الروسي في الساحل السوري: لا احتلال ولا من يحزنون! (1)


ضمن ملف يركز على تداعيات التدخل الروسي في سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي في سورية وروسيا، ينشر حكاية ما انحكت بالتعاون مع أوبن ديموكراسي روسيا، المادة الأولى ضمن هذا الملف من مدينة اللاذقية، حيث تقرأ كيف ينظر الناس هناك للوجود الروسي في سورية وما أثر هذا الوجود؟

08 تشرين الثاني 2017

حازم مصطفى (اسم مستعار)

كاتب وصحفي سوري مقيم في اللاذقية

تتنشر هذه المواد ضمن ملف يركز على تداعيات التدخل الروسي في سوريا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي في سورية وروسيا، وهو ينشر بالتعاون مع أوبن ديموكراسي - روسيا.

(اللاذقية)، تقع "بنايات الروس" كما يسميها أهل اللاذقية على أطراف المدينة تقريباً، وهي حيّ صغير مسوّر بجدار مرتفع عدّة أمتار يعود تاريخ بنائه إلى الحقبة السوفياتية حين كان الخبراء العسكريون الروس في الثمانينيات من القرن الماضي يدربون الجنود السوريون على منظومات السلاح السوفياتي، لم يكن يسمح يومها للسوريين بدخول هذا الحي، ولليوم ما زال ممنوعاً عليهم، كما هو ممنوع عليهم دخول القواعد الروسية الجديدة.

منع السوريين من دخول القواعد الروسية إضافة إلى شروط أخرى مجحفة بحقهم، هي جزء من اتفاق موقع مع دمشق نشرته روسيا عبر موقع حكومي ونقلته الواشنطن بوست ثم الصحافة العربية، إلا أنّ هذا الاتفاق لم يغيّر موقف أهل الساحل السوري من الروس، فلا يستعمل غالبية سكانه كلمة "احتلال" لوصف هذا الوجود في ديارهم ولكنهم يستعملونها لوصف وجود قوات التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة فوق بقية أراضي بلادهم.

 علاقات أصدقاء قدامى

الغالبية هنا تفضل التعامل مع الروس "لأنهم أناس حضاريين" وفق تعبير المحامي عصام (52 عاماً)، إذ يقول: "علاقتنا كشعب مع الروس قديمة، ولكنها توثقت أكثر بعد استلام حزب البعث السلطة في البلاد عام 1963، وزادت أكثر بعد الموافقة السوفياتية وقتها على بناء سد الفرات بدل المماطلة الألمانية والفرنسية لعقود دون فائدة، وتعرفنا على الروس أكثر فأكثر بعد الموقف الروسي الشجاع من القضية السورية  بعد 2015 الذي منع انهيار دولتنا أمام جحافل المرتزقة والإرهابيين".

يذهب المحامي ذي التوجهات القومية السورية إلى أنّ للروس يد بيضاء على الوضع السوري الحالي أكثر من الإيرانيين الذين يصبغون عملهم بالصبغة الدينية "الجهادية" رغم ادعائهم محاربة الإرهاب، هذا صحيح شكلاً ومختلف مضموناً عمّا يفعله الروس الذين لا يحملون أجندة دينية، بالتأكيد لديهم مصالحهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية "ولكنها كلها مضبوطة ضمن علاقتهم مع الدولة السورية بشكل واضح عبر اتفاقيات دولية".

تعرّف الرجل على العديد من الجنود الروس في شوارع مدينة اللاذقية فوجدهم "أناس طيبين يتعاملون بصدق مع الناس" فهم "موضع ترحيب من الناس ويمشون دون حماية مباشرة في غالبية المناطق التي يرتادونها في البلد مثل الشيخ ضاهر والزراعة والكورنيش الجنوبي" (مناطق موالاة كلها) وحتى في الصليبة (إحدى مناطق التظاهرات سابقاً في المدينة) لا أحد تعرض لهم ولو بكلمة".

للروس في سوريا وليس في الساحل فقط امتيازات لا ينالها أفراد القوات السورية المقاتلة، فهم حسب بنود الاتفاقية الموقعة مع دمشق "يتمتعون بحصانة كاملة وامتيازات مطابقة لما يمنح عادةً لممثلي البعثات الدبلوماسية وأفراد عائلاتهم وفقا لمعاهدة فيينا حول العلاقات الدبلوماسية الموقعة في 18 إبريل/نيسان 1961"، كما أنّ الحكومة السورية تتعهد، بموجب الاتفاقية، بألا تتقدم "بأي شكاوى أو مطالبات ضد روسيا الاتحادية أو المجموعات الجوية الروسية أو أفراد وحداتها ولا تقيم أي ملاحقات تتعلق بنشاط المجموعات الجوية أو طواقم أفرادها"، وذلك تحسباً لمطالبة أي حكومة في المستقبل بملاحقتهم عن جرائم حرب في سوريا.

سيّاح شقر فوق العادة

بالفعل، لا يندر أن يشاهد سكان اللاذقية (وطرطوس أيضاً) عدداً من الجنود الروس يتبضعون في قلب المدينة التجاري، حي الشيخ ضاهر، وبالعادة يتنقلون على شكل ثنائيات أو ثلاثيات ومن النادر تواجدهم كجماعات كبيرة، الأمر الذي يحدث فقط حين تحط سفينة روسية رحالها في ميناء اللاذقية، ولا يقتصر الأمر على الجنود الذكور، وهم الغالبية، فهناك عدد قليل من النساء المتزوجات يقمن بتفقد أحدث محلات الموضة والأزياء التي تحتل كبرى المناطق الراقية في المدينة (مثل حي الأميركان، حيث سكنت أول بعثة تبشيرية أمريكية نهاية القرن التاسع عشر)، ولا تشكل الأسعار المرتفعة بالنسبة للسوريين مشكلة أمام "الزوار الروس" حسب رأي صاحب وكالة رجالية كبرى للأزياء: "فهم يقبضون رواتبهم بالدولار"، وفق قوله.

يقول جورج (52 عاماً، تاجر): "نحن نقبض منهم بالدولار ومن النوادر استخدام الروبل في التعامل، ورغم كونهم (عساكر) إلا أنهم يشترون الأزياء المدنية ليرتدوها خارج دوامهم الرسمي في قاعدة حميميم (1كم عن مدينة جبلة حيث القاعدة الروسية الأكبر في المتوسط)، كما قال لي أحد الضباط الروس، غير أنه غير مسموح لهم الخروج بها خارج القاعدة".

برأي الرجل، فإن الروس ليسوا قوة احتلال، فهم "يحترمون تقاليدنا وعاداتنا"، وحتى أنهم "لا يحملون معهم سلاحاً عندما ينزلون إلى المدينة، ولا يشربون الكحول في الشوارع.. هذا ليس احتلالاً ناعماً، فعلاقتنا مع الروس تاريخية وهم حضروا بناء على طلب رسمي من الحكومة لإنقاذ البلاد، ومنهم من استشهد دفاعاً عن أرضنا".

حتى اليوم لم تنشأ علاقات شخصية مباشرة بين الجند الروس والسوريين/ السوريات مشابهة لحالات الزواج التي كانت أيام الاتحاد السوفياتي وهذه الحالات ليست قليلة الانتشار إذ توجد في المدينة وفي ريفها نسبة من الروسيات المتزوجات من سوريين نالوا شهاداتهم العليا من روسيا وعادوا ليؤسسوا عائلات هنا.

بروز قطاعات اقتصادية جديدة

فتحت مؤخراً العديد من النشاطات التجارية الروسية في الساحل ليس عبر العسكر بل عبر التجار الذين وجدوها فرصة لبناء علاقات اقتصادية بدأت باستيراد الأحذية السورية "التي تتفوّق على المنتجات الصينية لناحية السعر والجودة" كما يقول "محمد ابراهيم" (46 عاماً/ اسم مستعار) منتج لأحذية يصدرها إلى شركة "ZENDEN"  الروسية التي تبيع تلك الأحذية بأسعار تتراوح بين 15-20 دولار للحذاء الواحد علماً أن تكاليف صناعة الأحذية السورية أقل من غيرها بسبب انخفاض أجور اليد العاملة التي تعتمد في جزء منها على المهجرين والنساء بالدرجة الأولى.

تعرّف إبراهيم على التجار عبر مستثمرين روس زاروا اللاذقية وطرطوس في العام الماضي والذي قبله، نافياً وجود أيّة امتيازات تجارية له في عمله: "ندفع التكاليف الجمركية كغيرنا، ولكن هناك عقبات ترتبط بالعقوبات الاقتصادية على البلد ويضطر المستورد إلى نقلها براً عبر العراق وإيران وأذربيجان بدل الشحن المباشر إلى هناك".

إلى جوار التصدير غزت المنتجات الروسية المستوردة من قبل الحكومة أسواق المدينة، وبأسعار منافسة لكنها لم تسجل رواجاً (مثل المعلبات) بسبب نوعيتها السيئة كما يبدو. يقول محمد (35 عاماً، تاجر جملة)، الأكثر مبيعاً من هذه المنتجات هو المواد الكحولية التي ترتبط ذاكرة جودتها بالحقبة السوفياتية.

تشكل المنتوجات والوجبات السورية الشهيرة (مثل الشاورما على الفحم، الفلافل) إضافة إلى المشروبات الكحولية والتبغ الجزء الأكبر من مشتريات الجند الروس من محلات المدينة، فقد أعاد تجار المدينة وأصحاب مطاعمها ترتيب بضائعهم ليضعوا (السميرانوف) وغيرها من أنواع الفودكا الروسية على واجهات محلاتهم وعلى مقدمة قوائم الطعام لديهم. يقول صاحب أحد المطاعم، محمد، (50عاماً) على طريق جبلة ـ اللاذقية إلى أنه يستقبل أسبوعياً عدداً من الضباط والجند الروس على مائدة الغداء وسط زبائنه من المحليين المرحبين بوجودهم، يضيف: "بدأ الروس في الأوقات الأخيرة يطلبون العرق البلدي بعد أن تذوقوه على سبيل الضيافة منا".

وخارج الاقتصاد، فإن اللغة الروسية (السابعة حول العالم من حيث ترتيب الناطقين بها) لم تعد لغةً غريبة في تعاملات المجتمع الساحلي، فقد بدأت تجربة تعليمها في المدارس الرسمية بدءاً من اللاذقية العام 2014 من الصف السابع كلغة اختيارية إلى جوار الفرنسية، ويلاقي أساتذتها طلباً متصاعداً، كما أنّ المعاهد التعليمية الخاصة أعادتها إلى الواجهة بأسعار تتراوح للكورس التعليمي (2-3 شهور) بين 30 ـ 50 دولار.

صمت المعارضين الإجباري

على طول الطريق الدولية بين طرطوس واللاذقية، وداخل المدن، وعلى مداخل بعض القرى كما على واجهات المحلات والسيارات، تتوضع صور الرئيس بوتين إلى جوار صور الرئيس بشار أو حسن نصر الله (أمين عام حزب الله) وأحياناً إلى جوار صورة لماهر الأسد (شقيق الرئيس).

 تقول ديما الطالبة الجامعية (21 عاماً) من قرية حميميم: "لم نكن مرتاحين لصوت الطائرات الروسية وهي تقلع من المطار كل خمس دقائق بسبب الإزعاج الكبير لصوتها، إلا أننا تعودنا عليها مجبرين ولا يمكنك بالتأكيد الاحتجاج، خاصةً وأن المطار نفسه توسع ومنعنا من الاقتراب من المطار".

لا توجد أصوات معارضة للوجود الروسي هنا بشكل علني، ومن كان معارضاً يكتفي بالصمت والاحتجاج الفيسبوكي تحت اسم غير حقيقي غالباً، يعتبر هؤلاء القلّة أن الروس (والإيرانيين وحزب الله) قوة احتلال، ويعتبرون التدخل الروسي جاء ليخدم بقاء النظام فقط، وينقسم الموقف من القوات الأخرى (التحالف الدولي بشكل رئيسي) إلى من يعتبره احتلالاً وإلى من يذهب إلى أنه "يساعد الشعب السوري بوجه النظام وحلفائه" كما قال أحمد (35 عاماً، والاسم مستعار) صاحب محل لبيع الفلافل في منطقة الصليبة (وسط البلد).

من هم الجنود الروس في سوريا؟

مع الإعلان الرسمي الروسي عن المشاركة المباشرة في الحرب السورية في آب 2015 انبرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لاعتبار هذه الحرب مقدسة ومباركة الجنود الروس المشاركين فيها، وهو الأمر الذي أشعل العالم الإسلامي ضدها، وخاصة أن هناك من ربط التصريح بأقوال وأفعال الكنيسة زمن الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي.

تضم روسيا 20 مليون مسلم على أراضيها (أكثرهم في جمهوريتا تترستان، وداغستان والشيشان) ويشارك عناصر إسلامية شيشانية مقاتلة في صفوف المعارضة المسلحة السورية منذ وقت مبكر لاندلاع النزاع، وهو من أسباب التدخل الروسي الرسمية إضافة إلى وجود حوالي 5000 إلى 7000 مقاتل في صفوف داعش من روسيا وجمهورياتها السابقة وفقاً لتصريحات فلاديمير بوتين.

أرسلت روسيا في بداية عام 2017 كتيبتين حملتا اسم (الغرب، الشرق) تضمان عدداً كبيراً من العناصر والضباط الشيشان الموالين لروسيا لحماية مطار حميميم من أي اختراق عسكري أو أمني وسبق أن عملتا ضمن ظروف مشابهة للمناطق المحيطة بالمطار، والكتيبتان (كما ذكر موقع روسيا اليوم) لهما "باع طويل في القتال" ومن "أفضل المقاتلين" وفقاً للرئيس الشيشاني رمضان قديروف.

لا يختلط جنود هذه الوحدات ذوي الملامح الشيشانية المعروفة بالمجتمع اللاذقاني أو الساحلي عموماً، وهذه ملاحظة ميدانية، وعلى ما يبدو أن طبيعة مهامهم تقتضي عدم الاقتراب من المدنيين هنا، أو أن هناك توجيهات بعدم اقترابهم تفادياً لأية حساسيات طائفية قد تحدث، خلافاً لوجودهم في مناطق أخرى مثل مناطق خفض التوتر ومشاركتهم في قوات الشرطة العسكرية ولجان المصالحات في إدلب والغوطة، حيث يتعاملون مع السوريين هناك وهو الأمر الذي أكده صحفي سوري يعمل مراسلاً لمحطة تلفزيونية محلية لنا.

من الصعب تحديد الجذور العرقية للجنود الروس النظاميين المقاتلين على الأرض السورية في الساحل السوري، ويوضح احتفال الجنود بعيد الفصح انتماء بعضهم الديني المسيحي، مع العلم أن الطوائف المسيحية الشرقية (الروس منها) والغربية احتفلت بالعيد سوية في عام 2017.

وبغض النظر عن انتماء الروس العرقي والديني، يتشارك السوريون في جزء كبير منهم برفض تسمية القوات الأجنبية الموجودة على أرضهم بالاحتلال، وكل منهم يتمترس وراء موقفه الأساسي مما يجري في البلاد، فهل تغيرت علاقة الشعوب مع محتليها إلى هذه الدرجة من انهيار منظومة القيم الوطنية وتحولها إلى انتماءات سابقة على الهوية الوطنية؟ هل نجح الصراع السوري  في تفكيك كل ارتباط بالسيادة الوطنية؟

 أسئلة نتركها لقادم الأيام.

(الصورة الرئيسية: ملصق من تصميم "كوميك لأجل سورية"، وهي صمّمت خصيصا لهذه المادة/ الحقوق محفوظة لحكاية ما انحكت)

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد