عن الشام والباركود الديموغرافي السوري (12)


"التائفية" لا مكان لها في سوريا التي يعرفها "السوريون البيض"، ليس لأنهم يجهلون وجودها لدى "الآخر"، وإنما لأنهم يعلمون أنها أداة توّظف عليه هو فقط وليس عليهم. الجهل بالطائفية أو إنكار وجودها هنا يتناسب طردا مع ارتفاع المستوى الثقافي والمالي للمتحدث!

28 أيلول 2018

(سور دمشق وأبوابها. الصورة مأخوذة من موقع نسيم الشام وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)
مايا أبيض

صحفية وسينمائية ومدربة سورية، مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإعلامية.

 

(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية)

طلب مني المشاركة في ملف التراث الشفهي الطائفي بصفتي "شامية من جوا السور" لأتحدث عن النظرة التقليدية لهذه الفئة تجاه بقية المكونات الديمغرافية السورية. كان من الواضح من صياغة الطلب أن المحرّر (بحكم المعرفة) ينظر إلى الشوام على أنهم فئة ديموغرافية فوق طائفية، وإن كانوا بغالبيتهم من المسلمين السنة. فهو في طلبه مني أكّد على كون الملف لا يتناول الطائفية فقط، وإنما المكونات الديمغرافية المختلفة. فعلا إنّ الحديث عن العنصرية القومية (العربية - الكردية) كان حاضرا في عدة مقالات أيضا، إلا أن الطبقية يبدو أنها "صُمِّدَت" للحديث عن الشوام!

حاولت التملص في البداية، بحجة أنّ عملي الصحفي اقتصر في غالبيته على الصحافة الإستقصائية، وأنّ صحافة الرأي في سوريا بالتأكيد لا ينقصها المزيد من الأصوات، ثم بحجة أنّ الطائفية في الحي "المرتب"، المختلط طائفيا الذي نشأت فيه لم يكن لها الكلمة الفصل ديموغرافياً، كما لاحظت عند اختلاطي ببقية أحياء بلدنا المتنوّع، عبر مجموعة من الصداقات والأنشطة والمغامرات التي لم تكن جميعها بالضرورة مرحبّا بها، لا من قبل محيطي، ولا المجتمعات التي تعرّفت عليها، إلا أنّها كانت من أهم مصادر تعرّفي على  طبقات سوريا المركبة.

تلتها الحجة الجندرية، وهي أنّ التعاطي مع الطائفية و"توريثها" للأبناء لا يتم في سوريا بنفس الدرجة للإناث كما للذكور في جميع الطوائف، فالذكور هم "العصبة" وحملة اسم العائلة وناقلي طائفتها للجيل التالي، وما إلى ذلك من عنصرية جندرية مقنّنة وممنهجة: لا يذكر اسم عائلة الأم في الأوراق الرسمية للأبناء الذين يتبعون طائفة الأب حصرا دون تخيير، وتجبر الزوجة على الانتقال إلى خانة زوجها في السجلات المدنية. لا اعتبار لانتماءها إذا، هي ملاك ينتقل من هذا الذكر لذاك، فلا يربّى فيها شعور بالانتماء العصبوي كما يزرع في الذكور لأن عليها البقاء مرنة لتناسب المالك الجديد.

تبدو الإناث في هذه المنظومة من أملاك الطائفة ولسن ملاكها، أو على الاقل، للذكور في سوريا مثل حظ الأنثيين من الطائفية.

رب ضارة نافعة!

ثم جاءت الحجة الأخيرة، وهي أنّي قضيت الجزء الأكبر من طفولتي ومراهقتي خارج سوريا، ولم أبدأ بالتعرّف على هذا الجانب من المجتمع السوري حتى مرحلة متأخرة من المدرسة وبشكل أكبر خلال سنوات الدراسة الجامعية، وبالتالي ذاكرتي عن الموروث الشفهي لهذا الموضوع ضحلة جدا.

عدت بعدها لمقولة "ابدأ بنفسك"، وأنا أعرف جيدا ندرة عدد الشوام الذين يتطوعون، أو يتجرؤون، على نقد المجتمع الشامي وعنصرياته جهارا، فـ "اللوبي الشامي" من عشّاق ياسمينات بردى الجاف، ليس هينا على الإطلاق على الصعيد السوري، ويحسب له حتى المعارضين حساباً، رغم كونه مؤيداً في غالبيته. قد تؤدي الخلافات السياسية إلى استقطاب إلا أن المركزية الرأسمالية للعاصمة (والعائلة) تحافظ على خط الرجعة.

يقابل ذلك من الطرف الآخر، أولئك اللذين قرّروا البناء على سرديات معروفة عالميا عن "البياض" الاجتماعي وتجلياته المختلفة في أجزاء أخرى من العالم، بغضّ النظر عن التصنيف العرقي لشعوبها. هذا "البياض" هو مركب اجتماعي تاريخي، لا علاقة كبيرة له بلون الجلد، وإنما يرتبط أكثر عادة بلون "جلدة" جواز السفر وعدد الأصفار في الحساب المصرفي.

قد يكون أبناء أسرة ريفية متوسطة الحال أقرب لأبناء أسرة مدينية متواضعة مالياً، وإن اختلفت طوائفهم، إن لم يكن من عداء سياسي "حابك" بين الطائفتين في تلك الفترة

من غير الممكن طبعا المساواة بين "البياض الأميركي" مثلا، وما يطلق عليه "البياض السوري"، وفي إغفال الفروق بينهما الكثير من الإشكاليات. من أهمها أنّ نسبة لا يستهان بها من "الامتيازات" التي يتمتع بها هؤلاء السوريين هي ليست امتيازا ابتداءً، هي مجرّد حقوق يجب أن يتمتع بها الجميع. حرمان الغالبية منها جعلها تبدو امتيازا في نظرهم، وهو أمر خطر لأنه يمثل الخطوة الأولى إلى الوراء في معركة تحصيلها. بالمقابل، أعرف أنّ عديد التقاطعات تجعل من استعمال هذا المصطلح حلاً عملياً سريعاً في سوريا اليوم، لذلك أستعمله على مضض. وبغض النظر عن نقاط الالتقاء والاختلاف بيننا، أعرف أنّ هذا الطرف أيضاً لن يرحب بمداخلتي. فهي إذن، باتت ضرورية!

قبل الثورة

أذكر أنني قبل الثورة بعدّة سنوات، وضعت نظرية اجتماعية اسميتها "الباركود الديمغرافي". نعم، أسميتها بهذا الاسم من باب السخرية من الذات. أسميتها حينها "نظرية اجتماعية" كما كنّا وصحبي نحب أن نسمّي آراءنا الاجتماعية، حيث أنّ امتلاك رأي حينها كان تهمة وتحدّ لا يتجرأ عليه أحد من أبناء جيلي. فلا بد من الاعتذار عنه بالتسميات الساخرة حتى لا يبتلعك جهابذة المثقفين من الجيل الأسبق.

بدأت عادة "النظريات الاجتماعية" لديّ في سنين المراهقة، عندما انتقلت أسرتي للعيش في سوريا. كنت قبل ذلك، أعيش في فقاعة تصنيف "بلاد الشام"، لا فرق كبير فيها بين سوري ولبناني وفلسطيني نظرا لأننا جميعا غرباء عن المجتمع المحلي. لم أكن أعرف قبل القدوم إلى سوريا: ما الفرق بين الشيعي والشيوعي؟ إلا أنني تعلمت درسا قاسيا عندما أخطأت وسألت والدة صديقتي الكورية، إن كانت من كوريا الشمالية أو الجنوبية. اتسعت حدقتا صديقتي وعضّت على شفتيها وهي تنظر إليّ بارتياع لجرأتي على السؤال عن ما هو مفروغ منه لهذه الدرجة، نظرت إلى والدتها التي صمتت هنيهة، ثم أجابت باقتضاب دون أن تنظر إليّ: "الجنوبية، طبعا". الحق أني حينها لم أكن أعرف أيهما هي الشيوعية حتى! لكن بالنتيجة أتيت لسوريا وأنا على علم بحساسية التصنيفات الديمغرافية وجذورها السياسية لدى الكثير من شعوب العالم. وإن لم أكن أعرف بالضرورة ما هي هذه التصنيفات وأصولها بالضبط. لم تكن المشكلة فقط أن "الحيطان لها أذان" أي استخباراتية، المشكلة أعم وأقدم.

(جانب من سور دمشق القديم، والصورة مأخوذة من الأنترنت وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

إلا أنني لم أكن أتوقع أن تبلغ التصنيفات الديموغرافية السورية مرحلة "تطريز الفن" كما يقول الشوام. بدأت بالتدريج اكتشاف أنواعها: المالية (فقر وغنى)، القومية (كردي وعربي عارب أو مستعرب أو أرمني أو شركسي أو سرياني)، العرقية (أشقر أم أسمر بتنوعاتهم)، الجندرية (بتدرجاتها التنميطية للجنسين، فالذكر اللطيف ليس رجلا والأنثى القوية نصف رجل)، القبلية (والنسخة المدينية منها المتجلية باسم العائلة)، الطائفية الثقافية (المرتبطة بدرجة التعليم وقدم توارثه في أجيال العائلة)، الاستعمارية (المرتبطة بالمعسكر الأجنبي الذي تميل إليه العائلة من حيث اللغة الثانية والثقافة أو السفر والجنسية)، العمرية (ذهلت باكتشاف درجة عدم الاحترام للأطفال)، المهنية (من موظفين أو تجار أو أصحاب مهن مستقلة أو فلاحين أو حرفيين)، المناطقية (بين الريف والمدينة وأيضا بين المدن المختلفة)، السياسية (من حيث وجود أو عدم وجود موروث ممارسة سياسي في العائلة ونوعه)، الطبقية (وهي مركب اقتصادي ثقافي مناطقي قبلي).

اللائحة تطول، ولا أبالغ بالقول أنّي قضيت عقداً من الزمن وأنا أكتشف أنواعها وتجلياتها المختلفة، ولا أزال أتفاجأ باكتشافات جديدة، تشكّل في مجموعها ما أسميته "الباركود الديموغرافي"، أسوة بالشيفرة التي تعطي كلّ منتج في السوق هويته الفريدة التي يمكن للأجهزة قراءتها دون الحاجة لأرقام شديدة الطول. ما يميّز الخطوط في الباركود ليس فقط طولها، وإنما عرضها أيضا والبعد بينها. مثلا قد يكون أبناء أسرة ريفية متوسطة الحال أقرب لأبناء أسرة مدينية متواضعة مالياً، وإن اختلفت طوائفهم، إن لم يكن من عداء سياسي "حابك" بين الطائفتين في تلك الفترة. بينما قد يصل الخصام أشدّه بين جيران الحارة الواحدة من نفس الطائفة، بين أستاذ الجامعة المتحرّر والتاجر المحافظ. هي علاقة أكثر تركيبا إذاً من مجرّد طائفة عائلة الأب أو خانة سجل القيد المدني.

"عوامل التثقيل" التي تزيد من عرض أحد الخطوط عوضا عن طوله، تختلف تبعا للظروف. في كتابه الشهير "الهويات القاتلة" رأى أمين معلوف، أنّ التهديد هو أهم عوامل التثقيل: العنصر المهدَد من الهوية المركبة هو الذي يتشبث به الفرد ويطغى على بقية مكونات هويته. إلا أنّ هناك عوامل تثقيل أخرى، بالترغيب وليس فقط الترهيب. الندرة مثلا هي عامل تثقيل مهم للمكون الديمغرافي، لكنها لا تعني بالضرورة تعرّضه للتهديد. يعرف ذلك جيدا أثرى ٥٪ في أي بلد بالعالم.

التعارف السوري

النتيجة الوحيدة التي أضحيت متأكدة منها بعد سنين من المراقبة الحذرة، هي أن "سيرفر" أو مخدم العقل السوري يعمل بأقصى سرعاته في الدقائق العشر الأولى من التعرّف على سوري آخر، في مسح أو "سكان" سريع لهذه الشيفرة الديموغرافية:

  • مرحبا، أنا فلان/ة الفلاني
  • - أهلا وسهلا، تشرفنا. فلان الفلاني يقربك؟
  • لا أنا من القسم ال…. من العائلة، لا قربات تربطنا رغم تشابه الأسماء
  • أه إذا انتم من ….؟
  • نعم الأصل من هناك، إلا أن عائلتي تعيش في … منذ سنين.

تتم هذه المحادثة أثناء المسح البصري طبعا، حيث ينتبه السوري للون بشرة أخيه في الوطن وعينيه وشعره، نوع هندامه وأكسسواراته، اللكنة التي يتحدث بها، تضاف الإجابات إلى كل ذلك، في ضوء المناسبة التي جمعتهما في نفس البقعة الجغرافية أو المحفل الاجتماعي أو المهني، ليتم تشكيل الشيفرة الديموغرافية ذهنيا عند السائل. عند ذلك، يكون قد تمّ التعارف.

تجلّت أهمية الشيفرة الديمغرافية بعد الثورة بوضوح أكبر في كونها عماد النظام في التعامل الأمني مع المواطنين

على الرغم من اعتيادي على هذه الطقوس منذ سنين، إلا أن سؤال "من وين حضرتك" لا يزال يربكني حتى اليوم. فمن جهة، لا يعنيني الرأي الذي سيكوّنه السائل بي بناء على إجابتي، وبالتالي لا أجد داع للاستفاضة في الشرح. من جهة أخرى، أعرف أنه سيمعن في القراءة بين سطور إجابتي المقتضبة مما سيطيل الحديث المزعج أكثر عليّ، فأتوخى الوضوح لأختصر اللعبة المكرورة إياها، إذ يبدأ الحديث: من وين حضرتك؟

  • من الشام
  • من وين من الشام؟
  • من نفس الشام، من دمشق
  • إيه بس الشام كبيرة
  • بتريد تعرف خانة نفوسي على الهوية ولا عنوان السكن الحالي ولا وين ربيت؟

هنا يبدأ التردّد عند الغالبية (ربما يتوقعون أن الثلاثة متطابقين؟) إلا أنه عادة ما يهمهم أصل العائلة من أين. "أتوضأ بعدها باللبن" (مثل يعني أن أستعد لخوض تجربة غير لطيفة أو أن آخد حذري وأحتاط لأن ثمّة مشكلة أو أخبار غير جيدة متوقعة)، استعدادا لردود الفعل. سبق أن أجابني أحدهم غير مصدق:

-من الحي الفلاني وسبور؟! هلق هيك صفيانين أهل هالحي؟

الحق أنها كانت ردة فعل مريحة مقارنة برأي المئات غيره ممن قالوها، لكن بمواربة أكثر. وصل النقاش في إحدى المرات أني أخرجت هويتي الشخصية وأريتها لزميلي في العمل الجديد ليصدقني، فبنات الشوام "مالهن هيك"، وطبعا يتم التملص عن الإجابة عن المقصود بـ"هيك".

عبر السنين استشفّيت أن "الهيك" هي أنّ على الفتاة الشامية أن تكون أكثر محافظة وخجلا في الأحياء المتوسطة أو الفقيرة، وأكثر تصنّعا ورسمية في الأحياء الأغنى، وبجميع الأحوال، عليها يقينا أن تكون أكثر اقتضابا وسلبية أو "تقيلة ومدللة" كما يسمّى ذلك مواربة.

فلا يحصل عادة أن تجد شامية من سكان المكان الذي نشأت فيه تركن سيارتها الحديثة في حي الميدان مثلا، ثم تدور راجلة على أصحاب دكاكين بيع الجملة لتطلب منهم المشاركة في استبيان للرأي حول منتج استهلاكي ما لصالح الشركة التي تعمل بها أثناء دراستها الجامعية. رحم الله والدي وتلك السنوات التي "نزعت تربايته" أثناء دراسته في الغرب، ها هي بنات هذا الجيل تأتي لتربك "سكانر" شفرتنا الديمغرافية "ببياضهن" المستورد الجديد!

لم أكن حينها أفهم سبب ارتباكهم وتردّدهم بالإجابة على أسئلتي البسيطة، رغم عدم رفضهم المشاركة. كنت مريبة ديموغرافيا بالنسبة لهم، مما يعني أن عليهم توخي الحذر. كان ذلك تدريبا جيدا لما سيواجهني من ارتباكات ومخاوف لاحقا في عملي الصحفي بعد الثورة في مناطق أخرى من سوريا.

سكانر "خطبة الأهل"

قبل الثورة، كان التجلّي الأكبر لأهمية الشيفرة الديموغرافية في كونها عماد التهجين الأسري المتعارف على تسميته "خطبة أهل". تملك النسوة الأكبر عمرا هنا أقوى سيرفر سوري على الإطلاق. تعرف ذلك الفتيات المراهقات أكثر من أي أحد آخر: "تعي حبيبتي تعي هاتي بوسة يئبشني هالوش شو كبرانة وصايرة صبية اسمالله"، يحجبها بعد ذلك عن "أخد المدس" الحد الأدنى من التطور الثقافي التي أجبرت على الانصياع له مع بنات هذا الجيل (وأخذ المدس يعود لعادات عتيقة لنظام خطبة الأهل. هو إحدى مراحل فحص العروس أو الخطيبة المستقبلية فيزيولوجيا: أي أنّ يقوم أهل العريس بتقديم ثمرة جوز بهدف فحص أسنانها وقوتهن، وأحيانا يسحبوا شعرها ليتأكدوا أنه طبيعي ولا وصلات فيه، وأحيانا "بياخدوا مدس"، وهو يعني مسك جسمها وتحديدا الصدر ليتأكدوا أنه طبيعي و لا حشوات فيه أو عيوب ثانية! ومع الوقت صار المصطلح يستعمل للهضمنة والاستهزاء كناية عن بعض أنواع التحرش الجنسي من الرجال ضد النساء).

(باب كيسان أحد أبواب دمشق القديمة، والصورة مأخوذة من ويكيبيديا، وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)

إلا أن سكانر تقدير الطول والوزن وطبيعة لون الشعر والعيون بدقة يكون قد تم، بعد أن عرفت بالتأكيد أصل عائلة الأم والأب (الطائفة والقبيلة) وعنوان السكن (الحالة المادية) ومهنة الأب و شهادة الأم (النوع الثقافي)، ويبقى أن تسألك "بأي صف إنتي حبيبتي؟" لتقدر العمر. تنظرين بعدها إلى عينيها التي تكاد لا تراكي وهي تستمر في التحديق المباشر بك، لترين السيرفر يجري بأقصى قوته وهي تستحضر في ذهنها شيفرات الذكور العزاب في جعبتها الذين يتوافق باركودهم مع باركودك وفق المعايير الديموغرافية الشامية… كم كان كريها حضور أعراس النساء في دمشق!

بعد الثورة

تجلّت أهمية الشيفرة الديمغرافية بعد الثورة بوضوح أكبر في كونها عماد النظام في التعامل الأمني مع المواطنين. وهو أمر لا يجهله سوري سبق له أن مرّ على حاجز أمني طلب رؤية هويته. أما بعد الشتات، فيذهلني إلى اليوم اتساع انتشار "الجوكر الشامي" خارج حدود سوريا السياسية. سائقو التكسي في بيروت مثلا، يعرفون أسماء أحياء دمشق و"إعرابها الديمغرافي" أكثر من أبناء حلب. ويمتد العرف حتى يصل اسطنبول، حيث يسألك التركي من أي قسم من سوريا أنت، وينالك الرضى إذا قلت أنك من الشام. لست هنا بصدد البحث التاريخي عن جذور هذه الظاهرة، إلا أن العنصرية "الإيجابية" التي كانت مزعجة اجتماعيا أثناء مراهقتي، أصبحت عارا مثقلا بالدم اليوم.

الكل يعلم أن الشامي لا يتمتع بألطف سمعة عند بقية المكونات السورية، لا سيما من حيث الكرم والشفافية. حتى أن الكثير من الشوام أنفسهم لا يتوارون عن المشاركة في السخرية بهذا الشأن، فالشامي الذي حصل على بيتين في الجنة، باع أحدهم وأجّر الآخر وسكن في جهنم، وفق النكتة الشهيرة.

لم أذكر إلى الآن أيّة معلومة جديدة على القارئ السوري. الكل يعلم أن الشامي لا يتمتع بألطف سمعة عند بقية المكونات السورية، لا سيما من حيث الكرم والشفافية. حتى أن الكثير من الشوام أنفسهم لا يتوارون عن المشاركة في السخرية بهذا الشأن، فالشامي الذي حصل على بيتين في الجنة، باع أحدهم وأجّر الآخر وسكن في جهنم، وفق النكتة الشهيرة.

والعرف يقول "الهدمة قبل اللقمة" (مثل يحكي عن ترتيب الأولويات، وهو يعني أن المظهر الخارجي والواجهة الاجتماعية أهم من الأكل والعادات الاستهلاكية الشخصية الفردية. والبعض ينظر له بطريقة اقتصادية تعني أنّ الاستثمار بالأدوات والأغراض التي تعيش فترة طويلة أهم من الأكل والمواد الاستهلاكية التي تنتهي بسرعة)، لأن الواجهة الاجتماعية أهم من طبيعة الحياة المعاشة يوميا.

نظرية الصمود الشامي

أذكر أنّه في إحدى جلسات ما كان يعتبر "حديثا سياسيا" لدى رجال العائلة في التسعينات، وأثناء الخوض في "تغوّل الصهيونية العالمية" وإمساكها بمقاليد المال والنقد العالمي، تساءل أحدهم: "هاليهود ما خلوا حدا ما ابتزوه وسرقوا منه، إلا الشوام!" جاءته الإجابة من ابن عمه سريعة: "لأن الشوام يهود أكتر من اليهود!"، متبوعة بسيل عارم من الضحك. على خلاف ذكور العائلة، أترك تحليل ارتباطات الاقتصاد السوري السابقة والحالية بالنظم المصرفية والنقدية العالمية لأهل الاختصاص. لكن ما أعرفه يقينا، هو أنّ الشامي لا يرى أيّ حرج في "حرصه" المالي وحصافته التي مكنته وفق الرأي الشامي السائد من الصمود عبر تاريخ المدينة العتيقة.

توصلنا نظرية "الصمود الشامي" إلى الجانب الأهم سياسيا، وهي تجنّب المواجهة بأي ثمن. "الإيد اللي ما بتقدر عليها، بوسها وادعي عليها بالكسر". الشامي تاجر وليس سياسي، فالسياسة لعبة خطرة ومتهورة، الشامي أبعد نظرا وأقل أدلجة من ذلك، النجاة هي بوصلته. هو نهج يفخر "بحكمته" الشوام بينما يعايرهم به كثير من السوريين على أن "الذي يأخذ أمهم يصبح عمهم". لكن الشوام يدّعون أنّ الأمر ليس بهذه البساطة. مثلا حين دخل الجنرال غورو محتلا إلى دمشق، تسابق لحمل عربته بدل جيادها أبناء عدّة عائلات شامية، كان عمي لا يزال يذكر بعض الأسماء منها حتى وفاته.

في المقابل، يشتكي العديد من سكان دمشق القدامى (غير الشوام) الذين أعرفهم من عنصرية الشوام ونظرتهم الفوقية لغير الشامي، وإن تبادلوا الملاطفة والمجاورة وحسن العشرة لأجيال متعاقبة. بينما يصر العديد من الشوام أنّ مشكلتهم هي طيبة قلبهم، وأنّهم "أهل الخطي" الذين يشفقون على الجميع فلا ينالهم إلا نكران الجميع، وذلك عند الحديث عن سكان المدينة من غير الشوام اللذين قطنوها لأجيال!

جوا السور أم خارج السور!؟

لا أعلم بالضبط منذ متى بدأ تراكم المكونات السياسية الطائفية العرقية الاقتصادية لما تم اختصاره لاحقا بعد التقنين العثماني لقيد النفوس بأنه "جوا السور"، أي سور مدينة دمشق القديمة التي لا تزيد مساحتها عن عشر مساحة العاصمة السورية اليوم. إلا أن التراتبية الشامية تبدأ بالريف وضواحي المدينة، ثم تنتقل لمن سجّل قيد نفوسه على أنه ضمن مدينة دمشق الإدارية، ثم تنتقل لمن هم من الأحياء الداخلة ضمن سور المدينة القديمة أو من الأحياء خارجها، ثم للفروق بين الأحياء ضمن السور، ووصولا إلى رقم الخانة ضمن الحي نفسه. أفكر بالمساحة التربيعية التي نتحدث عنها هنا، فلا يسعني إلا أن أتذكر والدة صديقتي الكورية!

الريبة الديمغرافية تلك التي كنت أسبّبها أيام السلم كانت أداة مفيدة لي في تعاملي مع عناصر الأمن السوري المجبولين على الإسطوانة الديمغرافية إياها. من جهة، سائقة السيارة الشامية غير المحجبة، هي من تتسع الابتسامة لها على الحواجز الطرقية، لدرجة أني أذكر أني في إحدى محاولاتي الدخول لضاحية شبه مغلقة أمنيا، كانّ عليّ القيادة عكس السير على المتحلّق ومن ثم لعب دور الشقراء الهبلاء أمام الحاجز الذي شعر بالأمان تماما تجاه الصبية ذات القميص الصيفي دون أكمام. لم يكن تعاونه نابعا من أي احترام تجاهي بالطبع، على العكس، هو لا يرى في المرأة حتى ندية كافية للقلق، رغم تعمّده التعامل بعدوانية مع قريباتي المحجبات. من جهة أخرى، لم يكن من السهل عليّ أبداً نيل ثقة سكان المناطق الثائرة حتى يتأكدوا من نفوسي الشامي واسم العائلة السني. بالنظر للتغوّل الأمني و"الفسافيس" في كل مكان، كانت مخاطرة كبيرة مني أن أظهر هويتي الشخصية أمام الغرباء وأنا أعمل تحت اسم مستعار، إلا أنني اضطررت لذلك في عدد من المواقف الحرجة.

من الغريب أنّ جدليات الثورة السورية، حتى العلمانية المناهضة نظريا للطائفية منها، والتي اشتهرت بإحراقها الأخضر واليابس، وأنّ أحدا لم يسلم من لسانها، لا تزال تتجنب الحديث عن "الطائفة الطبقية" الأقوى في سوريا

أكاد الآن اسمع أحتجاجات صديقاتي اللواتي بقين في دمشق "ناقصهن حجة يستلمونا إحنا كمان هلق!"، بما أنني أفضح أسرار التخفّي الشامي التي لا يزال الأمن السوري يدّعي عدم علمه بها ظاهرياً. إلا أنّ الحقيقة أن التحالف الشامي الأسدي، كالتحالفات الطبقية التجارية الأقل شهرة بين النظام وأثرياء بقية المدن السورية، بات من الوضوح بحيث لا يمكن، ولا يجدر، تجنّب الحديث عنه بوضوح مماثل. جميعنا نعرف أنّ المجند العلوي على الحاجز لم يكن يملك قرار الموقع الذي وجد نفسه فيه فجأة قدر ما ملك جيراننا من أطباء ومحامين مواقعهم، إذ استعدوا منذ أجيال لمثل هذه المواجهة ورتبوا بدقة تموضعهم خلالها، حتى ربوا أبناءهم على كيفية التصرف أثناءها: "انتوا مو دوركن هلق بنتي، إنتوا وقتكن بعدين". تقول قريبتنا ذات الجنسية الأميركية ونحن نحتسي القهوة بهدوء على تراسها المطل على القصر الرئاسي في منطقة المالكي، ونحن نسمع أصوات القصف الصاعد من قاسيون باتجاه الغوطة.

من الغريب أنّ جدليات الثورة السورية، حتى العلمانية المناهضة نظريا للطائفية منها، والتي اشتهرت بإحراقها الأخضر واليابس، وأنّ أحدا لم يسلم من لسانها، لا تزال تتجنب الحديث عن "الطائفة الطبقية" الأقوى في سوريا.

"من المهم أن لا نترك البلد لهم"، تهمس عمتي بخفة في أذني: الحفاظ على شعرة معاوية يقتضي انقسام الطائفة الأكبر عددا بين مؤيد ومعارض لضمان استمرارها واستمرار نفوذها، حتى وإن تطلب ذلك الوصول إلى التنصل التام من البقية، فيما يعتبره أولئك (الأقل حظا ماليا من الطائفة)، خيانة و"تنكر للأصل".

الطائفية الطبقية

تتراكم طبقات وأنواع العنصرية في هذه النظرية بتقاطع، كان سيكون شيّقا لو لم يكن داميا لهذه الدرجة: فالشامي السني الغني ينتمي فقط لهذه الفئة الضيقة (لندرتها) ولا يعنيه السني الفقير في أرياف سوريا كثيرا. أما الأخير، فلا يرى من العنصرية الديمغرافية السورية إلا ما جهد النظام على إظهاره له: فقط الطائفية، للتغطية على الطبقية الاقتصادية.

الفقر ليس نادرا، فهو ليس عامل تثقيل ديموغرافي مهم كالغنى. لذلك يسهل تقسيم الأفقر طائفيا أكثر من الأغنى، فضلا عن دور المادة في توفير الفرص لتطوير صاحبها ثقافيا.

من جهة أخرى، وعلى خلاف حلفائه، ما يمكن أن يجمع الأسد مع أتباعه، ليس دوما الفائدة المتبادلة، وإنما الطائفية فحسب أحيانا. لن يرسل الناس أبناءهم للموت في سبيل المال فقط، ولا في سبيل شخص هم أدرى بفساده وزيفه، إلا إن تمكّن من إقناعهم بتهديد وجودهم وهويتهم، وذلك عن طريق اختصار تلك الهوية بالطائفة.

التعمية الطائفية الممنهجة، كانت الحل الأمثل للتغطية على التحول المتطرف المفاجئ من الاشتراكية الفاشلة إلى النيوليبرالية الفجة إثر استلام بشار الأسد للسلطة في بداية القرن. مثلا، لا يزال حتى اليوم غالبية السوريين لا يرون في اختيار بشار الأسد لزوجته سوى أنه صاهر أثرياء السنة، دون أن يلحظوا الحقيقة العالمية بأنه تزوج مصرفية استثمار بريطانية! فالحمى الطائفية المحلية تأتي قبل الاعتبارات الأجنبية في سلم العنصرية الديمغرافية السوري، وهو فن أتقنه نظام الأسد ولم يخترعه، كما أتقن اللعب على أصدائه العالمية من إسلاموفوبيا وصناعة إرهاب متعاون لأقصى الدرجات، لم يكن هو من اخترعهما أيضا.

الأطماع الاقتصادية المستترة وراء صراعات الهويات ليست بالتأكيد براءة اختراع أسدي، فهي حيلة قديمة قدم التاريخ. إلا أنّ من يعيش تحت السلطة المطلقة لهذه الحيلة طوال حياته، يصعب عليه تصديق أنها مجرّد واجهة لأطماع شديدة البساطة، مثل قانون العقارات رقم عشرة الصادر مؤخرا في سورية. لم يخف جيراننا من كافة الطوائف في البناء المطلّ على منطقة العمار المخالف تلك "تقريشهم" للقفزة التي ستنال أسعار شققنا إذا تمكن النظام من اقتلاع أهل الحي الثائر من أراضيهم وتنفيذ المشروع السكني الضخم الذي حلم به لسنين. مرّة أخرى، لم يخترع النظام الأسدي إبادة التخطيط العمراني المديني "Urbacide" ولا يتفرّد بها للأسف.

أصل هنا للسبب الحقيقي إذا لتجنبي المشاركة في هذه السلسلة من المقالات: على الرغم من أهمية المصارحة الطائفية اليوم، ونظر كل منا بصدق تجاه عيوبه أولا قبل توجيه الاتهامات للأخر، إلا أنّ الطائفية بمعناها البسيط هذا لم تعنيني يوما، كما أعرف أنها لطالما وظفت، ولم تحدّد وحدها، التوازنات السياسية عبر تاريخ بلدنا (المعاصر على الأقل). الأسطوانة البيضاء المهترئة لأبناء حارتي بأن "التائفية" لا مكان لها في سوريا التي نعرفها، ليست دخانا بلا نار.

فمن جهة، لعب التمازج المديني والتقدم الثقافي في الحواضر الكبرى دورا فعالا إلى حد ما منذ الاستقلال في بناء هوية سورية انتمى إليها فعلا بعض من تمتع بحماية قوانين الدولة وخدماتها وشعر بالحد الأدنى من المواطنة فيها. من السهل اليوم نسيان ذلك كأنه كان سرابا في ظل الصدمة التي نعاني جمعيا منها، إلا أنّه كان واقعا معاشا لدرجة لا بأس بها في عدد من المناطق، من غير المفيد إنكار ذلك تماما.

ومن جهة أخرى، فإنّ عدد معين من الأصفار على يمين كشف الحساب المصرفي، قادر على خلق تلاحم ووحدة وطنية لا مثيل لها سوى في صفحات كتب القومية المهترئة. كما أسلفت، يزداد التشبث أو عامل التثقيل بالمكوّن الديموغرافي طردا مع ندرته، لذلك فإنّ العنصر والمكوّن الأقوى سيطرة على أبنائه، هو المكون الذي يسعى دوما إلى الحفاظ على أقل عدد ممكن من الأفراد: العامل المالي. الانتماء لطبقة العشرة بالمئة الأثرى قد يكون مرغوبا، إلا أنّ الانتماء للخمسة بالمئة الأثرى أهم. أمام هذه الندرة المتجددة، تهمل بقية العناصر المكونة لدرجة كبيرة، لذلك نجد أثرياء السنة غير آبهين بالطائفية التي تجمعهم بفلاحي الريف مثلا، في حين يعتبر هؤلاء أنّ الطمع قد أعمى قلوب الأثرياء حتى تنكروا لهويتهم، في حين استمر النظام بضخ التمويل والعنف طائفيا ضد الأكثر فقرا. الحق أنّ أحدا هنا لم يتنكر لشيء ولم يغفل عن شيء. هي منظومة ديمغرافية واحدة لدى الجميع، يراها كلّ في ضوء ظرفه.

"التائفية" لا مكان لها في سوريا التي يعرفها "السوريون البيض"، ليس لأنهم يجهلون وجودها لدى "الآخر"، وإنما لأنهم يعلمون أنها أداة توّظف عليه هو فقط وليس عليهم. الجهل بالطائفية أو إنكار وجودها هنا يتناسب طردا مع ارتفاع المستوى الثقافي والمالي للمتحدث!

"عدم وجود" الطائفية في مجتمعك يعني أنك تعيش في بيئة أقوى من أن تخضع للتوظيف الطائفي الأمني للنظام، غالبا بفضل قدرتها المالية و/أو الثقافية، وبالتالي هو أمر يتفاخر فيه أبناء هذه البيئة.

لست أوجه هنا الاتهامات أو أنكر أهمية التقدم الثقافي الذي أحرز نتيجة الجهد المقدّر الذي بذلته الأجيال السابقة لردم الهوة الطائفية التي فرّقت بين أجدادهم الأقدم. وقد سبق وذكرت تحفظاتي حول الطريقة التي يوّظف بها مصطلح "السوريين البيض" أحيانا. إلا أن لعبة القط والفأر بالإنكار أو ادّعاء الجهل، بدل مواجهة الواقع والتعاطي معه بإيجابية مثمرة أكثر، سيؤدي بطبيعة الحال لشعور الآخر بعدم الصدق في التعاطي معه. لا يفيد ذلك أحدا، و"حلنا" أن نتجاوزه.

نريدك حاقدا

من أعنف الأدلة التي أراها على ذلك، تكرار الرواية ذاتها لدى عديد المعتقلين: ينظر المحقق في عيني المعتقل في وسط جلسة التعذيب، ويقول له "نعم، اشتم، واحقد. نحن نريدك هكذا: حاقدا". ليس السبب فقط هو عمى البصيرة التي يصاب بها الغاضب الحاقد، والتي تعود عليه بالضرر أكثر مما تعود على عدوه. هو قد يكون أيضا نوع من محاولة التساوي: تحقد الفئة المضطهدة على مضطهديها. هذه هي القاعدة. إذا لم تحقد على فئة ما، فأنت لا زلت لا تعترف باضطهادهم لك. أنت لا زلت لم تضع نفسك في خانة الضحية المضطهدة، وفي ذلك استمرار لانتصارك عليهم. في الوقت الذي لم يسمح فيه النظام للأقليات بعد بالخروج من دائرة الخوف والاضطهاد التي مورست ضدهم سابقا، والتي حافظ آل الأسد على توظيفها لصالحهم في نصف القرن الأخير، عبر أخذهم كرهينة محبوسة في شعور المظلومية.

إن لم تحقد على الأقلية المسيطرة أمنيا بعد كل ما فعلوه، لم تعترف بعد لهم بالانتصار عليك، ولم ينجح انتقامهم الطائفي. هذا هو منطق الكره لدى النظام الطائفي الأمني المريض

إن لم تحقد على الأقلية المسيطرة أمنيا بعد كل ما فعلوه، لم تعترف بعد لهم بالانتصار عليك، ولم ينجح انتقامهم الطائفي. هذا هو منطق الكره لدى النظام الطائفي الأمني المريض.

أكتب ذلك ثم أنتبه لنفسي، بما قمت به في هذه المقالة الآن: طلب مني أن اكتب عن نظرة الشوام لبقية المكونات، فكتبت فقط عن الشوام أنفسهم. الحقيقة أني لم أسمع الكثير من عائلتي عن بقية المكونات، ليس لغياب النظرة النمطية، ولا فقط من باب الحرص على عدم تربيتي على الثقافة الطائفية، وإنما أيضا، لعدم الاكتراث!

سوريا تقسم إلى الشوام وغير الشوام فقط لدى عدد غير قليل من المحيطين بي، إذ أذكر أنه في إحدى الجلسات العائلية، بدأت إحداهن بالحديث عن "توغلهم في البلد" ومؤسساتها حيث لم تسلم حتى كلية الشريعة الإسلامية (السنية حصرا طبعا!) من الامتلاء "بهم". شاركتها أخريات حديثا كنّ يظنّه طائفي/ سياسي موّجه للأقلية الحاكمة فقط، ما لبثت الأنسة أن أوردت مثالا من دراستها في كلية الشريعة بدمشق: "قمت بعد أسماء العوائل الدمشقية بين مئات الطلاب في قوائم نتائج الامتحانات المعلقة على لوحة الاعلانات، لم يكن هناك أكتر من ٣٥ اسما دمشقيا بين كل طلاب الدفعة!"

تساءلت هنا إحدى القريبات بالمصاهرة غير الشامية: "وماعلاقة اسم العائلة الشامي بالمذهب السني؟".

عمّ بعدها الصمت في الغرفة.

أعود للتفكير في عقلية اولئك المحققين الطائفية: هل يعقل أن يظنوا أنّ الحقد هو الوسيلة الوحيدة للاعتراف بوجودهم؟

بعيدا عن مونولوجاتي المشككة، لا أستغرب أن العديد من رفاقي في أحيائنا "المرتبة" تفاجئوا حقا بكم الطائفية الذي تكشّف بعد الثورة، وأنا أيضا بالتأكيد، تفاجأت بكم الدموية الذي سُيِّر من خلالها

أقول رفاقي وليس أقربائي، فما نقوله "بيننا" في منزل العائلة، لا يكون مطابقا تماما قط، لما نظهره "أمامهم".

 

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد