ثورة يرويها الموزاييك


31 أيار 2014

في أي قرنٍ حدثت الثورة السورية؟ هل قام ما شهدناه في الماضي السحيق، أم أننا نحن من كنا في ذلك الماضي؟ إذا كانت قديمة إلى هذا الحد فهل اشترك فيها قدماء السوريين؛ التدمريين والآراميين، وسواهم؟ أم هو ماضٍ متخيّل لأيامنا الراهنة؟

هذه الأسئلة والحيرة هي ما تثيره أعمال "بانوراما الثورة السورية"، وهي سلسلة من أعمال الفسيفساء قامت بها مجموعة من نشطاء الثورة السورية في "كفرنبل" المبدعة بتقديمها من أجل تخليد أحداث الثورة ومعاناة أناسها، وكانت قد ظهرت في الذكرى السنوية الثالثة للثورة الذي كان بمثابة مفاجأة خاصة من تلك المفاجآت التي طالما عوّدتنا عليها "كفرنبل".

كيف بدأت الفكرة؟ وكيف تم التخطيط لها؟ تلك أسئلة نحتاجها لنعرف هذا العمل، ومن هم القائمون عليه.

معن كاليدو يجيب "سيريا أنتولد syriauntold": "توجهنا إلى "اتحاد المكاتب الثورية"، وهي إحدى منظمات المجتمع المدني في كفرنبل، وكان الهدف تأمين فرص عمل للناس بدلاً من التوجه القديم في عملية تأمين الإغاثة، وباعتبار أن معظم الناس (رجال ونساء) يجيدون الحرفة حرفة الموزاييك كان من الأولى استثمار هذه الميزة الموجودة، وذلك من خلال إنشاء ورشة لصناعته. وباعتبار أن الأعمال ستكون تجسيداً لصور ولوحات قديمة وحديثة، كانت الفكرة العمل على الرسومات الثورية التي ظهرت خلال مظاهرات كفرنبل، بالإضافة إلى بعض اللوحات الثورية السورية، هذا كخطوة أولى، حيث سيتم نقل رسالة اللوحات بطريقة جديدة وفي الوقت نفسه سوف نوفر فرص لتشغيل بعض الشباب والشابات من الحرفيين".

الفنان معن كليدو خلال افتتاح معرض فسيفساء كفرنبل في الذكرى الثالثة للثورة. المصدر: الصفحة الرسمية لبانوراما الثورة السورية على الفيسبوك
الفنان معن كليدو خلال افتتاح معرض فسيفساء كفرنبل في الذكرى الثالثة للثورة. المصدر: الصفحة الرسمية لبانوراما الثورة السورية على الفيسبوك

لا تأتي قيمة تجربة "بانوراما الثورة السورية" من كونها خرجت من كفرنبل، فهذه عودت السوريين طوال عمر الثورة على الجديد دوماً، في تظاهراتها أو لوحاتها أو أفكارها على حد سواء. بل تأتي من خلال إعادة إنتاج فنون منسية صنعت تراث بلاد الشام، فالموازييك، أو فن الفسيفساء كما هو معروف، هو فن تشكيلي يعتمد على مربعات صغيرة لرسم لوحات جدارية تجسّد مناظر طبيعية أو أشكالاً هندسية. وقد برز هذا الفن بشكل كبير في منطقة بلاد الشام، حتى أنه بات له فرع يُعرف باسم "الموزاييك الدمشقي"، وهو ذو حضور كبير في المنازل الدمشقية وأثاثها.

تستخدم ورشة كفرنبل في إنتاج لوحاتها الحجر الطبيعي، بالإضافة إلى الحجر الصناعي لعدم توافر الحجر الطبيعي على الألوان المطلوبة، كما يستخدم أيضاً اللاصق للحجر على طبقة من الشبك المعدني والنايلون، أو الادوات فهي بسيطة ومما هو متوفر في مختلف البيوت كالمطرقة والمفك والقطّاعة.. إلخ.

يسعيد عمل الورشة على اللوحات تلك اللحظات الحميمية التي كانت تسبق الإعداد للمظاهرات، وفيها تقرأ روح العمل الجماعية التي انطلق منها السوريون في هدفهم السامي للتحرر من الطغيان، إنها أشبه بالأيقونات التي يرسمها الرهبان المجهولون بصوفية لا متناهية، حيث تذوب الذات الشخصية لصالح العمل. كما أنها تخلق تقاطعاً حيوياً ما بين تاريخ الفن و اللحظة السورية الراهنة. ومن جهة أخرى تقدم مجموعة "بانورما الثورة السورية" وعبر لوحاتها، تجربة لافتة فيما يمكن تسميته" الفن التأريخي" أو "الوثائقية التأريخية" المعنية بتقديم روايتها للحدث السوري بصورة فنية إبداعية، فالمجموعة تؤرخ لفترة مهمة في حياة الشعب السوري، دون الخضوع لمعايير المؤرخ، أو السعي خلف الموضوعية العلمية، هي، في العمق، تسعى إلى تدوين بصري بالموازييك.

وأقامت المجموعة أولى معارضها في كفر نبل، وذلك في الذكرى الثالثة للثورة السورية، كما أن هناك جهوداً تبذل لإقامة معرض آخر في الولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى لتسويق المنتجات في السوق الأوروبية والأمريكية، خصوصا أن هذه الأسواق تعتبر من أهم الأسواق لتصريف مثل هذه الأعمال، وعلى اعتبار أن المجموعة لا تتلقي الدعم المادي من أي جهة وتعتمد على العمل التطوعي، وجميع التكاليف غطاها صندوق منظمة "اتحاد المكاتب الثورية".

لوحة فسيفساء مأخوذة من لوحخة للفنان يوسف عبدلكي تصور الأم بجانب صورة ابنها الشهيد. المصدر: الصفحة الرسمية للبانوراما على الفيسبوك
لوحة فسيفساء مأخوذة من لوحخة للفنان يوسف عبدلكي تصور الأم بجانب صورة ابنها الشهيد. المصدر: الصفحة الرسمية للبانوراما على الفيسبوك

نشاهد في المعرض إعادة اشتغال على لوحات سورية وعربية، ومن هذه اللوحات لوحة "الأم والشهيد" للسوري يوسف عبدلكي، حيث نرى الأم تركع أمام كرسي وُضعت عليه صورة ابنها الشهيد الشاب. جلسة الأم على صورة ابنها أشبه بالتكور، لكأنها هي نفسها تستعد للاستشهاد.

كذلك نشاهد لوحة تعيد إنتاج إحدى لوحات فنان الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي، حيث تقوم يد مجهولة بجلد "الرجل الطيب"، وهو شخصية أساسية في عالم ناجي، بسنابل القمح. تقول اللوحة إن الأرض صارت سبباً للعذاب ووسيلة للتعذيب.

من الجانب الآخر تذهب الورشة إلى الاشتغال على لوحات بلدة كفرنبل التي اشتهرت، وصارت علامات سورية بامتياز، وبين تلك المجموعة نشاهد اللوحة التي تمثّل كليب، رمز الشرف العربي المطعون غدراً، وقد صارت عباءته علم الثورة السورية، وينحني على الصخرة الشهيرة ليكتب وصيته لأخيه الزير سالم "لا تصالح". كما نطالع اللوحات ذات الطابع الكاريكاتوري الأسود، تلك التي تسخر من تقاعس العالم عن نصرة السوريين، وتركهم يواجهون الموت اليومي دون مد يد العون، كما في اللوحة التي يتباكى فيها شخص يمثّل المجتمع الدولي على المجازر في سوريا، بينما الحقيقة هناك، في ظله على الجدار، حيث يصير جسده تمثيلاً للشيطان.

الحرفة والفن معاً، هذا هو سر هذا الفريق، ففي الوقت الذي يقومون فيها بهذه المهمة بما فيها من تأريخ وتوثيق، يقومون أيضاً بخلق فرص للعمل والاقتصاد المحلي.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد