بناء هوية عسكرية أبوية في الدستور السوري (1973-2012)


08 تموز 2016

(المصدر: كرتونة من دير الزور والحقوق محفوظة لأصحابها وفق سياسة الاستخدام العادل)
رهف الدغلي

طالبة دكتوراة في السياسة ومدرسة مساعدة في جامعة لانكستر. تتناول أبحاثها بشكل رئيسي موضوع إضفاء الذكورة على الوطنية السورية، مع التركيز على الموروث الفرنسي والجرماني. للدغلي عدة أعمال عن سورية، شاركتها أكاديميا بشكل موسع في المؤتمرات الدولية، كما أنها عضو زميل لمركز الدراسات السورية ضمن شبكة زمالته الدولية.

مقدمة:

أتى تطور الهوية الوطنية السورية في إطار نشوء سورية كدولة أممية. إذ تحدد السردية الدستورية أدوار الرجال والنساء في الدولة، يضع ذلك بدوره صحة تطبيق هذه السردية للمساواة والحرية والديمقراطية موضع التساؤل، لذلك فإن تحليل السردية الدستورية يحدد مفاهيم البناء الأولية للمكونات المميزة للهوية الوطنية السورية.

من نافل القول أن الدستور يلعب دورا مفصليا في تحديد المبادئ السياسية والقانونية للدولة، وهو يلعب أيضا دورا قويا وسلطويا، كمصدر للقوة وهيكلية الدولة. الدستور يدعم أيضا أنماطا معينة من الأدوار في المجتمع.  لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن البنية اللغوية لهذا الإطار السياسي تلعب دورا قويا، إما في تدعيم الهرمية الأبوية أو تأسيس المساواة الجنسانية.

هذه المقالة القصيرة تحاول تحليل اللغة والمفاهيم المقدمة في المدخل الدستوري كتدعيم للهوية الوطنية الذكورية. سردية السياق هذه، تفترض علاقة متينة بين الرجولة والوطنية. لذلك نجد التركيز الملح على بناء صورة الجنود الأبطال الذين يحمون الوطن، يتم توظيفه لتعميق الهرمية والذكورية في الدستور السوري.

بالدرجة الاولى، تهدف هذه المقالة لبحث بناء الذكورية في مقدمتي الدستورين السوريين (1973 و 2012)، على الرغم من أن المبادئ الرئيسية ومواد دستور 2012 لم تقدم أي تغيير لوضع النساء في الدولة والمجتمع، إلا أن المقدمة تم تغييرها وتعديلها بشكل عميق. مع ذلك، رغم هذا التغيير في لهجة مقدمة 2012، لا يزال بالإمكان تبيّن الهرمية والسلطوية في الطريقة التي تعرف بها النساء.

دستور 1973:

من الضروري البدء بمقدمة دستور 1973 لفهم كيف تم تأطير وبناء المفاهيم الأساسية للهوية الوطنية السورية على مدى ما يقارب 40 عاما. توضح مقدمة الدستور المفاهيم الأساسية الرئيسة التي تعرف أعضاء (أو أبناء!) الدولة.

بالأخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي في السبعينات، دعم دستور 1973 الدائم فكرة "النضال" في مقدمته. إن إدراج فكرة "النضال" كمفهوم مجتمعي يطرح السؤال حول كيفية تضمين النساء في المجتمع الدستوري عبر مصطلحات تبدو أنها حيادية للوهلة الأولى، إذ يظهر تأسيس التفرقة الجندرية في بداية الدستور من خلال المبالغة في التركيز على السردية العسكرية التي تفضل الرجال على النساء.

مع أن خيارات المواضيع والكلمات في المقدمة تمثل علامة حاسمة في بناء هوية وطنية معينة لأي بلد، إلا أن استعمال مصطلحات تبدو حيادية عامة مثل "الشعب" أو "الجماهير" بمقابلة التركيز المبالغ على مفهوم النضال، التضحية والعسكرة في المقدمة تمثل تعريفا قانونيا لماهية المواطن. يدعونا هذا للتساؤل حول ما إذا كانت النساء من الشعب. لمحة سريعة للنقاش النظري حول ما يجعل اللغة ذكورية تكشف عن دور اللغة في تحديد الحواجز الفاصلة ضمن المجتمع الدستوري، وتضع إطار عضوية النساء الوطنية.

وبالفعل، سوريا ليست حالة خاصة، تركز خبيرة القانون الدستوري، هيلين إرفينغ، على التسليم العالمي بذكورية اللغة لتوضح الإقصاء والإحاطة الجندرية المتضمنة فيها(1)، ففي حين أن استعمال تسميات تبدو حيادية  مثل "الشعب" أو "الجماهير" شائع في المقدمات، إلا أنه من الممكن القول بأن لهذه الحيادية قليل الأثر على وضع النساء القانوني. يبرهن على ذلك أكثر عمل المؤرخة النسوية، كاثرين أ. ماكينون، التي تقول بأن "اللغة الجندرية تطغى على الدساتير، بما في ذلك الاستعمال الذي يبدو اعتياديا لتعميم التذكير، كاستعمال هاء تذكير الملكية (خاصته) للدلالة على أصحاب الحقوق، مما يوحي بالمساواة بين المواطنة والذكورة. لأن اللغة نوع من القوة والتمثيل، لا يمكن للمرء أن يركن لقوة الكلمات على ماهي عليه حتى وإن استعملت ضبابيا لتفترض احتواء الجنسين".

في الحالة السورية، الاستعمال المتكرر للمصطلحات المعممة "الشعب" و "الجماهير" لا تزيد من إقصاء النساء من المجتمع الدستوري فحسب، بل تتقابل أيضا مع الارتباط الضمني بين الرجولة والعسكرة. في الواقع، إن جذور الصورة الوطنية المميزة في الدستور تعتمد على  النفي، وفي سردية الدستور السوري، يستهدف هذا النفي النساء.  هذه السردية المعممة والتجريدية لصراع وتضحيات مجتمعية، ترتبط بشكل وثيق ببناء مجتمع مميز ومنفصل من الرجال.

البدء بمقدمة الـ 73 يدلنا على بدايات تهميش النساء السوريات في المراحل المبكرة من تشكيل الدولة السورية تحت حكم حافظ الأسد. استخلاص الإرادة العامة من "الشعب" في بداية المقدمة الدستورية السورية، وسعت سيادة الدستور السوري. بالمقابل، هذا الاستحضار لتعريف عمومي/شعبي أمر مبهم بعض الشيء في السياق السوري حيث مفهوم "الشعب" يتم تشكيله بالترابط مع اعتبارات التفوق الذكوري. هذا بدوره يضع محل التساؤل التعريف الدقيق لمن هم "الشعب". في الواقع، استعمال المصطلح العمومي يؤسس رمزيا لموافقة النساء على الدستور.

ما يمكن استخلاصه من مقدمة الدستور السوري(2)، هو أن الاستعمال المتكرر للمصطلحات المعممة "الشعب" و"الجماهير" يحافظ على إقصاء النساء خارج الإطار الوطني. يتم التأكيد على ذلك أكثر بالربط ما بين مفاهيم "النضال" و"التضحية" لـ "الشعب" و"الجماهير". تعريف التضحية والنضال البطولي يحافظ على البناء المثالي للقيم الذكورية والعسكرية في السردية الوطنية السورية.

هذه الإجراءات الذكورية تعمق أكثر من خلال التركيز على "الماضي المجيد" كمؤسس للهوية الوطنية المستقبلية. ما يسهل هذه الإجراءات هو التركيز في المقدمة المنعكس بوضوح في الإشارة إلى "النضال الحزبي العسكري". أثر الكلمات المستعملة في المقدمة، يعكس التركيز المفصلي على القيم العسكرية للرجال فقط.

يظهر هذا بوضوح أيضا في الفقرة الثالثة من المقدمة(3). الفقرة الثالثة تركز على بعض القيم التأسيسية والمبادئ الرئيسية التي بني عليها الدستور السوري. من جهة، تعبر المقدمة عن سلطة شاملة باعتبار أن "جماهير شعبنا" في سورية منحت سلطة القيادة لحزب البعث العربي الاشتراكي. المفارقة الساخرة لهكذا إعلان هو أن ما يسمى بثورة 8 آذار (1963) كانت انقلابا عسكريا أدى لإضعاف المشاركة الفعلية النسائية.

مع ذلك، هذه الصياغة تربط مفهوم النضال "الثوري" بنبذ الماضي المجيد. من الملاحظ أن وضع الماضي المجيد في هذا السياق، هو استمرارية للسرديات الرجولية الواردة في كتابات مؤسسي  البعث الأوائل. الإشارة للماضي المجيد في المقدمة ليس منفصلا عن الرمزية المباشرة للرجولة الذكورية، هو يوظف استئثارا نخبويا لشجاعة ذكورية معينة.

مصطلح مهم آخر مستعمل في المقدمة هو "الاشتراكية". مصطلح "الاشتراكية" تكرر 21 مرة في الدستور ما يعكس الطبيعة البارزة للهوية الوطنية السورية. لكن من المهم معرفة ما تعنيه كلمة "اشتراكي" في هذا السياق. هل تتجاوز المساواة الاجتماعية إنهاء التمييز الجندري ضد النساء؟ في الواقع لا يعلن الدستور أبدا أن الاشتراكية تعني القضاء على التمييز الجندري في سوريا، على العكس، توضح المادة 13 صراحة أن الحديث عن سوريا كـ "جمهورية اشتراكية" في المادة الاولى هو حديث عن المساواة الاقتصادية.

رغم ذلك يفشل قانون العمل بمنح النساء السوريات فرصا متساوية من حيث حقهن في قانون التأمينات الاجتماعية. بل ويلعب هذا المفهوم الاشتراكي دور الأداة الإيديولوجية المهيمنة التي تمنع النساء من السعي لتوظيف إيديولوجيات تمكين أخرى.

تبرر المقدمة غايات النضال العسكري، وتدعي أن نضال الحزب العسكري  هو انعكاس لمطالب وتطلعات شعبية عامة(4). الفقرة الخامسة تركز على الانتقال من اعتبار مفهوم النضال كأمر مستمد من "الشعب" ليتم تقديمه من خلال منجزات الحزب. في هذا السياق، يحتاج المرء لمساءلة منجزات الحزب مرة ثانية فيما يخص دعم المساواة الجندرية، وتطوير تمكين النساء في الدولة والمجتمع السوريين.

أيضا، وبحسب المادة الثامنة(5) فإن حزب البعث الاشتراكي هو القائد الوحيد للدولة والمجتمع. يمنح ذلك الحزب الحق الحصري لممارسة السلطة القضائية، التشريعية والتنفيذية في سورية. يغفل ذلك غياب أي نظام تعددي أو ديمقراطي يمكنه تطوير الحراك السياسي للنساء للوصول لفرص متساوية في الحقوق والتمثيل.

الأهم من ذلك، إن اعلان النضال العسكري باكرا في بداية الدستور يستثني تماما تجربة النساء في مواجهة التسلط الإمبريالي والاستعماري. كما تقول الباحثة النسوية الأميركية، سينثيا إنلوي: "عندما تصبح حركة وطنية ما عسكرية… عادة ما تتعمّق الميزات الممنوحة للرجال في المجتمع." وأيضا أن "العسكرة تعطي الأولوية للوحدة المجتمعية بحجة النجاة الوطنية، وهي أولوية بمقدورها إسكات النساء الناقدات للممارسات والتوجهات الأبوية، وبفعل ذلك يمكن للعسكرة الوطنية أن تمنح الرجال ميزات."

مع ذلك، فإن ضبابية النظرة إلى النساء في الدستور يمكن إرجاعها إلى المبادئ الأساسية المرسومة في المقدمة. فبينما تدعم المادة الرابعة (6) من المقدمة الحرية والديمقراطية بشكل متساو، إلا أن استعمال المصطلحات ظاهرية الحياد الجندري مثل "المواطنون" أو "الشعب" تشكك بما إذا كانت فعلا تشمل النساء ضمنها(7). هذا الاستعمال اللغوي الضبابي للإيحاءات الذكورية يتقاطع مع مفهوم القداسة التي يتم قياسها وفق الموقف الإيديولوجي الاشتراكي للدولة.

إضافة لذلك، فإن الربط بين التضحية والانتماء يزيد من تعميق عسكرة المجتمع، وغالبا ما يؤدي لمبالغة في المفاهيم السائدة حول محاباة الذكورة والرجولة.

هذا الحق "المقدس" بالحرية مرتبط بشكل وثيق بـ "الدفاع عن الوطن"، فقد يتساءل المرء ما إذا كانت هذه الدعوة لحماية الوطن شاملة، ولو جزئيا للجنسين؟ يأخذنا ذلك إلى المادة 11 من الدستور(8) التي تؤكد أن الجيش – وهو مؤلف من عناصر من الذكور الملزمون بخدمة 30 شهرا لدى بلوغهم 18 عاما(9) – هو المسؤول عن الدفاع عن الوطن. من الجدير بالذكر هنا أن النساء يسمح لهن الآن بالالتحاق بالجيش والمجموعات المسلحة غير الرسمية والتابعة للنظام، إلا أن هذا التركيز على عسكرة النساء يعمق مثالية نموذج الذكورة المعسكرة.

بالنتيجة، فإن دور الجيش يزيد من غموض وضع النساء فيما يخص حقهن في الحرية والديمقراطية، وما اذا كن سيصلن يوما ما إلى كامل حقوقهن في الإنسانية والمواطنة.

من نفس المنطلق، مفهوم الحرية والإنسانية يبنى بصورة ملتوية من خلال التركيز على التضحية ودمج العسكرة مجتمعيا. العلاقة المتبادلة بين الحرية والقدرة على حماية الأمة تستدعي التساؤل حول ما إذا كان مصطلح "المواطن"  خوّل على الإطلاق النساء للحصول على الحق بالعضوية الوطنية الكاملة.

من المهم جدا التركيزعلى أن المادة 4 من المقدمة تؤسس لسببية بين الحرية والإنسانية. حيث تذكر أن ممارسة الحرية "تجعله (المواطن) إنسانا كريما قادرا على (...) حماية الوطن (...) وبذل التضحيات في سبيل الأمة التي ينتمي إليها". هذه البنية الضمنية لمفهوم موحد للمواطنة يدعم التقاطع بين الحرية، الإنسانية والرجولة.

في هذا السياق، يؤسس تعميم محاباة و امتيازات الرجال في الدفاع عن الوطن بقدسية لهرمية رمزية، وسيطرة لأحد الجنسين على حساب الآخر. العالمة السياسية النسوية، جان جيندي بيتمان، توضح أكثر أن إقصاء النساء من الدولة قد يتعلق بـ "الربط الوثيق بين المواطنة وحمل السلاح والاستعداد للقتل أو الموت في سبيل الدولة"، والفيلسوفة السياسية والأخلاقية الأميركية، جين بيثك ألشتاين، أشارت بقوة إلى "عسكرة المواطنة" حيث تقولب النساء بالنظر إليهن على أنهن "نائحات على مآسي" الحرب، وبالمقابل يقولب الرجال على أنهم مدافعون وحماة للنساء المعتمدات عليهم والخاضعات لهم. يعمق ذلك من القناعة بعدم أهلية النساء للمواطنة الكاملة في الدولة.

المشكلة ليست بالخدمة العسكرية الالزامية بحد ذاتها وحسب، إنما بالاستعمال المبهم لكلمة "مواطن" للدلالة على الرجال في الجيش وللنظر لمفهوم الدفاع عن الوطن على أنه مقدس ومرتبط بالكرامة الإنسانية. هذا الربط بين الخدمة العسكرية والمواطنة يؤسس هرمية خضوع في الدستور تزيد من عمق التفرقة الجندرية في الدوائر العامة والخاصة.

مقدمة دستور 2012: ادعاءات التعددية السياسية:

في حين كانت الظروف المحيطة بوضع الدستور الجديد في شباط 2012 يميزها القمع العنيف للانتفاضة الشعبية في سوريا، لا يمكن استخلاص أي أمل بمستقبل أفضل من هذه التجارب الديمقراطية.

فيما يتعلق بمسألة الجندر، لم تتم إضافة أية مواد فعالة لتحسين المساواة الجندرية. رغم ذلك، بالإمكان ملاحظة تغيير في نبرة المقدمة. هناك تغيير في ادعاء الإرادة الشعبية يوحي بحكم سوري جديد مبني على التعددية السياسية، حيث لا يرد ذكر حزب البعث على أنه القائد الأوحد للدولة ولا للاشتراكية كإيديولوجيا رسمية.

رغم أن هذه الإشارة قد تساعد في تدعيم تمثيل النساء في الدولة والمجتمع، إلا أن الطبيعة القمعية للنظام، والإصرار على التركيز على المفاهيم الأحادية للنضال الذكوري تعمل كأداة لتعميق خضوع النساء. الكلمات الأولية من المقدمة تؤسس معركة مستمرة ضد الاستعمار والقوى الغربية، في إشارة إلى تراث مجيد وتحديات، والتي تستعمل لإيصال تصوّر عن الرجولة والبطولة. كما أنها تعيد الفضل بالماضي المجيد والبطولي لرجال على مر التاريخ(10).

تستمر مقدمة 2012 في التجريدية في مفهوم الهوية الوطنية السورية، بالأحرى تبدأ بالإشارة للشعب السوري على أنه ذوي هوية عربية، مما يخلق إشكالية ليس فقط لمفهوم الانتماء لدى تلك النسوة السوريات المنحدرات من أصول إثنية مختلفة (كالأكراد مثلا)، وإنما يزيد من ضبابية تعريف الهوية الوطنية في السياق السوري(11).

الا أن المقطع الثالث يضيف عنصرا جديدا للدستور السوري يعبر بوضوح عن الحاجة لتحقيق السلام والأمن الدوليين كهدف رئيسي، وخيار دولي استراتيجي. في حين لم ير الدستور القديم حاجة لوضع سوريا في برنامج تحقيق الأمن والسلم الدوليين، تأتي هذه الإشارة الجديدة تجاوبا مع سردية النظام التي اعتبرت الاحتجاجات السلمية في أوائل ال2011 تحركا إرهابيا هدد الحفاظ على الأمن الدولي.

التزاما بهذه الجدلية، حافظ المقطع الرابع على ضبابية تموضع "الشعب" و"النضال" و "العسكرة". تتناقض مصطلحاته بوضوح بين الادعاء بنناء نظام سياسي تعددي مع تقاطع النضال الشعبي/ بتماسك الجيش. يعود ثانية للترويج لدور الجيش في الدولة من خلال اعتباره الحامي الوحيد لحقوق وكرامة الناس.

وبينما تأخذ هذه الاشارة لدور الجيش دورا أساسيا في هذا المثال، تركز المقدمة لاحقا على استقلالية القانون في تشكيل قاعدة الدستور. مما يطرح تساؤلا حول كيفية إدارة هذه الاستقلالية الشرعية للقانون بينما تعطى القوة العسكرية مكانة الضامن الرئيسي وحامي استقلالية واستقرار الوطن.

ضمن هذا السياق، لا يمكن ضمان قضية الجندر في دستور الـ 2012 نتيجة السلطة العسكرية الممنوحة للعسكرة. يدعم ذلك أكثر الاستعمال المبهم لكلمة "الشعب" التي ترد فقط في سياق النضال والتراث.

النتيجة:

في ضوء ما سبق، من الممكن بسهولة تمييز استمرارية توظيف الرجولة، النضال والبطولة كعوامل تعريف للعضوية الدستورية. هذه البدائية في تمجيد الرجولية والنضال في مقدمة الدستور السوري يدعونا للتساؤل حول كيفية النظر للنساء السوريات ضمن هذه المقدمة.

التنافر بين اعتبار الاشتراكية صفة تعريف إيديولوجية للدولة السورية في مقدمة الـ 1973 وتقديم التعددية السياسية في 2012 يحافظ على وضع النساء خارج الإطار الوطني.  المقدمتان المعرفتان للسلطة الشرعية للدستور في سوريا لأكثر من 40 عاما لا تزال تدعم دور الرجولة والجيش والنضال في تعريف الهوية الوطنية السورية. بالإضافة لذلك لم يرد ذكر النساء في هاتين المقدمتين، وإنما  حضورهن غامض ضمن سياق الماضي المجيد كساحة لمحاباة الرجال الأبطال.

يجعلنا هذا التحليل أوعى لأي صياغة مستقبلية للدستور السوري، حيث يجب ذكر النساء بوضوح في المقدمة. بالإضافة لأنه يجب أن يكون هناك إعادة تعريف للأفعال البطولية لتشمل نضالات وتضحيات النساء. هذه الطريقة لإعادة التفكير بمفهوم النضال، البطولة والتاريخ ستؤدي لإعادة تعريف وفهم دور النساء في الذاكرة الوطنية ويعترف بتضحياتهن كجزء من المجتمع الوطني.

بالإضافة لذلك، الاعتراف بنضال النساء في المجالين العام والخاص يجب أن يظهر جليا في أي مقدمة مستقبلية للتأكيد على أن "الجماهير" لم تعد إشارة ذكورية مبهمة وإنما مصطلحا يتضمن نضال النساء وعزيمتهن.

 هذا التركيز سيتحدى أحادية تعريف التاريخ والنضال كبنية ذكورية مسيطرة ليس فقط في السياق السوري، وإنما كظاهرة في دساتير العديد من الدول. ستعمل التعاريف من هذا النوع على إزالة دور العسكرة كرمز وحيد لكرامة الأمة وبطولتها ونضالها، وهو أمر مهم جدا ليس فقط لتأسيس قاعدة المساواة الجندرية في سوريا، وإنما أيضا لدعم قوة سيادة القانون والمواطنة في سوريا المستقبل.

لذلك يستنتج المرء أن تطوير هوية وطنية مبنية على المساواة والتعددية السياسية لا يعتمد فقط على تحوير الاستعمالات اللغوية لبعض المصطلحات التي تجعل دور المرأة الوطني مبهما، وإنما يعتمد على الحاجة لإعادة تعريف سياق الإرادة الشعبية ضمن مفاهيم وطنية ساهمت في تعميق خضوع النساء.

الهوامش:

(1) : المزيد من النقاش حول أثر اللغة الذكورية في إقصاء النساء نصيا خارج الاطار السياسي متوفر في أعمال المنظرة السياسية، كارول بايتمن، حول خطورة عولمة استعمال كلمة "رجل" كبديل لـ "إنسان" والجنس البشري عامة.

(2): وفي أواخر النصف الأول من هذا القرن، كان كفاح الشعب العربي يتسع ويتعاظم في مختلف الأقطار ليحقق التحرر من الاستعمار المباشر. ولم تكن الجماهير العربية ترى في الاستقلال غايتها ونهاية تضحياتها، بل رأت فيه وسيلة لدعم نضالها، ومرحلة متقدمة في معركتها المستمرة ضد قوى الاستعمار والصهيونية والاستغلال بقيادة قواها الوطنية التقدمية من أجل تحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية.

(3): "وفي القطر العربي السوري واصلت جماهير شعبنا نضالها بعد الاستقلال واستطاعت عبر مسيرة متصاعدة أن تحقق انتصارها الكبير بتفجير ثورة الثامن من آذار عام 1963 بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي جعل السلطة أداة في خدمة النضال لتحقيق بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد. لقد كان حزب البعث العربي الاشتراكي أول حركة في الوطن العربي أعطت الوحدة العربية محتواها الثوري الصحيح، وربطت بين النضال القومي والنضال الاشتراكي، ومثلت إرادة الأمة العربية وتطلعاتها نحو مستقبل يربطها بماضيها المجيد، ويؤهلها للقيام بدورها في انتصار قضية الحرية لكل الشعوب."

(4): في الفقرة الخامسة من المقدمة: "ومن خلال مسيرة الحزب النضالية جاءت الحركة التصحيحية في السادس عشر من تشرين الثاني 1970 تلبية لمطالب شعبنا وتطلعاته، فكانت تطوراً نوعياً هاماً وتجسيداً أميناً لروح الحزب ومبادئه وأهدافه".

(5): المادة الثامنة تعلن: "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية."

(6): الفقرة الرابعة من المقدمة تنص على: "الحرية حق مقدس والديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن ممارسة حريته التي تجعل منه إنساناً كريماً، قادراً على العطاء والبناء، قادراً على الدفاع عن الوطن الذي يعيش فيه، قادراً على التضحية في سبيل الأمة التي ينتمي إليها، وحرية الوطن لا يصونها إلا المواطنون الأحرار، ولا تكتمل حرية المواطن إلا بتحرره الاقتصادي والاجتماعي."

(7): للمزيد من الأبحاث التي تدرس الارتباطات العميقة في اللغة الانكليزية لاستعمال أسماء الاشارة المذكرة للاشارة إلى أسماء محايدة الجنس (مثل "مواطن" أو "شخص")، يمكن إيجادها في بحث  بيتيرسون "تحديد اللامساواة - الجدلية المتطورة حول اللغة العنصرية جندريا" في اقتباس عن كارين دي يونغ في "عن المساواة واللغة"(.1985)

(8): تنص المادة 11 على أن: "القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن سلامة أرض الوطن، وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية."

(9):  http://www.globalsecurity.org/military/world/syria/overview.htm

(10): في الفقرة الأولى والرابعة: "تعرضت الحضارة العربية التي تعد جزءاً من التراث الإنساني عبر تاريخها الطويل إلى تحديات جسام، استهدفت كسر إرادتها وإخضاعها للهيمنة الاستعمارية، لكنها بقدراتها الذاتية الخلاقة كانت تنهض لممارسة دورها في بناء الحضارة الإنسانية. (...) لقد تعاظم الدور العربي السوري على الصعيدين الإقليمي والدولي خلال العقود الماضية مما حقق الكثير من التطلعات والمكتسبات الإنسانية والوطنية في المجالات والميادين كافة، وأضحى لسورية موقع سياسي مُهم كونها قلب العروبة النابض، وجبهة المواجهة مع العدو الصهيوني، والحامل الأساس للمقاومة ضد الهيمنة الاستعمارية على الوطن العربي ومقدراته وثرواته، وقد مهد الكفاح الطويل لشعبنا وتضحياته في سبيل استقلاله ونهضته ووحدته الوطنية الطريق نحو بناء الدولة القوية وتعزيز التلاحم بينه وبين جيشه العربي السوري الضامن الرئيس والحامي لسيادة الوطن وأمنه واستقراره ووحدة أراضيه، مكوناً القاعدة الراسخة لنضال الشعب من أجل تحرير أراضيه المحتلة كافة."

(11): في الفقرة الثانية من المقدمة: "وتعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية."

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد