الشعب يريد ثورة من جديد


23 أيار 2017

كفاح علي ديب

فنانة تشكيلية وكاتبة من مواليد 1982. تقيم حاليا في برلين. حازت على جائزة الشارقة للإبداع العربي (أدب الطفل) عن مجموعتها "نزهة السلحفاة (2012)، تكتب وتنشر في عدد من الصحف العربية والألمانية. تعمل مديرة تحرير موقع (handbookgermany)، وسبق لها أن نشطت في صفوف هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي واعتقلت عدة مرات بسبب نشاطها السياسي.

بلغ عمر ذاكرتي خمسة وثلاثين عاماً، أربع سنوات قضيتها خارج سورية، بينها ثلاث في ألمانيا،  التي لا أزال فيها حتى اليوم.

تبدو لي ذاكرتي اليوم وكأنها ممتدة منذ الأزل، تكدّست فيها إحدى وثلاثون سنة تغصّ بيوميات وأحداث هائلة جرت في سورية، سيلزمني، في مكان إقامتي الحالي هنا في ألمانيا، ثلاثة أضعاف تلك السنوات لتكوين ذاكرة أخرى تعادلها.

قد يبدو الأمر مبالغاَ فيه، ولكنّها الحقيقة بالنسبة لي، فهناك جُبلتُ وتكوّنت ونحتت شخصيتي واكتملت، أؤمن أنّ نحت الشخصية يكتمل في الخامسة والثلاثين، وما ينضاف إليها بعد ذلك، ليس سوى "أكسسوارات" يضفي بعضها جمالاً وهيبة ما، لكنها لن تغيّر في تكوينها، وبعضها الآخر، قد نكتشف لاحقاً عدم لياقته، فنعمل على كشطه وإزالته. فأنا أنتمي إلى جيل في سورية كان لا بدّ له أن يصنع ثوراته الاجتماعية والسياسية، فيكشط العادات والتقاليد البائسة ويزيلها، تلك التي كرّسها الاستبداد خدمة لديمومته. جيل عليه أن يتحمّل عواقب ثوراته، وأن يتعلّم، تحت سوط الجلاد، أنّ الطريق إلى الحرية وعِر وموجع، ولكن لا بدّ أن يضيء الحب بعض مفارقه! وقد يفضي إلى حرب لا يد لنا فيها.

في عام 2011 بدأت موجة "الربيع العربي" وكنت ما أزال طالبة، أتذكر جيداً كلّ ذلك الأمل الذي اجتاحني مع شريحة كبيرة من الشباب الذين أعرفهم. حينها، فكرت بكلّ إيمان أنّ حلمي القديم بالسفر خارج سورية سأنساه، ولن أغادر سوريا أبداً، إذا ما بدأ التغيير فيها، وإذا كان هناك أمل بالخلاص من الاستبداد والحصول على بعض الحريّات والحقوق الاجتماعية.

ولتحقيق هذا الحلم، خرجت كغيري من الشباب السوريّ إلى الشوارع، ننشد ثورة سلمية، فعرفت معنى الحرية التي لم أشعر بها في يوم من الأيام، إلّا في تلك الشوارع حين كنت مع آلاف الشباب نصرخ بملء الحناجر: "الشعب يريد..."!

أتذكر أول مظاهرة حاشدة شاركت بها في ريف دمشق، وحين بدأ الجميع بالهتاف: حرية، ثم صرخ أحد الشباب: "الشعب يريد إسقاط النظام"، ردّد الحشد خلفه: "الشعب يريد إسقاط النظام".

أمّا أنا فكنت أفتح فمي وأغلقه دون أن يخرج الصوت من حنجرتي، زفرت مرّات وأخذت نفساً عميقاً مرّات، خفق قلبي بشدّة، بينما كان الحشد يكرّر الهتاف ولا تصل إلى أذني إلا كلمتي (الشعب يريد) ولكن لا صوت لي، بلّل الدمع وجهي، وحين ذقت ملح عيني، مسحت وجهي بكم قميصي وأنا أتمتم، قبل أن يعلو صوتي ليصل السماء: الشعب يريد، الشعب يريد.

في تلك اللحظة زفرت القهر والخوف المخزّن منذ ولدت، يومها عرفت معنى أن يُكسر حاجز الخوف، معنى أن تكون حرّاً، حتى وإن طوّقتك مئات من عناصر الأمن المستعدّة للهجوم عليك في أي لحظة.

(لوحة للفنانة كفاح علي ديب. اللوحة تستخدم بإذن خاص من الفنانة)

حريّة! سلميّة! هتفنا بهاتين الكلمتين ملء حناجرنا، أشهر، لكن النظام والعالم كانوا قد أصمّوا آذانهم، ولم يقبل الاستبداد وجود سلميّين يطالبون بالحرية، فواجهنا بالنار والاعتقال والتهجير. وفي تلك الأثناء، العالم لم يحرّك ساكناً، كان يتفرّج على تزايد موتنا واعتقالنا وتهجيرنا. وعلى استحياء كانت تخرج بعض تصريحات سياسيّة، لا هي تدين النظام ولا هي تنصف المتظاهرين.

نعم، الشعب يريد. لكن ما أراده الاستبداد شيء مختلف، وما أرادته حكومات العالم شيء آخر، بل أشياء. إنّما إراداتهم لم ولن تشبه يوماً ما يريده الشعب، والثورة هي أن نستمر، نحن الشعب، في المطالبة بنيل ما نريد، بأدواتنا التي لم يكن للاستبداد دور في صناعتها.

في الثورة عرفت الحب، فأصبح بالنسبة لي هو الحين (الزمن) الذي تجد فيه من يحميك من طلقة قناص، لتحيا أنت في حين تهمد جثّته فوقك، وتتمدّد في ذاكرتك إلى الأبد. الحب هو الحين الذي تجد فيه من يحمل عنك تُهمَك الملفّقة أصلاً، ويقبع مكانك في السجن، وعنك يتحمّل سوط الجلاد لسنوات زادت عن الخمس، لتبقى أنت حرّاً تنعم بشجاعته ومروءته.

ثم جاءت الحرب، حين اتفق أنذال الأرض جميعاً مع المستبد ضدنا، فاغتصبوا الثورة والحب، وحوّلوا إرادة الشعب إلى ذريعة، لتأبيد إراداتهم الدنيئة.

اليوم، وبعد ما يقارب الست سنوات من انطلاقة صرختنا (الشعب يريد)، وآلاف الهتافات التي ردّدتها دون خوف، في عدد لا أستطيع إحصاءه من المظاهرات، وبعد العمل في الحقل السياسي دون انقطاع طوال هذه المدة، بعد أن عرفت طعم الاعتقال، وبعد أن خرجت من سورية مُكرهة وتجرّعت قهر أن تحمل هوية لاجئ، بعد أن تابعت ما حدث ويحدث كلّ يوم، بتّ أعرف جيداً معنى الثورة أكثر، والثورة المضادة، وبتّ أعرف معنى أن يستطيع الاستبداد أن يفرز ما يشبهه في كلّ شيء، ومعنى أن يسمّي البعض دمار البلد ثورة، لأنّ هذا الدمار مكسب لهم، ولأنّ أرواح القتلى ما هي إلاّ وقود لأطماعهم.

خمس سنوات، ليست مدة قصيرة في عمر الإنسان، فلو راجع كلّ فرد حول العالم حياته خلال السنوات الخمس الماضية وما أنجزه خلالها، لا بدّ سيجد الكثير ليقف عنده، من نجاح أو فشل، من تشكيل عائلة وفرح بنجاح أبنائه، عطل ورحلات، وأفراح وأتراح وهذا أمر طبيعي، فهذا ما يجب أن تكون عليه حياة البشر. وربّما من أجل هذه الحياة الآمنة تتواطأ الشعوب مع قرارات حكوماتها المتعلّقة بالسياسة الخارجية، بشرط أن لا تزجها هذه القرارات في صراعات تؤثر على توازن حياتهم اليومية.

أمّا إن راجع السوريون سنواتهم الخمس، فلن يجدوا فيها سوى تكرار عبثي لدورة الموت، لا إنجاز لهم فيها سوى محاولاتٍ (قد تنجح أو تفشل) لإنقاذ أبنائهم وتهريبهم إلى ما وراء البحر، حتى لو كان في الطريق إلى النجاة موتٌ متوّقع، أو لحماية من نجى من أطفالهم داخل البلد، حتى لو ترتب على ذلك عدم الذهاب إلى المدرسة. صار عالمنا، في أحسن الأحوال، موعوداً بأكثر من خمسة ملايين طفل نتاج حرب.

اليوم أعرف أنّنا بحاجة لعشرات الثورات، لنستعيد ثورتنا التي كسرنا بها حاجز الخوف منذ ما يقارب الست سنوات، بهتاف مختلف: الشعب يريد ثورة من جديد.

(الصورة الرئيسية: لوحة للفنانة كفاح علي ديب. الصورة بإذن خاص من الفنانة)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد