يتطرّق أحد لها خصوصاً من قبل الفتاة ( الضحية) وذلك لأسباب عدة: أولها خوفها من فقدان وظيفتها، والأمر الثاني هو إحساس الفتاة بعدم جدوى الإفصاح عن هذا الأمر لأنه سوف يُلحق الضرر بسمعتها، هذا إذا لم يتطوّر الأمر لحد التشهير بها في الوسط الإعلامي من قبل الشخص المتحرّش لا سيما إذا كان معروفاً وفي منصب مهني أعلى منها.

ومع عدم وجود جهات رقابية تحاسب وتنظم عمل هذه المؤسسات، تنامت ظاهرة التحرّش بشكل كبير. وتقول صحفية عملت في السابق في غازي عنتاب "بالنسبة لي كصحفية خريجة وأحمل شهادة في الإعلام من جامعة دمشق، لم يحميني ذلك من التحرّشات، سواء بالكلام أو حتى التصرفات، ففي أغلب الجهات التي تقدّمت للعمل بها أو عملت بها بالفعل لم أسلم من التحرشات. فعند مقابلتي لمدير إحدى الإذاعات في غازي عنتاب، وذلك للتقدّم لوظيفة أعلنت الاذاعة عنها، بادر فوراً لتقبيلي أثناء السلام عليّ، وهو تصرّف فيه تلميح جنسي مبطّن. لأنه ليس من المنطق أن يقوم مدير بتقبيل صحفية تقدّمت لوظيفة لديه. والأمر الآخر لماذا لا يُعامل الصحفيين الذكور بهذه الطريقة لو افترضنا أنها مجرد تحية!".

وتتابع قائلة: "عملتُ كمراسلة لإحدى الصحف المعروفة وكان مكتبها في اسطنبول يديره صحفي سوري. وكنت أقوم بكتابة التقارير وإرسالها عبر الإيميل، لكنه بعد فترة بدأ يُكثر من الكلام معي عبر الماسنجر أو السكايب بحجة مناقشة تقرير ما أو تعديله، وبدأ يطلب مني أن أفتح الكاميرا، مع الإشارة إلى أن أغلب مواعيد محادثاته كانت في منتصف الليل، رغم أنّ العُرف المهني يقول أنّ المراسلات يجب أن تتم عبر الايميل وأثناء ساعات العمل، وليس عبر الكاميرات وفي منتصف الليل!".

ما سبق يدل على تخبّط وسائل الإعلام الناشئة في البدء بعملية بناء شفافة وديمقراطية يتمّ فيها توظيف الأشخاص الذين أو اللواتي لديهن معرفة بالإدارة أو الصحافة، وأيضا تخبّط الجهات المانحة في دعم قيام مجتمع مدني مستقل ووسائل إعلام يمكن لها أن تؤسس لإعلام تعدّدي ومستقل في سورية الجديدة التي ينتظرها السوريون والسوريات بصبر شديد. وأثبتت هذه التجارب أنّه ليس من المهم أن يكون لدينا عدد كبير من المنظمات وووسائل الإعلام مع فعالية ضئيلة بل أنّ عدداً أقل من المنظمات التي تختار طريق الشفافية وتؤسس نظاماً داخلياً ديمقراطياً وتعتمد على الجهات المانحة فقط في دعم عملية بناء المؤسسة وليس تسييرها.

في الحالة السورية، ينتظر السوريون والسوريات عمل مؤسساتي مختلف عن عمل مؤسسات النظام الذي ثاروا ضده وليس نسخه مع بعض التزيينات الخارجية. لا شك أنّ هنالك جهود كبيرة ونيات جيدة من قبل عدد لا بأس به من الناشطين والناشطات والصحفيين والصحفيات إلا أنّ تجربة الست سنوات الماضية أثبتت أنّ هذه الجهود ضاعت وتضيع في ترهات المنافسة، وأيضاً في تبني عدد لا بأس به من المنظمات المانحة لأشخاص محدّدين وترك المؤهلين بدون أي دعم يذكر.

(تنشر هذه المادة ضمن حملة اليوم العالمي لحرية الصحافة، بالتعاون مع شبكة الصحفيات السوريات).

(الصورة الرئيسية: صورة تظهر توزيع بعض صحف الإعلام البديل في إدلب وريفها في 10/2/2014. المصدر: Souriatna's facebook page، والصورة تستخدم بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد