فدوى سليمان واختراع الأمل


ثمة الكثير مما يمكن استخلاصه من هذا الكم الهائل والعاطفي من الحزن والندب والأسى والرثاء الذي نراه اليوم على رحيل فدوى سليمان. هو حزن يفيض عن أن يكون حزنا على فدوى فحسب، لأنه يتضمن الحزن على سورية ومآلها، على أحلامنا وشعاراتنا، على نأي ما كان يجب أن يتحقق، فيما يحتل الواقع، كل ما كان يجب أن لا يحصل، أي النقيض لما قالته فدوى وآمنت به وسعت إليه.

19 آب 2017

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

ثمة الكثير مما يمكن استخلاصه من هذا الكم الهائل والعاطفي من الحزن والندب والأسى والرثاء الذي نراه اليوم على رحيل فدوى سليمان. هو حزن يفيض عن أن يكون حزنا على فدوى فحسب، لأنه يتضمن الحزن على سورية ومآلها، على أحلامنا وشعاراتنا، على نأي ما كان يجب أن يتحقق، فيما يحتل الواقع، كل ما كان يجب أن لا يحصل، أي النقيض لما قالته فدوى وآمنت به وسعت إليه.

ولكن، بعيدا عن الشجن العاطفي الذي استهلك الكثير مما كتب، وهو حق وواجب ويليق بوداع امرأة لم نتمكن من إنصافها في حياتها، فإن ثمة أمرين اثنين يلحان على العقل، ويطرحان ضرورة القراءة لفهم ما يجري للانتقال من ساحة رد الفعل إلى الفعل، إن أردنا حقا أن نكون أمناء على أفكار الراحلة، التي نبكيها اليوم، فالفعل واختراع الأمل مجددا، هو خير ما يمكن أن نفعله إن أردنا لفدوى أن تبقى حية، وإن أردنا أن نكفر عن ذنوب اقترفناها كلنا.

كانت فدوى تمثل رمزا من رموز النضال السلمي المدني، النضال الرافض للسلاح والباحث عن إمكانات الفعل المدني الذي يراكم العمل والأمل بوجه الاستبداد، يراكم الخبرات ويؤمن بالإنسان، يؤمن بكامل قواه بأن الاستبداد يمكن أن يفكك حين تشحذ العقول وتتحد الإرادات، لأن التاريخ لا يمكن أن يغلق، ولهذا تبقى إمكانية العمل قائمة مهما طغى الظلام وانتشر.

اليوم، بعد أن انتهى زمن السلاح، وبعد أن تبين أنّ البندقية وحدها عاجزة عن النصر لاعتبارات كثيرة، لا يدخل نقاشها في موضوع مقالنا هذا، ودون أن يعني أبدا أن المقاومة السلمية أفضل أو أن مقاومة السلاح هي الأفضل (وإن كان كاتب المقال لا يخفي انحيازه للنضال السلمي)، فهذا تفضيل أو تساؤل تجاوزه الزمن والوقائع اليوم في سورية. إلا أنّ السؤال المفيد طرحه اليوم: لم لم تصمد تجربة النضال السلمي في سورية؟

هذا سؤال، رغم أن الكثير من الأجوبة قدمت حوله، إلا أنه لم يزل سؤالا معلّقا، يحتاج الكثير من المراجعات والإجابات لفهم ما يجري؟ والسؤال الثاني الذي يشتق بعد الإجابة عن السؤال الأول: كيف يمكن إعادة تفعيل النضال السلمي مجددا؟ وكيف السبيل إلى ذلك وأين؟

بعيدا عن رأينا في تسلح الثورة من عدمه، فإن التاريخ يقول أنّ كل أشكال المقاومات مشروعة، فحيثما حلّ الظلم، وجبت مقاومته، وكل شعب يختار أسلوب مقاومته الخاص به. إلا أن تجارب المقاومات تقول أيضا، أنّ عدالة القضية وحدها لا تكفي للنصر والمقاومة وحدها لا تكفي للنصر أيضا، وأنّ شكل المقاومة المتخذ في لحظة ما قد يرتد عكسا على القضية إن لم يأخذ واقع البيئة التي ينشأ بها والمتغيرات الحاصلة في العالم بعين الاعتبار. والتجارب التاريخية (وهذا قد يكون مهما لحالتنا السورية) أنّ الشعوب قد تنتقل من النضال السلمي إلى المسلح ثم تعود إلى السلمي في لحظة ما، وهذه التحولات هي نتاج وقائع تحصل واستجابة لمراجعات تتم، عبر قراءة التجربة ونقدها واستخلاص النتائج. تجربة نلسون مانديلا في جنوب إفريقية، قد تكون مثالا مكثفا هنا، إذ بعد أن عجز مانديلا ورفاقه نحو تحقيق شيء يذكر بالنضال السلمي في بداية نشاطه الثوري تم اتخاذ القرار باللجوء إلى السلاح، ولكن بعد سنوات طويلة لم يحقق السلاح أي شيء أيضا، فتمت المراجعة من جديد، وبدأ العمل على إعادة تفعيل النضال السلمي والسياسي ونبذ السلاح، ليأخذ بلاده نحو أولى خطوات الحرية، علما أن مانديلا تلقى الكثير من التخوين جراء موقفه الأخير من أبناء جلدته، إلا أنه ظل مؤمنا بما توصل له وسار على الطريق ليأخذ شعبه نحو حلم انتظره طويلا.

اليوم، إذا كنا نريد أن نكون أمناء لمسار فدوى وحلمها، علينا أولا أن لا نركع لليأس بأن الاستبداد باق، فكل استبداد زائل، وإذا بقي فلأن أساليبنا كانت خاطئة، وبالتالي علينا العمل مجددا، عبر المراجعة أولا، واستخلاص النتائج ثانيا، والبحث عن نظريات تغيير وآليات عمل جديدة ثالثا، والبحث عن كيفية تطبيقها في الواقع رابعا.

نقطة ثانية، يثيرها موت فدوى سلميان، وهي المتعلقة بالتيار العلماني الديمقراطي في سورية، فالراحلة التي ذهبت إلى أبعد ما يكون في الانتماء للثورة، وذهبت أبعد ما يكون في الذهاب نحو التغلغل في بيئات الثورة، كاسرة الحواجز الطائفية والدينية والإيديولوجية والذكورية.. فعلت هذا دون أن تتخلى عن أي شيء مما تؤمن به، فهي العلمانية حتى النخاع، وهي الرافضة للعنف والسلاح حتى شغاف القلب، وهي المؤمنة بحتمية التغيير للوصول إلى نظام علماني ديمقراطي.. كل هذا كانت تقوله وتفعله وهي تناضل في قلب بيئات ثورية كثيرة لم تكن تشاطرها جزءا من اهتماماتها أو طريقها للتغيير حتى.. إلا أنها نجحت في إبجاد معادلتها، وهي التي فشل العلمانيون السوريون، نخبا وأحزابا وأفرادا، في إيجادها، الأمر الذي عنى أن العلمانيين كانوا خارج الثورة حقا أو على ضفافها بأحسن الأحوال، الأمر الذي يطرح سؤالا: لم لم يتمكن التيار العلماني السوري أو حتى الديمقراطي حاف من إيجاد موقعه على خارطة سورية، لا سياسيا ولا نضاليا، في حين تمكنت فدوى كفرد من إيجاد كل هذا الحضور وحدها؟

فدوى أمنت بمشروعها أولا، ولم تتخلى عن أفكارها ثانيا، مؤمنة بقوة الفرد على التغيير، وعلمت على وضع أفكارها موضع التطبيق، إذ كانت فكرة فدوى من النزول إلى حمص، العمل على منع التسلح وتوعية الناس بخطورته، والعمل على فكرة أن ينتخب الناس ممثليهم من الشوارع الثورية.. طبعا لم تتمكن فدوى منفردة من تغيير الواقع الذي كان يذهب باتجاه آخر، إلا أنها حاولت وسعت لذلك، ومن موقعها كعلمانية سورية.

هذا ما يفتقده العلمانيون والديمقراطيون الثوريون، أن يكون لهم مشروعهم الثوري والديمقراطي، وأن يعملون على تنفيذه، لا أن يلتحقوا بالآخرين كديكور للزينة، وهو ما رفضته سليمان دوما، إذ قدمت لها كل الإغراءات للانتساب إلى كل الكانتونات الثورية التي تشكلت، ولكنها رفضت، فكان النبذ والإقصاء والإهمال مصيرها، ولكنها بقيت حية فيما هم في فنادقهم ومواقع الاتهام التي تصوّب إليهم اليوم من كل حدب وصوب، لأنهم فشلوا في أن يحموا ثورة السوريين وآمالهم.

إذا أردنا أن نكون أوفياء لتراث فدوى وشعاراتها وآمالها، فنعمل على تجاوز ما سبق، ولنعيد فتح الدائرة ولنخترع الأمل مجددا.

(الصورة الرئيسية: فدوى سلميان. تلفزيون أخبار الآن، والصورة تنشر بموجب سياسة الاستخدام العادل، والحقوق محفوظة لأصحابها)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد