العلم الوطني بين السيادة والإقصاء (9)


18 تموز 2016

عبد الباسط فهد

كاتب سوري

مع ارتفاع وتيرة أصوات السوريين المطالبين بالحرية مطلع ربيع 2011 ثم انتقالهم للمطالبة بإسقاط النظام، بدأت معركة الاتهامات للمتظاهرين بالعمالة أحيانا، والمؤامرة الكونية في أحيان أخرى.

وبعد قيام الفريقين من أنصار النظام والمعارضة بالتظاهر المتزامن، صارت الحاجة ماسة لتمييز كل فريق على حدة، فبدت الحاجة ماسة إلى العلم، فكان الاختيار لعلم الاستقلال كرمز وشعار لتظاهرات المعارضة ونشاطاتهم.

وبدأت حرب التخوين، وفق أجندات خارجية، وحتى يثبت أنصار النظام دعواهم، اعتبروا أنّ المعارضة تحمل علم الاحتلال الفرنسي، وطبيعي أن يرد هؤلاء، أنّه علم الاستقلال.

اليوم، وقد تتالت الأحداث وتسارعت وبات الحديث عن التقسيم حينا،  والفيدرالية في أحيان أخرى واقعا بنظر البعض، صار للعلم مدلولاته الهامة في الإشارة إلى القوى الفاعلة على الأرض، حتى امتلأت الساحات بأعلام كان مجرد التفكير بها كفرا كبيرا.

للأكراد علَمَهم الذي يحمله كلّ مكوناتهم في البلدان الأربعة المتجاورة،   كما وانتشرت الرايات السود والبيض والخضراء، كما كان بعض المندسين داخل المظاهرات، لا يتورعون عن حمل أعلام لدول إقليمية فاعلة على الأرض رغم رفض الكثيرين لهذا الفعل.

في الاحتفالات الرسمية سابقا، كنت ترى العلم العربي الشبيه بعلم فلسطين إلى جانب العلم الوطني، ويطلقون عليه علم البعث.

اللافت، أن العلم العربي أو علم الجامعة العربية لم يلقى أي اهتمام، ولم يكن يوما إلى جانب العلم الوطني في أي بلد عربي باستثناء المناسبات التي ترعاها الجامعة العربية.

بينما مثلا، في بلدان الشينغن الأوروبية، فإن أوّل ما تراه على نقاط الحدود، هو العلم الأوروبي، واسم البلد التي تدخلها، وفي المحافل الرسمية يتجاور العلمان الأوروبي والوطني بشكل دائم.

في الحالة السورية، سيكون وجود علم وطني يخفق في كل المحافل، وعلى ساريات الدوائر الحكومية، وفي المؤتمرات ضرورة ملِّحة من أجل الدلالة على هوية الدولة والحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها. وهنا يبرز سؤال: هل يمكن أن يكون هنالك أعلام أخرى لمكونات من السوريين  تُرفع إلى جانب العلم الوطني؟

الأصل أن العلم الوطني لايجوز أن يزاحمه أي علم داخلي، لكن ماذا عن الحالة الفيدرالية أو المكونات العرقية والديموغرافية كما في الحالة الكردية؟

تتطلب الإجابة الدقيقة على هذا السؤال، انتهاء الأزمة السورية، وعودة المؤسسات وسيطرة الدولة على مقدراتها وعودة سيادتها على كامل الأراضي السورية، ومع ذلك فإنّ تجارب مثل الاتحاد السويسري والإسباني والأمريكي  قامت على استئثار العلم الوطني، على كافة مفاصل البلاد، ويمكن للعلم الخاص الذي يمثل إحدى الولايات أن يكون إلى جانبه بحجم أصغر وسارية أقصر.

وبكل الأحوال، لا يمكن أن يكون أكثر من علم وطني رسمي، ويجوز أن يرتفع العلم المحلي الخاص بولاية في المناسبات التي تخص هذه الولاية، لكن إلى جانب العلم الوطني.

وبمناسبة الحديث عن العلم الوطني والأعلام، لدينا مشكلة قد لا تكون أقل أهمية من العلم، هي مسألة اللغات المختلفة التي تمثل جزءا من ثقافة الأعراق والقوميات المختلفة في سورية، وفي هذه الحالة لجأت بعض الدول منها المغاربية إلى اعتبار لغة البربر هي اللغة الثانية إلى جانب اللغة الرسمية (العربية)، وكذلك في الحالة الكردية أو الأرمنية والآشورية، حيث يمكن اعتبار لغات هذه المكونات، بمثابة لغة ثانية في المناطق التي تتمتع بحكم ذاتي أو مكون ديمغرافي كبير.

يبقى لشكل الدولة ونظام الحكم القادم إيجاد الصيغة المناسبة لموضوعة العلم الوطني، واللغات المختلفة عن اللغة الرسمية.

المشكلة تكمن حين تكثر اللغات وتتعدد، ولشاعر داغستان المعروف، رسول حمزاتوف، قول طريف هنا، إذ قال عن بلده، التي تتعدد فيها اللغات إلى حد كبير: "إنّ الملاك المسؤول عن توزيع اللغات على الشعوب حين وصل إلى داغستان ومناطقها الجبلية الوعرة، كان يحمل اللغات معه في خرج على  دابَّة، وفجأة تعثرت الدابة ووقع الخرج على الأرض، وتناثرت اللغات والكلمات فكانت لكل حي لغته، وأحيانا للحي الواحد أكثر من لغة". طبعا هذه الحادثة أعيد ذكرها فقط، لتخفيف آثار الأشواك من هذا الموضوع الشائك والمرعب كحقل ألغام، ولإدخال جو من الدعابة يعيد التوازن إلى الأرواح المتعبة.

يبقى وجود دولة مدنية، ودولة مواطنة علمانية، يسود فيها القانون وفصل السلطات وانتشار الحريات العامة، هو الحل الأكيد لهذه المعضلة.

وفي ظل نظام تسوده العدالة الاجتماعية والتطور العلمي والاقتصادي والسياسي والرغبة المشتركة، يمكن أن يكمِّل السوريون بعضهم بعضا بلا إقصاء ولا رفض للآخر، لتكون المسألة عادلة للجميع، بحيث لا يخشى أي مكون سوري على ثقافته، ولا على إرثه وتاريخه.

بانتظار سورية التي نريد، والتي يفرضها العقل السليم والمنطق والرغبة العارمة بحياة أجمل، نبقى ننتظر.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد