عندما حفظت الفاتحة! (11)


في دمشق تعرفت على سبب استخدام خالها لكلمة "ألماني" ضمن سياق حديثه عن شخص لا أعرفه، ووضحت لي: "في رموز منستخدمها وقت بدنا نحكي عن حدا من غير دين لهيك منقول ألماني يعني علوي، شموط يعني سني، هيك ما حدا بيعرف عن شو عم نحكي"، ليتبين لي أن هذه الصفات من أشهر الكلمات التي يتعلمها ويتداولها القادمون الجدد إلى دمشق، لإظهار الاندماج والتقرّب من المجتمع الجديد

14 أيلول 2018

(داخل كنيسة حنانيا في دمشق، والصورة مأخوذة من ويكيبيديا وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)
ميليا عيدموني

صحفية سورية، والمديرة الإقليمية لشبكة الصحفيات السوريات.

Translated By: بسكال مناسا

(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)

ميليا عيدموني (كاتبة وصحفية سورية)

"كل مين على دينه الله يعينه"، "المسلم لو كان مسك لا تحطه بجيبتك"، "الكردي عنيد وراسه يابس"،... هي عبارات وجمل نسمعها دائما. بالمقابل، كثيرا ما نردّد عند بدء الحديث عن الدين أو لوضع نهاية لأي حوار حول الموضوع "بس نحنا عايشين ببلد الحمدالله ما في طائفية ولا منعرف العنصرية"، و"كل الناس خير وبركة"، لتمنحنا شعوراً بالرضا أننا لسنا طائفيين ونحترم الطرف الآخر بغض النظر عن انتمائه!

غالبا ما يتم النقاش عن الطائفية أو الدين ضمن دوائر صغيرة ومتقاربة في طريقة التفكير، ولا يتم نقاشها بشكل علني وواسع خشية الاتهام بالطائفية والتقوقع حول "جماعتنا".

ولدت ونشأت في مدينة حمص، عشت فترة طفولة عادية في مدينة تتغنّى بتنوّعها الطائفي، وكنّا عائلتين مسيحيتين نسكن في حي غالبيته من "أخواننا الإسلام" على حد تعبير جدتي التي قدمت عروسا من مدينة حماة بعمر الـ ١٤ وسكنت الحي حتى وفاتها.

الساعات التي سمح لي فيها باللعب في الشارع أو أمام منزلنا معدودة على الأصابع، والحجة جاهزة دائما "البنات ما بيلعبوا بالشارع". لفترة من الزمن اعتقدت أنّ خوف أهلي من تعرّضي لإصابة أثناء اللعب هو السبب وراء هذا القرار، لألمس لاحقا أنّ هذا الخوف مصدره الرغبة بمنع أي اختلاط أو بدء صداقة مع "أولاد المسلمين" والتطبّع بعاداتهم، وهو خوف مصدره الإحساس بعدم الأمان والثقة بالطرف الآخر، المختلف عنا دينيا واجتماعيا.

الحالة الوهمية والخوف من التعرّف على الآخر لم تنته كلياً مع الابتعاد عن مجتمع الحارة "وهاد من جماعتنا ولا جماعتهم"، وبدأت تأخذ شكل جديد مع أول يوم لي على مقاعد كلية الآداب في جامعة دمشق

الإحساس أننا ضيوف في زيارة داخل وطننا، وواجبنا احترام النظام الحاكم الذي وفر الحماية للمسيحيين كان شعورا ملازما لنا. وكان هذا الخوف يتعزّز في فترة الأعياد الدينية المسيحية مع تشديد الحماية الأمنية وانتشار رجال الشرطة والمخابرات أمام الكنائس، لحمايتها من "هجمات وهمية محتملة".

الإحساس الدائم أني أنتمي لأقلية دينية في وطني ظلّ مرافقا لي حتى بداية المرحلة الجامعية والانتقال إلى دمشق. الحصول على الأجوبة حول الهوية، والانتماء والدين لم يكن سهلا، خاصة أنّ عائلتي لم تجاهر يوما أنّها ملتزمة دينياً، أو أنّ الدين يشكل الأولوية في حياتنا. ولكن لاحقا ومع تفتّح وعيّ حول الآخر بدأت رحلة البحث عن الأجوبة، كسرت قوقعتي البلورية وبدأت التعرّف على الآخر بكل أطيافه وطوائفه من خلال أصدقاء وصديقات الجامعة والعمل.

أتذكر جيدا أول تجربة شخصية لي مع الدين عندما كنت في الصف الأول الابتدائي، انتقلنا حديثا إلى مدرسة القديس يوحنا الدمشقي. وقفت مُدرسة الديانة أمامنا وطلبت أن ينتقل الطلبة المسيحيين إلى الغرفة الصغيرة المجاورة لصفنا، وأن يبقى الطلبة المسلمون في نفس الصف، وبدأت حصتها بشرح بعض الآيات من القرآن الكريم، وكتبت الفاتحة على اللوح وطلبت أن نحفظها ونعيد تكرارها أمام الطلاب. تمكنت من حفظها وإعادة قراءتها غيباً أمام طالبات وطلاب صفي، بعد ربع ساعة دخلت مُدرسة الدين الأخرى، ونادت: "مين ميليا؟"

وقفت فورا وأنا أشعر بالخجل والخوف أمام الجميع، وأنا لا أعرف هل قمت بخطأ ما يستدعي العقاب؟ لتستدرك استفسارها سريعاً: "إنت شو عم تعملي هون؟ الحقيني على الغرفة التانية"!.

وهناك قدمتني من جديد أمام زميلاتي وزملائي المسيحيين ونبهتني أنّ هذه القاعة الصغيرة هي مكان تجمعنا الدائم خلال حصص الديانة حتى نهاية العام الدراسي. ولاحقا قامت بالتواصل مع والدي لتخبره بفعلتي "الشنعاء"، وجهلي بالدين الذي أنتمي له. لاحقا أصبحت الحادثة مضرب مثل في العائلة عن التعايش الديني "ميليا بالصف الأول حفظت الفاتحة بدل أبانا الذي في السموات"!.

مع بداية الثورة في سوريا، وجدت نفسي بحاجة لتبرير موقفي منها، أنا المنتمية لأقلية دينية بالصدفة

بعد عام عدت إلى مدرستي القديمة (الغسانية الخاصة)، أمضيت كلّ المرحلة الابتدائية فيها. وهنا بدأ مفهوم الدين والانتماء الطائفي يترسخ لدّي بشكل أعمق، فمجرّد الانتماء لهذه المدرسة هو بمثابة إشهار علني أنك من عائلات حمص المسيحية والسنية ميسورة الحال، فالقول المتداول همساً: "المسلمين ولاد العيل، بحبوا يعلموا ولادهم بمدارس المسيحية لأنها مرتبة وفيها لغات".

كان ترديد شعار "طلائع البعث" مع بداية الدوام الصباحي من ثوابت أي مدرسة حكومية أو خاصة في سوريا، ولكن يترافق ترديد الشعار في مدرستي مع قراءة صلاة ما قبل الدرس على اعتبار أن المدرسة تتبع للطائفة الأرثوذكسية، وعلينا نحن الطلبة من مختلف الأعمار ترديدها يومياً بصوت عالي. كان فضولي يدفعني أحيانا لمراقبة شفاه زملائي المسلمين لأعرف هل يردّدون الصلاة معنا، أم يصطنعون تحريك شفاههم فقط كما اعتدت عند ترديد شعارات طلائع البعث والأغاني الوطنية؟.

راودتني العديد من الأسئلة عن أهمية ترديد صلاة ما قبل الدرس وما بعد الدرس أمام الجميع وفرضها على غير المسيحيين، ولماذا يجب أن أنفصل عن أصدقائي في الصف خلال حصة الديانة؟

ببراءة طرحت السؤال على المدرسة: "آنسة ليش ما ناخد الدرس مع بعض؟"، لتضحك وترد: "كل حدا لحال أحسن"، الابتسامة الخفيفة مع غمزة، وإيماءة بالرأس يمينا أو شمالا، هي كلمة السر والإشارة المفتاحية لضرورة الانتباه عندما يتمحور الحديث ضمن مجموعة عن شخص من دين آخر.

الأخوية.. كمكان للتعارف ضمن "الدين الواحد"

انضممت خلال المرحلة الابتدائية والإعدادية إلى "الأخوية"، وتعرف أيضا باسم مدارس الأحد. والمفارقة أنّه حتى الاسم له صبغة دينية (مدارس الأحد في يوم الجمعة!) فالعرف المجتمعي أن يوم الجمعة عطلة المسلمين، ومرتبط بصلاة الجمعة والأحد خاص بالمسيحيين.

أمضيت فترة زمنية لا بأس بها ضمن الأخوية وملتزمة بأغلب نشاطاتها الأسبوعية، كقراءة وحفظ نصوص وقصص من الإنجيل، بالإضافة إلى الجانب الترفيهي كالرحلات الخارجية والمخيمات الصيفية إلى الأديرة القريبة من حمص، ويقوم  بتيسير هذه الأنشطة مجموعة من الشابات والشباب الأكبر سناً منّا، ونناديهم احتراما "الأخ فلان أو الأخت فلانة".

لم يكن قرار المساهمة في هذا الملف سهلاً، انتابني الخوف والقلق من مشاركة ذكريات ومواقف شخصية مررت بها في مرحلة سابقة، ولم يكن لدي القوة والوعي الكافي حينها لمواجهتها، ولكن اليوم نحن بحاجة ماسة لمواجهتها والحديث عنها بشكل صريح ومباشر من دون الغمز واللمز، لنتمكن من بناء وطن نحلم أن يكون لكل السوريين والسوريات قائم على أسس المواطنة والمساواة لا الانتماءات.

كانت "الأخوية" بالنسبة لفتاة في بداية مرحلة المراهقة، مساحة ومكان للتعرّف على من هم مثلنا والتعرّف أكثر على هويتي وانتمائي الديني. وبالإمكان القول أنّ الأهل ينتابهم شعور بالراحة في حال التزام أولادهم وبناتهم بالمشاركة في مثل هذه النشاطات التي تشكّل فرصة للبقاء ضمن قوقعة "يلي متلنا تعو لعنا". الأخوية وكل أشكال التجمعات الدينية، بنظري اليوم ما هي إلا شكل بدائي لتطبيقات المواعدة والتعارف المنتشرة، مع اختلاف أساسي أنّ الجميع فيها ينتمي لدين واحد وتوّفر هذه المساحة غطاء وقبولا اجتماعيا لالتقاء وتعارف الشباب والشابات على بعضهم، ولا مانع من نشوء علاقة حب بينهم تنتهي بالزواج لأن "يلي بياخد من غير ملته بموت بعلته"، والملة هي الطائفة التي ينتمي لها الفرد.

بعد مشاركتي اليتيمة في المخيم الصيفي مع الأخوية، اكتشفت أنّ هويتي وقناعاتي بدأت بالتشكل بناء على إسقاطات وأفكار القائمين والقائمات على هذه الأخوية، مع تجاهل تام لأفكاري ورأيي الشخصي، توقفت عن الحضور والمشاركة في  النشاطات مع قناعة تامة أنّ الاعتماد على "الامتياز الديني" يساهم في خلق المزيد من الفجوات في المجتمع، وبالتأكيد ليس السبيل للوصول إلى العدالة والمساواة.

في الجامعة... "منقعد مع بعض"

الحالة الوهمية والخوف من التعرّف على الآخر لم تنته كلياً مع الابتعاد عن مجتمع الحارة "وهاد من جماعتنا ولا جماعتهم"، وبدأت تأخذ شكل جديد مع أول يوم لي على مقاعد كلية الآداب في جامعة دمشق، إذ نادتني زميلتي لأجلس قربها في الجهة الوسطى من المدرّج عوضاً عن اليسرى المخصّصة للطلبة الفلسطينيين بحسب ما وصل لمسامعها من دفعة الطلاب التي سبقتنا، "ليش قاعدة على اليسار؟ ما بتعرفي هي الجهة للفلسطينيين السوريين، نحن من اليوم هاد مقعدنا، ومنبقى مع بعض"، والمقصود بـ "نحن" مجموعتنا المسيحية المكونة من أربعة طلاب.

لاحقا تعرفت منها على سبب استخدام خالها لكلمة "ألماني" ضمن سياق حديثه عن شخص لا أعرفه، ووضحت لي: "في رموز منستخدمها وقت بدنا نحكي عن حدا من غير دين لهيك منقول ألماني يعني علوي، شموط يعني سني، هيك ما حدا بيعرف عن شو عم نحكي"، ليتبين لي أن هذه الصفات من أشهر الكلمات التي يتعلمها ويتداولها القادمون الجدد إلى دمشق، لإظهار الاندماج والتقرّب من المجتمع الجديد، أو استنكارا مبطنا للتمييز بين المواطنين، لم يكن لدينا الجرأة وقتها للإشارة المباشرة لدور النظام السوري في تعزيز هذا الانقسام الطائفي وفضلّنا "التعايش مع كذبة اللحمة الوطنية".

مع بداية الثورة في سوريا، وجدت نفسي بحاجة لتبرير موقفي منها، أنا المنتمية لأقلية دينية بالصدفة، وأستقبل رسائل الشكر والاستغراب من بعض الأصدقاء ممن افترضوا مسبقا أنّ كل المسيحيين في سوريا مؤيدين للنظام، فصديق مقاعد الدراسة الابتدائية وبعد انقطاع طويل عن التواصل كان ممنوناً وشاكراً "دعمي لقضيتهم وثورتهم" بقوله:

- إنت شو جابك لعنا؟

- وين عندكم؟

- يعني ع الثورة شو بدك من هالقصة! هي ثورة السنة على العلوية، بس براڤو ما توقعت إنك تكوني معنا.

بعدها بأيام قليلة تواصلت معي صديقة مشتركة من أيام الدراسة الابتدائية ومقيمة في أميركا لتقول:

- كتير انبسطت إنك مع الثورة، كل رفقات المدرسة ضدنا، الحمدالله لسه الدنيا بخير.

- هي ثورتي كمان، ما بدها تنبسطي، أنا مو مواطنة سورية قبل ما كون مسيحية وعندي حقوق ورأي بدي عبر عنه؟.

لم يكن قرار المساهمة في هذا الملف سهلاً، انتابني الخوف والقلق من مشاركة ذكريات ومواقف شخصية مررت بها في مرحلة سابقة، ولم يكن لدي القوة والوعي الكافي حينها لمواجهتها، ولكن اليوم نحن بحاجة ماسة لمواجهتها والحديث عنها بشكل صريح ومباشر من دون الغمز واللمز، لنتمكن من بناء وطن نحلم أن يكون لكل السوريين والسوريات قائم على أسس المواطنة والمساواة  لا الانتماءات.

 

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد