حين تنتصر الإرادة على الإصابة


لم يكن الرياضي والملاكم السوري المعروف، وبطل سوريا للملاكمة لجميع الفئات العمرية حتى عام ١٩٩٠، موفق الزهوري، يعلم أنه سيكون يوما من الأيام، ضحية غدر النظام وطائراته الحربية التي ألقت بحممها (٢٣ اكتوبر٢٠١٢) على أحلامه ومستقبله الرياضي لتعلن عن تحدي شاق بينه وبين إصابته التي حولها الزهوري إلى عنصر أمل، لا ليساعد نفسه فحسب، بل ليكون قدوة لغيره من المعاقين الذين يكرّس جلّ وقته لقضيتهم ومساعدتهم.

09 تشرين الثاني 2018

(الزهوري في معرة النعمان مع مصابين بسبب الحرب خلال أحد الأنشطة/ خاص حكاية ما انحكت، والصورة من أرشيف الزهوري الخاص)
نايف البيوش

كاتب وصحفي من ريف إدلب

(إدلب)، لم يكن الرياضي والملاكم السوري المعروف، وبطل سوريا للملاكمة لجميع الفئات العمرية حتى عام ١٩٩٠، موفق الزهوري، يعلم أنه سيكون يوما من الأيام، ضحية غدر النظام وطائراته الحربية التي ألقت بحممها (٢٣ اكتوبر٢٠١٢) على أحلامه ومستقبله الرياضي، لتعلن عن تحدي شاق بينه وبين إصابته التي كادت أن تودي بحياته، والتي تسبّبت له في إعاقة دائمة مدى الحياة.

تلقى الملاكم السوري خبر إعاقته وهو مستلقي على سرير في مشفى القصير الميداني، والمتمثلة بتهشم في عظام القدم اليسرى وانقطاع الوريد، ما أدى إلى نقص التروية في قدمه، والتي باتت لا تستقبل سوى أربعين بالمئة فقط من الدم.

"عندما دخل الطبيب إلى غرفتي ظننت أنه سيخبرني ما يطمئنني عن صحتي، ولم أكن أعتقد أنه سينقل لي خبر إعاقتي التي عانيت منها على مدى أربع سنوات فيما بعد، لم أحزن على شيء بقدر ما أحزنني التخلي عن أحلامي الرياضية التي سعيت لها طوال عمري"، هذا ما يقوله موفق الزهوري لحكاية ما انحكت.

نشأ موفق الزهوري (45 عاما) في مدينة القصير في محافظة حمص في عائلة مؤلفة من ثمانية أشخاص، وعرف عنه منذ طفولته حبه للرياضة، حيث كان من أوائل الرياضيين الصغار في مدينته، ليدخل بعدها في رياضة الملاكمة بسن الثامنة عشرة من عمره. وهنا انتقل موفق الى مدينة قبرص اليونانية في  6 أيلول 1996 لاستكمال نشاطاته الرياضية ثم ليعود بعدها إلى وطنه سوريا قبل انطلاق الثورة السورية بعام واحد في 2 آذار 2010.

حين أصيب الزهوري كان على مقربة من أحد النوادي الرياضية بريف حمص في مدينة القصير، "لم أكن الوحيد من أصيب في ذلك اليوم، بل كان هنالك عددا من الشهداء والجرحى".

(موفق الزهوري خلال أحد الأنشطة مع مصابي الحرب في معرة النعمان/ خاص حكاية ما انحكت، والصورة من أرشيف الزهوري الخاص)

خضع موفق لفترة علاج استمرت سنة كاملة حتى استطاع الوقوف على قدميه مجددا، ليخضع بعدها لفترة علاج فيزيائي استمرت ثلاث سنوات، حيث كانت هذه الفترة من أصعب الفترات التي مرّ بها.

تنقل موّفق في هذه المدة بين العديد من المشافي، ومنها مشفى القصير الميداني الذي دخله في يوم إصابته الموافق 23 اكتوبر 2012، وقضى به يوما واحدا ليتم نقله عن طريق سيارات الإسعاف التابعة لإسعاف المشفى الميداني إلى مشفى يبرود الوطني بتاريخ 24 إكتوبر 2012، حيث قضى به حوالي خمسة أيام، أسعف بعد ذلك إلى مشفى شتورة في لبنان بطريقة غير شرعية (التهريب) عن طريق مهربين، حيث طالت رحلتهم أكثر من ١٠ ساعات مشيا على الأقدام، وذلك نظرا لخطورة حالته التي كانت فوق قدرة المشافي الميدانية السورية التي تعوزها الإمكانيات والكوادر، إضافة إلى الخوف الدائم من قصف الطيران الحربي للنظام، والذي كان وما زال، يستهدف المشافي الميدانية بشكل كبير.

عانى موفق خلال فترة علاجه في لبنان من مخاوفه من عناصر حزب الله اللبناني الذين يقومون بعمليات تصفية وخطف للمعارضين والجرحى السوريين الذين كانوا يتلقون علاجهم في المشافي اللبنانية، مما اضطره لإكمال علاجه في المنزل بإشراف أطباء مختصين حتى استطاع النهوض والوقوف على قدميه.

من الإعاقة إلى تحديها

"بما أنني مصاب، أدركت أنه لا يشعر بالجريح إلا الجريح، وعندما يصاب الشخص يصبح منسيا، وبما أنني استطعت النهوض من جديد فقد نذرت حياتي من أجل المصابين، ومن أجل زرع الثقة في نفوسهم وتسليط الضوء على هذه الفئة من الناس المنسية، ودمجها بالمجتمع والعمل على رفع المعنويات لديهم وإخراجهم من الواقع المظلم، ومن الضغوط التي يعيشون في ظلّها من نزوح وتهجير ونسيان وفقدان الثقة بالنفس لديهم". هذا ما قاله موفق لحكاية ما انحكت، ليبدأ بعدها نشاطاته في بداية عام 2014 في مدينة عرسال اللبنانية، وتحديدا في المخيمات حيث يتواجد اللاجئون السوريون، إذ عمل على إقامة العديد من النشاطات الرياضية، ومنها السباحة وسباقات الماراثون ورياضة الملاكمة، لينتقل بعدها إلى الداخل السوري، وعن طريق التهريب أيضا، حيث استقر في مدينة معرة النعمان بتاريخ 8 آب 2017 مستكملا نشاطاته وعمله بها حتى اليوم.

(موفق الزهوري خلال أحد الأنشطة مع أطفال مصابين بسبب الحرب في معرة النعمان/ خاص حكاية ما انحكت، والصورة من أرشيف الزهوري الخاص)

تركزت نشاطات موفق على الأطفال والأيتام وأبناء الشهداء والأشخاص المعاقيين من ذوي الإحتياجات الخاصة والجرحى. واستطاع من خلال نشاطاته الرياضية التي تتضمن رياضات مختلفة، ومنها سباقات الماراثون وكرة القدم والسباحة وغيرها.. استطاع زرع الثقة في نفوس المصابين عن طريق إشعارهم، أنّ الإصابة لا تعني "نهاية الحياة بل هي التحدي الحقيقي لخوض مغامر الحياة"، فأصبح المصاب يعتمد على نفسه في الحصول على قوت يومه، وعاد العديد منهم إلى ممارسة حياتهم الطبيعية.

محمد المعري (39 عام) أحد المصابين، والذي فقد قدمه في إحدى الغارات الجوية على مدينة معرة النعمان، حيث كان من أكبر تجار السيارات في المنطقة، يعرب عن امتنانه وشكره لموفق الزهوري الذي ساعده عن طريق إشعاره بأنّ الإصابة لا تعني الإستسلام لها، بل عليه تحديها من أجل النهوض مجددا والعودة لحياته الطبيعية وفق ما يقول لحكاية ما انحكت. كما ساهم  بالتخفيف من إصابته عن طريق الأنشطة الرياضية، والتي ساهمت وبشكل كبير بخروجه من الحالة النفسية المتردية التي كان يعيش فيها، والاندماج بالمجتمع، ليتغلب بذلك على كل الضغوط النفسية والجسدية التي كانت عائقا كبيرا وعقبة في استمرار حياته بشكلها الطبيعي، إذ "أصبح هنالك ما يشدني للحياة بعد أن كنت يائسا منها بشكل كبير، ربما هي المنافسة، وربما هي الإرادة التي لاحظتها بعيون كل من كان يشارك بتلك النشاطات، أصبح لدي أصحاب جدد وأحلاما جديدة".

من جهته، خالد الناصيف (33 عام)، وكان يعمل قبل الإصابة موظفا في شركة المياه، وصف أنشطة الزهوري بالنشاطات التي أعطته جرعة أمل ليعود إلى الحياة "تلك الحياة التي دمرها الأسد بطائراته الحربية وأسلحته الفتاكة".

يشكو الناصيف من إصابة تسبّبت له ببتر قدمه اليمنى، حيث قدم له موفق العديد من المساعدات وحسّن من ظروفه المعيشية حين ساعده على افتتاح محل حلويات عن طريق أحد المتبرعين بشكل فردي، فأصبح الآن يعتمد على نفسه في تأمين قوت يومه ويوم عائلته، ولم يعد بحاحة لطرق أبواب المنظمات من أجل الحصول على سلل إغاثية.

أما الطفل خالد النفوس (12عام) فهو شكر الزهوري على جهوده المبذولة في تقديم المساعدة له، والتي تمثلت بتأمين كفالة له من قبل أحد التجار الأغنياء الذي راح يقدم له العناية والغذاء والدواء ولوازمه الدراسية بعد أن كان منسيا لا ملجأ له ولا مساعدة تذكر، علما أنّ خالد يعاني اليتم وشلل نصفي نتيجة إحدى غارات الطائرات الحربية التي استهدفت مدرسته بريف إدلب، ما حرمه من طفولته وأحلامه، فكان أحد المستفيدين من نشاطات موفق بشكل كبير.

رائد الأشقر (25 عام)، هو الآخر كان أحد المستفيدين من نشاطات الزهوري الذي كان يربط الأشخاص المحتاجين مع الجمعيات الخيرية والأشخاص الميسوري الحال الذين كانوا على استعداد لمساعدة مثل هؤلاء الأشخاص.

(موفق الزهوري خلال أحد الأنشطة مع أطفال مصابين بسبب الحرب في معرة النعمان/ خاص حكاية ما انحكت، والصورة من أرشيف الزهوري الخاص)

هكذا حصل رائد على طرف صناعي مجاني ساعده على إكمال حياته بحرية من حيث الحركة والتنقل، إذ أنّ رائد لم يكن يستطيع تأمين طرف صناعي بسبب ارتفاع سعره وصعوبة الحصول عليه. غير أنّ مبادرة الزهوري، أتاحت له بدء حياة جديدة، إذ يقول "كم هو أمر صعب أن تنظر إلى قدمك أو يدك المبتورة وترى إعاقتك أمام عينك ولا تستطيع أن تحرك ساكنا، وفي الوقت نفسه كم هو شيء رائع أن ترى أشخاصاً من أمثال موفق يحاولون تقديم كل إمكانياتهم المتاحة، المادية منها والمعنوية، لمساعدة المصابين الذين حرموا من أبسط حقوقهم في الحياة بسبب إصاباتهم".

استطاع الزهوري خلال نشاطاته التي ينشرها على مواقع التواصل الإجتماعي، من لفت انتباه عدد من المنظمات (ومنها منظمة البنيان المرصوص التي تقدّم السلل الإغاثية ومادة المازوت للمصابين) والأثرياء لهذه الفئات المنسية والمهمّشة، فعملوا على تركيب نحو 57 طرف صناعي لأشخاص فقدوا أطرافهم في الحرب السورية، كما تمكن من تأمين أكثر من 13 كرسي متحرك للأشخاص الذين يعانون من شلل رباعي، وحصل على كفالة حوالي 127 طفل يتيم، وساهم بفتح أكثر من 40 محل تجاري لبعض الجرحى بما يتناسب مع إصاباتهم، ومنها محلات المعجنات ومحلات الحلويات ومحلات صيانة للقطع الإلكترونية، بالإضافة لبعض المساعدات المالية والمادية واللوجستية.

ومن جهته، أكد محمد الأسعد (٥٢عاما) أحد المتبرعين لعدد من الأشخاص المشاركين بنشاطات الزهوري، والذي قدم لهم مساعدات لوجستية، ومنها عدد من الأطراف الصناعية والعربات والعكازات. يؤكد الأسعد على "ضرورة  وجود مثل هذه النشاطات كونها تفسح المجال لدى الكثيرين لمساعدة هذه الفئة المنسية والمهمشة، فأنا كيف لي أن أعلم عن معاناة هؤلاء وحاجتهم للعون لولا مثل تلك النشاطات التي تتيح المجال لمساعدة الأشخاص المتضررين من الحرب، واللذين حرموا من أبسط حقوقهم في الحركة والتنقل"، لافتا إلى ضرورة وجود أشخاص أمثال الزهوري ليعيدو إليهم الثقة بالنفس ويزرعوا فيهم الإرادة والتصميم للتغلب على إعاقاتهم وعاهاتهم، ليعودوا ويمارسوا حياتهم بالشكل الطبيعي بعد أن أجبرتهم الظروف على الإستكانة لإصاباتهم وانفصالهم عن مجتمعهم، هذه النشاطات التي تعدّ المتنفس الوحيد لهؤلاء ليستعيدوا عافيتهم النفسية والجسدية.

يعمل موفق بشكل تطوعي وبمبادرة شخصية فردية، فهو لا ينتمي إلى أي منظمة أو جمعية إغاثية. وتتميز نشاطاته بجديتها، وبكونها إنسانية بالدرجة الأولى، ثم حيوية بالدرجة الثانية، أي تهدف إلى رفع مستوى اللياقة البدنية للمصاب، كل حسب إصابته. كما وتتنوع النشاطات من شخص لآخر ومنها كرة القدم وكرة اليد والسلة، وهذا يدفع موفق لأن يقول "كم هو جميل أن ترى أشخاص يواجهون إصاباتهم بالإصرار والتحدي، هذا ما كنت أطمح إليه دائما، وها أنا اليوم أرى هذا جليا في نفوس هؤلاء".

ومن جهته، امتدح عمر الدودي (٣٠عاما) وهو من أهالي معرة النعمان مبادرة الزهوري قائلا "قلما نجد أشخاص كالزهوري يكرسون كل وقتهم وجهدهم لمساعدة غيرهم من ذوي الإصابة والنازحين، والذين هم بأمس الحاجة لمثل تلك المبادرات في زمن انشغل به الناس بويلات الحرب من فقر ونزوح وتهجير وفقدان، بينما لم يبق لهؤلاء من يمنحهم الأمل بالحياة سوى قلة قليلة من ذوي الأيادي البيضاء أمثال الزهوري".

يعد الزهوري من أوائل الأشخاص الذين ساندوا الثورة السورية بسبب حبّه للحرية والتحرر من نظام الإجرام الأسدي حيث ساهم بشكل فعال في الثورة السورية من خلال مشاركته في المظاهرات وإسعاف المصابين ونقلهم إلى المشافي الميدانية.

بإمكانياته المادية البسيطة وروحه الرياضية العالية، استطاع موفق الزهوري، وعلى الرغم من إصابته، مساعدة غيره من ذوي الإصابات، حين أتاح لهم كافة الفرص لإثبات قدراتهم وتجاوز إصاباتهم، فعادوا بهمة عالية لحياتهم الطبيعية التي حرمتهم الحرب من ممارستها.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد