الجَبْهاتُ التي لنْ تكفَّ عنْ ندائِنا: التّاريخ والعُروبة والهُوِيّة الوطنيّة والتَّنوير والثقافة


هل ما زال سؤال النهضة، سوريا وعربيا، سؤالا مطروحا؟ وما علاقة النهضة بكل ما جرى في سياق الربيع العربي؟ على ماذا يجب أن يشتغل العقل العربي، ومن ثم المواطن العربي والسياسة لاحقا؟ الدكتور والباحث، مازن أكثم سليمان، يناقش في هذا المقال النقدي المسائل التي يراها ضرورية وراهنة، لإعادة العمل على مَشروع التَّغيير النَّهضويّ السُّوريّ/ العربيّ وجوداً وحضارةً

09 كانون الثاني 2019

(قضيّة التَّنوير الدّينيّ/ الإسلاميّ بما هيَ قضيّة مُلحّة وعاجِلة، يجب أن تتواقت وتتزامن مع قضية التنوير العلماني أيضا/ خاص حكاية ما انحكت)
د. مازن أكثم سليمان

شاعر وناقد سوري، يعيش في دمشق، من أعماله الشعرية "قبل غزالة النوم".

لعلَّ سُؤال هذِهِ المَقالة المُحوريّ ليسَ سُؤالاً جديداً سوريّاً وعربيّاً، فدائِماً كانَ العرب يتساءلون ويكتبون ويُحاولون (مُمارَسةً وفعلاً) أنْ يفتَحوا ثغرةً في المُستوى الوقائعيّ الحديث والمُعاصِر لإحداث (التَّغيير) المَنشود، و(النَّهضة) المَأمولة. لكنَّ هذا السُّؤال يستمدُّ الآن دافعيّة أقوى بحُكم استنادِهِ نظَرياً ومَوضوعيّاً إلى تجارِب ثورات الرَّبيع العربيّ التي لا يبدو أنَّ تداعياتِها أو مَوجاتِها المُتتالية ستنتهي في الأُفُق التّاريخيّ القريب. ولذلكَ أُحاولُ في هذِهِ المُقارَبة أنْ أعيِّنَ المَحاوِر التي أجدُها ضروريّة للاستمرار في العمَل على مَشروع التَّغيير النَّهضويّ السُّوريّ/ العربيّ وجوداً وحضارةً:

أوَّلاً: حولَ مَسألة إعادة قراءة التّاريخ، وكتابتِهِ من جديد 

تعرَّضْتُ مراراً وتكراراً للانتقادات الحادّة واللّاذعة بسبب اهتمامي وكتاباتي عن تاريخ العرب القديم، ولا سيما عن الوجود العربيّ في سوريّة قبلَ الإسلام وقبلَ المسيحيّة، وفَحوى كلام المُنتقدين هو التَّساؤل عن جدوى فتْح موضوعة التّاريخ، ومُناقشة مَسائِلَ بائِدة (كما يعتقدون)، ولا سيما ونحنُ على ما نحنُ عليه الآن من تمزُّقٍ وانحطاطٍ وتخلُّفٍ سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً!

يقومُ ردّي حولَ أهمِّيّة إعادة قراءة التّاريخ، وكتابتِهِ من جديدٍ على المَحاوِر الآتية:

(1): كنتُ، وما أزالُ، أعتقدُ أنَّهُ من الضَّروريّ تصفية الوعي الذّاتيّ والجمعيّ السُّوريّ والعربيّ للانطلاق نحْوَ المُستقبَل، ولهذا يبدو لي أنَّ أحد المُستويات الأساسيّة لتحقيق ذلكَ يكونُ (مع مُستويات أخرى مُتعدِّدة سأذكرُها لاحقاً بطبيعة الحال) عبرَ المُواجَهة الضِّروريّة على جَبهة تصفية الوعي الوجوديّ تجاه (تاريخنا)، وإعادة قراءتِهِ وفَهْمِهِ وكتابتِهِ بنَحْوٍ مَوضوعيٍّ قدر المُستطاع، ليسَ فقط لنعرفَ مَنْ كُنّا ومَنْ نحنُ؛ إنَّما لنستفيدَ من دُروسِهِ، ونُؤسِّسَ عليهِ جانباً من عودتِنا إلى العصر والتّاريخ الحاضِر، وانفتاحنا المَأمول على المُستقبل الحُرّ الدِّيمقراطيّ التَّعدُّديّ.

(2): كنتُ، وما أزالُ، حذِراً من الاعتقاد المَحض بنظَريّة المُؤامَرة؛ لكنْ لأقل إنَّ هُناكَ في الواقع الفعليّ لا المُتخيَّل شيئا،ً ما مارَسَهُ الاستشراق الغربيّ (المُسيَّس) مُتحالِفاً ومُتَّكئاً على الرِّواية التَّوراتيّة، لتزوير تاريخ العرب قبلَ المسيحيّة وقبلَ الإسلام، وهو الأمر الذي ساهَمَ بعُمق في تزييف الوعي التّاريخيّ العربيّ والعالَميّ، وتشتيت إمكانيّة فَهْم أبعاد الكينونة الحضاريّة الدَّقيقة لمنطقتنا، ولهذا لا يبدو لي أنَّ الاهتمام بتاريخ العرب القديم اهتمامٌ تاريخيٌّ بحت أو رفاهيّة فارِغة؛ بل هوَ (أي هذا الاهتمام) جزءٌ من صراع وجوديّ قائِم حاليّاً، ويكفي في هذا الإطار أنْ نعرفَ حجم القطع الأثريّة والنُّقوش ذات القيمة الدَّلاليّة تاريخيّاً، التي اختفَتْ في العراق وسوريّة على نحْوٍ مَدروس، وغير بريء. كما يكفي أنْ نلاحظَ حجم اهتمام الغرب بالتّاريخ العربيّ القديم، وحجم مراكز بُحوثِهِ، وجُيوش مُؤرِّخيهِ وأساتذة جامعاتِهِ، وما يُخفونَهُ عنّا، وعن دارسي التّاريخ العرب في جامعاتِهِم ومَتاحفِهِم من موادّ ووثائق وآثار، لنعرفَ مدى خُطورة المَسألة، مع تأكيد وجود مُؤرِّخين وباحثين وأكاديميِّين غربيِّين كثيرين مَوضوعيِّين ومُنصفين وأوفياء للأخلاق العلميّة المَعرفيّة النّاجية من مَنطق الأهواء والعصبيّات الضَّيِّقة، وأمثال هؤلاء ينبغي أنْ نمُدَّ معهُم جُسور التَّواصُل والتَّفاعُل والحوار البنّاء لصالح الشَّرق والغرب والحضارة البشريّة في آنٍ معاً.

من الضَّروريّ تصفية الوعي الذّاتيّ والجمعيّ السُّوريّ والعربيّ للانطلاق نحْوَ المُستقبَل، وأحد المُستويات الأساسيّة لتحقيق ذلكَ يكونُ (مع مُستويات أخرى مُتعدِّدة) عبرَ المُواجَهة الضِّروريّة على جَبهة تصفية الوعي الوجوديّ تجاه (تاريخنا)، وإعادة قراءتِهِ وفَهْمِهِ وكتابتِهِ بنَحْوٍ مَوضوعيٍّ قدر المُستطاع

(3): كنتُ، وما أزالُ، أعتقدُ أنَّ سُؤال التَّنوير والنَّهضة سُؤال مُلحّ جدّاً، وغير قابل للإرجاء حتماً، والتَّصدّي لهذا الأمر لا يكونُ على جَبهة واحدة؛ إذ لا أرى أنَّ مَعركتَنا (التَّغييريّة) هيَ سياسيّة فقط، بل ينبغي أنْ نعيَ أنَّ مَعركتَنا هيَ ثقافيّة في جانبٍ منها، وتاريخيّة (أي تتعلَّقُ بإعادة كتابة التّاريخ السُّوريّ/ العربيّ القديم، والتّاريخ العربيّ/ الإسلاميّ في آنٍ معاً) من جانبٍ ثانٍ، واجتماعيّة/ سياسيّة من جانبٍ ثالث، ولا تناقُض بين هذِهِ المَحاوِر أو الجَبهات؛ حيثُ يُمكن أن أقول إنَّ العمَل هوَ عمَل نقديّ تراكُميّ مُتكامِل، والوضع السُّوريّ والعربيّ المُستنقِع والمُتشظِّي الحالي، لا يدفَع إلى حصر المَعركة بالمُستوى السِّياسيّ، بقدر ما يفتَحُ جميعَ أبواب العمَل الفكريّ والثَّقافيّ والتّاريخيّ والاجتماعيّ والمَدَنيّ وغيرِها، ومَنْ يُردِّد عبارات من نوع دعونا نحصر الحديث بالتّاريخ القديم داخل أسوار الجامعات، يرتكبُ في اعتقادي خطأً جسيماً؛ إذ أرى أنَّ جميع مَحاوِر الصِّراع، ولا سيما حولَ قراءة التّاريخ القديم، ينبغي أنْ تصبَّ في أرض المُستوى الوقائعيّ، وهذِهِ قضيّةُ تُؤكِّد تلازُم مَسارات الكفاح في قضايا الفكر والثَّقافة والتّاريخ، معَ المَسار الاجتماعيّ/ السِّياسيّ.

ثانياً: التّاريخ والحاضِر والمُستقبَل بينَ الهُوِيّة الوطنيّة ومَفهوم العُروبة 

يتكرَّرُ الالتباسُ الخاصّ بسُؤال الهُوِيّة الوطنيّة السُّوريّة عندَ أيِّ حديثٍ أدلو به يرتبطُ بالعُروبة، ويبدأ سيْل كيْل الاتّهامات الصَّريحة والضِّمنيّة انطلاقاً من سُوء فَهْم مُتراكِب المُستويات، وتبعاً لجُمْلة من المُسَبَّقات التي لا تخلو من سَطوة مُسوِّغاتِها، وأردّ على هذِهِ الاتّهامات عبرَ المَحاوِر الآتية:

(1): تنهَضُ التّهمة الأُولى لأيّ حديثٍ عن العُروبة، ولا سيما في سوريّة، على فكرة القياس على إيديولوجيا الأحزاب "القوميّة الشّوفينيّة". ويتأثَّرُ هذا المَوقِف بالتَّجارِب السِّياسيّة البائِسة لتلكَ الأحزاب التي حكَمَت لعقود، ورفَعَتْ لواء "العُروبة"، ومارَسَ فاعلوها سياسات العُنف والاضطّهاد، مُوظِّفينَ الهُوِيّة القوميّة على نحْوٍ مُغلَق وإقصائيّ، فضلاً عن أنَّ سياساتُهُم لم تكُنْ سلبيّةً تجاه الإثنيّات غير العربيّة فحسب؛ إنَّما استثمروا شعارات العروبة حتّى ضدّ العرب أنفسِهِم لصالِح مكاسبِهِم السُّلطويّة داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً.

ينطوي تاريخنا على الإيجابيّ والسَّلبيّ في الوقت نفسِهِ، وينبغي إعادة قراءَتِهِ بمَوضوعيّة مَعرفيّة علميّة مُتوازِنة وشفّافة، بعيداً عن النَّظرة الشُّوفينيّة، أو النَّظرة الدّونيّة

(2): تنهَضُ التّهمةُ السُّوريّة الثّانيةُ ضدَّ حديث العُروبة على القول بعُقدة الهُوِيّة والشُّعور بالنَّقص، وهيَ تُناقِض شكليّاً التُّهمة الأُولى (القوميّة الشُّوفينيّة)، وتتكامَلُ معها في التَّحليل النَّفسيّ الفرديّ والجمعيّ في آنٍ معاً، وأعتقد، شخصيّاً، أنَّ عمَلي وكتاباتي الدّائِمة كانَتْ تُؤكِّدُ عُمق انتمائي للعُروبة (الثَّقافيّة/ الحضاريّة)، وعُمق وعيي وثقتي بالحضارات العربيّة القديمة، واحترامي البالِغ للحضارة العربيّة/ الإسلاميّة خارج ثنائيّة (التَّقديس - التَّحطيم والشَّيطنة). لهذا ففي الوقت نفسِهِ، أرى أنَّنا بوصفِنا (عرباً)، مثلنا مثل كُلّ الشُّعوب في العالَم، ينطوي تاريخنا على الإيجابيّ والسَّلبيّ في الوقت نفسِهِ، وينبغي إعادة قراءَتِهِ بمَوضوعيّة مَعرفيّة علميّة مُتوازِنة وشفّافة، بعيداً عن النَّظرة الشُّوفينيّة، أو النَّظرة الدّونيّة. ومن جهتي اشتغلْتُ على ذاتي (ثقافيّاً ونفسيّاً) سنواتٍ طويلة بحيث بتُّ أتعامَلَ مع الغرب والغربيّ (أو مع أيِّ إنسان في العالَم) بندّية حقيقيّة خارج أي شوفينيّة مُتعالية، أو شُعور بالنَّقص، فعندي حضارتي الكبيرة والضّارِبة في القدَم، والتي أعتزُّ بها، وأعدُّ نفسي شريكاً أساسيّاً بكُلّ مَعنى الكلمة في تأسيس الحضارة المُعاصِرة، مع ضرورة مُمارَسة النَّقد الجادّ لماضينا، فهذا لا يُناقِضُ ذاكَ، على العكس من مُعظَم أجيال القرن الماضي الذينَ انقسَموا إلى قسميْن مُتطرِّفيْن شديدَي العُنصريّة:

(أ): تيّار (قوميّ) رومنسيّ شوفينيّ عُنصريّ، يُقدِّس الماضي والعُروبة إلى حُدود إقصاء الآخَر، من دون توازن مَعرفيّ وثقافيّ، ومن دون بَرامِجَ سياسيّة واجتماعيّة أصيلة لبناء الكيان العربيّ، أو على الأقلّ الكيان الوطنيّ.

(ب): تيّار مُعادٍ للعُروبة على نحْوٍ مرَضيّ عُنصريّ مُتأثِّر بالنَّزعات الشُّعوبيّة، وبكتُب المُستشرقين وسُمومِهِم المَدروسة، وهو تيّارٌ فاقِدٌ الثِّقة بتاريخِهِ وهُوِيَّتِهِ وماضيهِ وحاضرِهِ، ويقتلُهُ الشُّعور بأزمة الهُوِيّة والنَّقص، ويظهَرُ هذا التَّيّار بجلاء عندَ أصحاب النَّزعات الانعزاليّة أفراداً وجَماعات.

(3): تحدَّثْتُ مراراً وتكراراً، وكتبْتُ أكثر من مَقالة ودراسة، وشرَحْتُ مَفهومي بخصوص (الهُوِيّة الثَّقافيّة المَفتوحة)، في الدَّلالة المَعرفيّة، و(الهُوِيّة الدّيمقراطيّة التَّعدُّديّة الجامِعة) في الدَّلالة السّياسيّة، وباتَ أصدقائي وصديقاتي من أصحاب العقل المُستنير والنِّيّة الصّافية، يعرفونَ وجهةَ نظَريّ الواضِحة والصَّريحة في هذا الأمر، فالعروبة هيَ (وعاء ثقافيّ/ حضاريّ) مُتحرِّك ومَفتوح على الحاضِر والمُستقبَل والتَّحوُّل وقابليّة التَّطوُّر والإغناء والتَّغيير، وهيَ فَضاء تعدُّديّ تفاعُليّ لا ينهَضُ على المُطابَقة الأُحاديّة الميتافيزيقيّة المُغلَقة والنِّهائيّة والإقصائيّة؛ إنَّما ينهَضُ على الاحتفاء بالنَّقد والتَّأويل والتَّجدُّد والتَّباعُد والاختلاف.

العروبة هيَ (وعاء ثقافيّ/ حضاريّ) مُتحرِّك ومَفتوح على الحاضِر والمُستقبَل والتَّحوُّل وقابليّة التَّطوُّر والإغناء والتَّغيير، وهيَ فَضاء تعدُّديّ تفاعُليّ لا ينهَضُ على المُطابَقة الأُحاديّة الميتافيزيقيّة المُغلَقة والنِّهائيّة والإقصائيّة؛ إنَّما ينهَضُ على الاحتفاء بالنَّقد والتَّأويل والتَّجدُّد والتَّباعُد والاختلاف.

(4): ولهذا أستطيع أنْ أقول إنَّ الذّات مُتعدِّية إلى الآخَر، والهُوِيّة تعدُّديّة بالآخَر، وتخليق الهُوِيّة الوطنيّة السُّوريّة، بوصفِ ذلكَ جَبهة من جَبهات العمَل العاجِل التي تُنادينا وتنتظِرُنا، لا تتناقَضُ مع الهُوِيّة العربيّة أو الكرديّة أو التُّركمانيّة أو... إلخ، ولا حتّى مع الهُويّة الإنسانيّة/ الكونيّة، ولا سيما في عصر ثورة المَعلومات والاتّصالات والرَّقميّات، ولذلكَ ينبغي أنْ نتجاوَز في سوريّة (وفي البلدان العربيّة الأُخرى) ذلكَ التَّفكير الميتافيزيقيّ الثُّنائيّ التَّفاصُليّ والحدِّيّ النِّهائيّ/ المُغلَق: (إمّا/ أو)، نحْو تفكير حيويّ تأويليّ (تكامُليّ وتراكُبيّ) مَفتوح وخلّاق وعمَلانيّ ومُعاصِر؛ إذ ما من شرطٍ مُلزِم باختيار هُوِيّة أُحاديّة، وما من قانون وجوديّ يقول إنَّ الانتماء إلى الهُوِيّة العربيّة أو الانتماء إلى الفَضاء الإنسانيّ الواسِع يتناقض مع الانتماء إلى الوطنيّة السُّوريّة، أو إلى فكرة (المُواطَنة) تحديداً، حيثُ إنَّ فكرة وَحدة الهُوِيّة ونهائيَتِها فكرة باتَ مَشكوكاً بها علميّاً وفلسفيّاً أصلاً، فضلاً عن انزياح مَفهومَي الذّات (الفرديّة والجمعيّة)، والهُويّة، في ضوء انزياح مَفهوم (الزُّمرة الاجتماعيّة) في عصرَي ما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة. 

ثالثاً: حولَ مَسألتَي التَّنوير الدّينيّ، وسياسات الهُوِيّة 

لعلَّ الفَهْم (الثَّقافويّ) الواقِع تحتَ سَطوة هاجِس (الإسلاموفوبيا) كانَ من أكبَر مَساوِئ فَهْم الثَّورة السُّوريّة، ومن أخطَر الحَواجِز التي منعَتِ التَّواصُلَ البنّاءَ معها نظَريّاً وعمَلانيّاً، وأدَّتْ إلى تشييد الرُّؤى والمَواقِف والأسوار العالية التَّلفيقيّة والاختزاليّة ضدَّها، بعيداً عن النَّقد الوطنيّ الأصيل، وقريباً من الغرَق في غرائزيّة الهُوِيّات الأوَّليّة المَوروثة (ما قبلَ الوطنيّة)، والكيديّة القائِمة على الأهواء الضَّيِّقة مع الأسف، فإذا كانت مَسألة (أسلمة الثَّورة) مَسألة ذات أبعاد مَوضوعيّة ووقائعيّة شديدة التَّعقيد والتَّراكُب الجيوسياسيّ الذي يحتاجُ إلى حدٍّ كبير من التَّفكيك المُتعمِّق والمُتمعِّن في حركيّة الأحداث داخليّاً وخارجيّاً، فإنَّ الاقتصار على تفسير تلكَ الأحداث عبرَ هذا البُعد (الإسلامويّ) هو قُصور مَعرفيّ قد لا يكون بريئاً في كثير من الأحيان.

لكنَّ الذي يهمُّني أنْ أقولَهُ في هذا السِّياق، يكمنُ في أنَّ قضيّة (التَّنوير الدّينيّ/ الإسلاميّ) بما هيَ قضيّة مُلحّة وعاجِلة، ولا يُمكنُ القفز فوقَها بوصفِها جَبهة عمَل نُهضويّ ضروريّ من ضمن الجَبهات التي تنتظِرُ اشتغالَنا الوطنيّ عليها، تستدعي، كما أظهَرَتْ لي على الأقلّ سنوات الثَّورة الماضية، تنويراً مُوازياً ومُتقاطِعاً في الوقت نفسِهِ، أميلُ إلى أنْ أدعوهُ (التَّنوير العلمانيّ)؛ حيثُ أرى أنَّنا سقطنا في إشكاليّة تُمثِّلُ وجهَيْ عملة واحدة، وهيَ إشكاليّة (الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا)، ولعَمري إنَّ وضع الإسلام بوصفِهِ نقيضاً للعلمانيّة، أو وضع العلمانيّة بوصفِها نقيضاً للدّين، هو أمرٌ في غاية التبسيط والتَّسطيح والتَّهافت المَعرفيّ، وهو أيضاً استقالة حقيقيّة من مَسؤوليّة العمَل على جَبهة التَّنوير؛ إذ إنَّ العلمانيّة (كما كرَّرْتُ في غير مَوضِع) هيَ مَنظومة مُؤسَّساتيّة تضمَنُ حياديّة الدَّولة، ولا تُقصِي الأديان، ونقطة الالتقاء الخلّاقة بينهُما (أي بينَ الدّين والعلمانيّة) تكمنُ في بناء المَفاهيم الوطنيّة الدّيمقراطيّة التَّعدُّديّة، ولكَمْ أتمنّى أنْ يأتيَ ذلكَ اليوم الذي أجِدُ فيه أحزاباً سياسيّة علمانيّة سوريّة وعربيّة ذات خلفيّة ثقافيّة/ دينيّة كالأحزاب المسيحيّة في الغرب، مع ضرورة التَّأكيد أنَّ التَّنوير الدّيني الإسلاميّ يبقى قاصِراً إنْ اكتفى بتفكيك البِنية الأكثريّة ونقدِها، وتجاهَلَ ضرورة تفكيك بِنى الأقلِّيّات الطّائفيّة الإسلاميّة ونقدِها في الوقت نفسِهِ.

 سقطنا في إشكاليّة تُمثِّلُ وجهَيْ عملة واحدة، وهيَ إشكاليّة (الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا)، وإنَّ وضع الإسلام بوصفِهِ نقيضاً للعلمانيّة، أو وضع العلمانيّة بوصفِها نقيضاً للدّين، هو أمرٌ في غاية التبسيط والتَّسطيح والتَّهافت المَعرفيّ، وهو أيضاً استقالة حقيقيّة من مَسؤوليّة العمَل على جَبهة التَّنوير

إنَّ معركة التَّنويرَيْن (الدّيني والعلمانيّ) تُؤكِّدُ أنَّ التَّشظّي (الطّائفيّ/ الإثنيّ) لسوريّة ولبلدان سايكس بيكو والوطن العربيّ بعدَ ثورات الرَّبيع العربيّ، لا يعني الاستسلام لِـ (سياسات الهُوِيّة المَشبوهة) والقائِلة بإقامة دول ذات دساتير تقوم على المُحاصَصة الطّائفيّة والإثنيّة كما في العراق ولبنان، فهذا التَّشظِّي لم يكُنْ وليد لحظتِهِ، وهوَ يُثبِتُ إخفاق سياسات (سُلطات الدُّول القطريّة)، لا إخفاق المَشاريع الوطنيّة العابرة للطَّوائف والإثنيات، كما يُظهِرُ مَدى الحاجة إلى تأسيس العقد الوطنيّ الجامِع، والذي، في اعتقادي، يحتاجُ إلى مُخيِّلة خصبة سوريّاً وعربيّاً، تنطلق أوَّلاً، وقبلَ أيِّ شِعارٍ آخَر، من جَبهات العمَل الوطنيّ في كُلّ بلد عربيّ من حيث المبدأ، على العكس من الطَّريقة الرّومنسيّة لنخب القرن العشرين، الذينَ افتقدوا إلى المَوضوعيّة التي تنطلِق من المُستويات الوقائعيّة في بلدانِهِم العربيّة ومُشكلاتِها المَحلِّيّة، فهربوا إلى الأمام، ووضعوا العرَبة أمامَ الحصان، وتحدَّثوا عن الوَحدة العربيّة والوَحدة الإسلاميّة، وخضعوا لمُسَبَّقات قُوَّة المُتخيَّل، بغضّ النَّظَر عن صدقيّة هذا المُتخيَّل أم عدم صدقيتِهِ، مُصطدمين مع سياسات كُبرى مُغايِرة لما يسعون إليه (كي لا أقول مُعادِية)، ومُفتقدين للبرامِج العمَلانيّة النَّهضويّة التي تُحلِّلُ المُستوى الوقائعيّ وتفهمُهُ، وتبني مَشروعَها التَّغييريّ خُطوة خُطوة، من دون أنْ يعني كلامي هذا تجاهُل أهمِّيّة الحفاظ على دوائِر الانتماء الثَّقافيّ والحضاريّ العربيّ والإسلاميّ، فضلاً عن مَوضوعة أهمِّيّة المَصالِح الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسِّياسيّة المُجاوِزة للبُعد القطريّ، والتي ينبغي أنْ تبقى في الحُسبان في أيِّ عقدٍ وطنيٍّ جامِع. 

رابعاً: حركيّات الفَضاء الثَّقافيّ والفكريّ 

لا يُمكنُ فصْلُ جَبهات العمَل الثلاث الماضية (التّاريخ والعُروبة والهُوِيّة الوطنيّة والتَّنوير الدّينيّ/ العلمانيّ) عن حركيّة الفَضاء الثَّقافيّ والفكريّ، وأقصدُ بذلكَ أنَّ أحد أهمّ مَيادين فعاليّة الجَبهات السّابقة يكمنُ في الجَبهة الثَّقافيّة/ العلميّة.

ولهذا، لا بُدَّ لنا في سوريّة والوطن العربيّ من إعادة تأسيس البيئة النَّظَريّة وتأهيلِها، لتكونَ قادِرةً على تخديم البيئة الوقائعيّة عمَلانيّاً، ولا سيما عبرَ توظيف المَخزون المَعرفيّ الثَّقافيّ والعلميّ لصالِح مَشروع دولة (المُواطنة) من جانبٍ أوَّل، وإطلاق الطّاقات البشريّة القادِرة على إنجاز هذا التَّوظيف من جانبٍ ثانٍ، والمُراكَمة على هذا المَخزون من جانبٍ ثالث.

جَبهة الفَضاء الثَّقافيّ والفكريّ تبقى مخصيّةً ما دامَتْ جامعاتُنا فاقدةً القُدرة على تخليق أجيال مُبدِعة، وعاجِزَةً عن فتْح باب البَحث العلميّ على مصراعيْه

ما من شكّ أنَّ تجارِب مُؤسَّساتِنا الثَّوريّة في سوريّة لم تكُنْ مُشجِّعة على نحْوٍ كبير، لكنَّ الصُّورة ليسَتْ سوداويّة بالكامِل، حيثُ نلمَحُ بريقَ أمَلٍ كبيرٍ فيما أُنجِز على مُستوى أفراد كثيرين، وحتّى على مُستوى بعض المُؤسَّسات الإعلاميّة والثَّقافيّة (نسبيّاً)، ومن جهتي أجِدُ أنَّ أكبَرَ رأسمالٍ سيعود بالفائِدة الجمّة على سوريّة في الأُفُق المُتوسِّط والبعيد، هو رأسمال اللّاجئين والمُهجَّرين والمُهاجرين الذينَ انتشروا في أنحاء العالَم، وبدأوا منذُ سنوات في تحقيق نجاحات بالِغة في جميع المَجالات.

يبقى الحديثُ عن الجامعات السُّوريّة والعربيّة حديثٌ ذو شُجون، وأنا شخصٌ قضيتُ عشرينَ عاماً من حياتي في أروقة ثلاث جامِعات سوريّة، وخَلِصْتُ إلى أنْ أطلِقَ عليها المُصطلَح المَنحوت الآتي: "الأكادَمَوِيّات السُّوريّة"، وهذا حديث طويل لا إمكانيّة للتَّوسُّع به في هذِهِ العُجالة، لكنَّني أقول باختصار إنَّ جَبهة الفَضاء الثَّقافيّ والفكريّ تبقى مخصيّةً ما دامَتْ جامعاتُنا فاقدةً القُدرة على تخليق أجيال مُبدِعة، وعاجِزَةً عن فتْح باب البَحث العلميّ على مصراعيْه، وإنشاء مراكز بُحوث مُؤسَّساتيّة كبيرة، بدَلاً من أنْ تكون هذِهِ الجامعات مقبرة للمَواهِب، وأقرَب للمَدارِس الكبيرة الشَّبيهة بمَدارِسنا المُخفِقة تعليميّاً وتربويّاً إلى أقصى الحُدود. 

خامساً: الفَضاء السِّياسيّ الحاسِم 

ما من شكٍّ أنَّ الأُسّ التَّغييريّ الجامِع لكُلِّ جَبهات الكفاح السّابقة هوَ الوعاء السِّياسيّ النَّظَريّ والعمَلانيّ، أو لأقُل بمَعنىً أعمَق: إنَّ هذا الوعاء هوَ الذي يُؤدِّي إلى تثمير النِّضال وتطويرِهِ، وهذا لا يعني أفضلية الفَضاء السِّياسيّ على مَحاوِر الجَبهات السّابِقة، كما ذكَرْتُ من قبْل، فجميع مَعارِك التَّنوير والتَّغيير مُتراكِبة ومُتكامِلة، ومنها العمَل السِّياسيّ، لكنْ لنعترِف أنَّ انتزاع القرار الوطنيّ السِّياسيّ/ السِّياديّ سُوريّاً وعربيّاً، هوَ مدخل فعليّ لتوظيف جميع مُخرَجات الكفاح على الجَبهات الأُخرى، من دون أنْ نتجاهل مدى قُدرة العمَل في تلكَ الجَبهات على التَّأثير في المُستوى السِّياسيّ، ولذلكَ لا مناصّ من الحديث عن علاقة جدَليّة نوعاً ما بينَ جميع المَحاوِر النَّهضويّة.

إنَّ سوريّة الآن، وبعيداً عن السُّقوط في الثُّنائيّة الميتافيزيقيّة العقيمة الخاصّة بالسِّجال حولَ انتصار الثَّورة أم إخفاقِها، باتَت واقِعة تحتَ احتلالات مُتعدِّدة، ومن المُؤكَّد أنَّ تدويل الثَّورة السُّوريّة جاء بفعل التَّرابُط البِنيويّ بينَ النِّظام الرَّسميّ العربيّ، والنِّظام الرَّأسماليّ النيوليبراليّ العولميّ، حيثُ يظهَرُ الآن بجلاء حجم صراع إرادات القوى، وحجم التَّجاذبات المُرتبِطة بصدامات النُّفوذ في سوريّة مع الأسف.

غيرَ أنَّ ذلكَ لا يعني نهاية التّاريخ بأيِّ حالٍ من الأحوال، فنحنُ في طور ثوريّ جديد، أو لأقل كيْ أُحرِّرَ تحليلي (جدَليّاً هُنا فقط) من المُصطلَحات الثَّوريّة المُباشَرة، نحنُ أمام جَبهات صراع وعمَل مَفتوحة، والكفاح من أجل انتزاع استقلالِنا وقرارِنا الوطنيّ، وبناء دولتنا الدِّيمقراطيّة التَّعدُّديّة الحُرَّة، هوَ كفاح مُستمرّ، وقد يأخُذُ أشكالاً جديدة ومُغايِرة في الحقبة القادِمة، وقد يتحدَّث البعض عن إمكانيّات كبيرة لعودة النِّضال المدَنيّ السِّلميّ إلى الفَضاء السُّوريّ، مَدعوماً من الخزّان البشريّ السُّوريّ الهائِل في بلدان العالَم، وقد يتحدَّث البعض الآخَر عن بدء حرب تحرير وطنيّة، أو مُقاوَمة شعبيّة رُبَّما بدَأتْ تظهَرُ بعضُ ملامِحِها في غير مَوضِعٍ من سوريّة.

وفي جميع الأحوال، لا أستطيعُ التنبُّؤ بالمُستقبَل حرْفيّاً، لكنْ (على الأقلّ) أستطيعُ الحديث أنَّ زمن التَّحوُّلات الكُبرى وزمن الشُّعوب، هو غير زمن الأفراد، وأنَّ مكر التّاريخ ومُباغتاتِهِ المُتكرِّرة، وإمكانيّات تغيُّر مَوازين القوى على الأرض، وحجم انفتاح فَضاءات الحراك والكفاح والنِّضال على جميع المَحاوِر، يعني أنَّ الصِّراع ما زالَ مُتصاعِداً، وأنَّ إقفال الحالة السُّوريّة والعربيّة من جديد على ما كانَ عليه المَشهد الاستبداديّ المُستغلِق قبل ثورات الرَّبيع العربيّ باتَ من المُستحيلات، فضلاً عن اعتقادي أنَّ الفترة الآتية ستشهَدُ ولادة كيانات سياسيّة وعسكريّة تستفيدُ من أخطاء الماضي، وتمتلِكُ برامِجَ وقائعيّة وأكثَرَ استقلاليّة وتماسُكاً وطنيّاً، ولهذا تبدو جميع جَبهات العمَل التَّحرُّريّ والتَّنويريّ والنَّهضويّ بانتظارِنا على أحرّ من الجَمْرِ، وبالتَّأكيد لنْ تكفَّ تلكَ الجَبهات عن ندائِنا في سوريّة الحبيبة والوطن العربيّ.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد