اعادة التفكير بالاعلام السوري


25 أيلول 2014

انريكو دي انجيليس

باحث مستقل متخصص بالاعلام في العالم العربي. يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة سالرنو، ايطاليا. لديه العديد من المقالات في مجال الاعلام والتواصل في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا بالاضافة إلى كتاب عن الاعلام والنزاعات. هو أحد مؤسسي حكاية ما انحكت وعمل كباحث مستقل مع عدد من المنظمات غير الحكومية. يعمل حاليا كباحث مع مؤسسة Free Press Unlimited ويقيم في برلين.

Translated By: يزن بدران

الانفجار الحاصل في كم المعلومات التي يبدعها ويشاركها السوريون منذ بداية عام ٢٠١١ هو احدى أهم الظواهر المرافقة للاحداث على الأرض. في الحقيقة، لا يمكن للمرء أن ينكر أن فتح المساحات العامة للنقاش بالاضافة إلى الانتشار والتعددية الكبيرة للمحتوى المنتج قد ساهمت بشكل كبير في تغيير حياة ونظرة عدد كبير من السوريين في داخل وخارج البلاد.

خلال الـ٤٠ عام الماضية كان احتكار النظام السوري للمعلومة شبه مطلق. مقارنة بالبلدان المجاورة، كمصر، فان المشهد الاعلامي السوري لم يعرف الا بعض التغييرات الشكلية منذ عام ٢٠٠٠. ظهور بعض وسائل الاعلام الخاصة، بعد المرسوم رقم ٥٠، لم يكن له تأثير يذكر على هوامش النقاش العام وحرية الاعلام. وسائل الاعلام الخاص، المملوكة من قبل رجال أعمل مرتبطين بالنظام أصلا، كانت هوامش الحرية الاعلامية فيها أقل حتى من تلك الحكومية.

فترة ربيع دمشق هي الفترة الوحيدة التي جرأت فيها بعض وسائل الاعلام، وأغلبها حكومي، على تحدي النظام. وبعد تلك التجربة أصبح النقد العلني، في مهنة الصحافة بشكل خاص، ممنوعا منعا باتا، خاصة في وسائل الاعلام الخاصة. تلك منها التي حاولت أن توجد مساحات جديدة للتعبير تم اغلاقها، مثلما حدث مع تلفزيون أورينت في ٢٠١٠. بمعنى آخر، حتى عندما كانت بعض أوجه النقد العلني مسموحة في المسلسلات التلفزيونية أو في الصحف الساخرة (مثل الدومري) كانت الصحافة السياسية تحت القبضة الأمنية بشكل كامل.

انتشار الانترنت في سورية، الذي حصل بشكل متأخر حتى مقارنة بالبلدان العربية الأخرى، لم يتبع نفس الخط الذي اتبعته الدول المجاورة. النظام السوري قام بملاحقة ناشطي الانترنت بقسوة لا مثيل لها، وقام بمنع أي محاولة لتكوين مجتمعات تدوينية. فيسبوك ويوتيوب كانا محجوبين منذ عام ٢٠٠٧، وحتى إن كان السوريين قادرين على الوصول اليهم من خلال برامج البروكسي لم يكن للموقعين أي دور فاعل كأداة سياسية قبل ٢٠١١.

في سوريا، كان الفضاء الافتراضي تحت هيمنة مواقع مثل سيريا نيوز، شام برس، دي برس، وغيرها. هذه المواقع كانت الفرصة الأولى للسوريين للتدرب على التجربة التفاعلية على الانترنت. في هذه الفترة، بنما كان المصريون يفتتحون مدونات وصفحات فيسبوك، كان السوريون يفتتحون مواقع اخبارية في محاولة لفتح مساحات جديدة للتعبير1. على الانترنت كانت هوامش الحرية أكبر بقليل منها في الاعلام التقليدي، ولكن في أي حال، كان النظام السوري يتحكم بسهولة بالمواقع الاخبارية المحلية عبر الضغط على محرريها ومموليها.

الزلزال الاعلامي في ٢٠١١

كل هذا تغير خلال الأشهر الأولى من عام ٢٠١١. في ٧ شباط قام النظام السوري برفع الحجب عن موقعي فيسبوك ويوتيوب. مدفوعين بتجربة النشطاء المصريين والتونسيين، اجتاح السوريون وسائل التواصل الاجتماعي تلك بالآلاف، مؤسسين صفحات وتجمعات سرية وعلنية للتواصل والعمل على تأسيس مبادرات سياسية. منع النظام للصحفيين الأجانب من دخول البلد ومن أي تغطية اعلامية للمظاهرات الحاصلة كان له دور كبير في زيادة اعتماد السوريين على هذه التقنيات الجديدة.

جيل جديد عفوي ظهر من الصحفيين المواطنين الذين يغطون الأحداث على الأرض عبر كاميراتهم الرقمية وهواتفهم الخلوية، ويستعملون الانترنت كالمنصة الأساسية لتوزيع عملهم.

ولكن الاعتماد على الاعلام الجديد من دون تدريب حقيقي ومن دون تنسيق كاف مع مؤسسات الاعلام التقليدي كان له ثمنه. في كثير من الأوقات كان المحتوى المنتج من قبل الصحفيين المواطنين يتهم بانعدام المصداقية والمبالغة. اضافة الى ذلك، كان المحتوى يستخدم بشكل انتقائي من قبل وسائل الاعلام الأخرى لخدمة مصالحها الخاصة. الاعلام العالمي مال الى التركيز على العنف بشكل حصري وقام بتأطير الصراع على أنه صراع مسلح بين الجيش السوري والفصائل الاسلامية المسلحة مع اهمال العناصر الأخرى. اكتشف السوريون بعد دفع ثمن باهظ أن المحتوى المنتج من قبل أفراد ليس كاف، في أغلب الأحوال، لبناء خطاب خاص بهم. غياب السياق في ذلك المحتوى، بالاضافة إلى تشتت النشطاء في مجموعات وصفحات متعددة جعل من الصعب على أي مراقب خارجي (أو حتى على السوريين أنفسهم) أن يفهم ما يجري بوضوح.

للتغلب على تلك المعضلات، قام السورييون تدريجيا بتنظيم أنفسهم بطريقة أكثر مؤسساتية. منذ منتصف عام ٢٠١٢، بدأت العديد من الاذاعات، الصحف والمجلات بالازدهار. اكتشف السوريون ضرورة انشاء مؤسسات منظمة كبديل عن شبكات الصحفيين المواطنين. كانت الانترنت - وافقيتها المزعومة - قد أظهرت قصورها وشعر العديد من الناشطين بضرورة العودة إلى الوسائل الأكثر تقليدية في صناعة الخبر. أولئك الذين يعملون اليوم في الاعلام السوري الناشئ يعتبرون أنفسهم صحفيين لا ناشطين ولديهم العديد من التحفظات على عملية انتاج الخبر لدى الناشطين وعلى قصورها مهنيا.

بعد سنوات من حرب دمرت النسيج الاجتماعي في البلد، التيار الجديد من الصحفيين السوريين يعتبر أن الأهمية في هذه اللحظة هي للتركيز على المستقبل والبدء بعملية اعادة بناء المجتمع السوري. الاذاعات والصحف السورية اليوم تميل إلى انتاج نوع من "الصحافة الاجتماعية"2 التي تهدف إلى تذكير السوريين بما يجمعهم لا ما يفرقهم. هذه النوع من الصحافة يقوم بالتركيز على المجتمعات المحلية، قصص الناس العاديين، وعلى تقديم النصائح لأمثل الطرق في التعامل مع مشاكل الحرب.

لم يمر وقت في تاريخ سوريا كان فيها المجال الاعلامي بهذا التنوع والغنى. شبكات الصحفيين المواطنين, الصحف الالكترونية والمطبوعة, المواقع الالكترونية, مجموعات الفيسبوك, الاذاعات, المدونين والناشطين الفرديين, محطات التلفزة, مواقع التجميع والارشفة الالكترونية: جميع هؤلاء يساهمون في تشكيل مساحة تعددية مذهلة لتبادل الحقائق والآراء. بالرغم من هشاشة هذه البيئة الثقافية ومن الظروف الصعبة المحيطة بها, فهي المساحة التي يتم فيها تشكيل صورة سوريا الجديدة والتفاوض عليها.

ما هو دور الاعلام السوري في المستقبل؟

وسائل الاعلام ليست فقط أدوات لتعبئة الجماهير, بل هي واحدة من مساحات النقاش الأساسية لدى السوريين التي يتم استعمالها في تشكيل سردية ما يجري الآن في البلاد, وبشكل أخص, ما يجب أن ينتج عن ذلك فيما يخص شكل سوريا المستقبلي.

لهذا السبب, فان مبادرة “الانتفاضةنظرة نقدية”, التي يتم رعايتها بشكل مشترك من قبل سيريا أنتولد و أوبن ديموكراسي, قامت بتخصيص مساحة منها لتحليل المشهد الاعلامي السوري بكل مظاهره المتغيرة منذ عام ٢٠١١.

احدى النقاط البالغة الأهمية تتعلق بالاقتصاد السياسي لوسائل الاعلام الناشئة تلك. اليوم, هذه الوسائل الاعلامية تقوم بشكل أساسي على تمويل من قبل حكومات ومنظمات غير حكومية أجنبية. هذا يعنى أن معظم تلك المؤسسات الاعلامية تعتمد على هذه الجهات لتحقيق استدامة اقتصادية على المدى البعيد.

دور الناشطين الالكترونيين, تأثير هيكلية الشبكات الاجتماعية, والديناميات المتغيرة للمجال العام الافتراضي في سوريا -- هذه أيضا مواضيع تستدعي تحليلا معمقاً لبناء صورة أشمل للوضع السوري.

الصحافة السورية تمر بتغييرات هائلة فيما يتعلق بتنظيم العمل, الثقافة المهنية, وطرق انتاج المحتوى. هذه التغيرات, كعناصر مهمة من النظام الاعلامي محتمل مستقبليا, لا يجب أن تكون حكرا على الدراسة الأكاديمية, بل يجب أن تكون موضع حوار بين السوريين أنفسهم. ومن هذا المنطلق فاننا نتمنى أن تشكل مبادرتنا هذه حافزا مهماً للمضي الى الأمام في هذا المجال.

يمكن لوسائل الاعلام أن تلعب دوراً حاسما في انهاء النزاعات. في الوضع السوري بشكل خاص, كصراع تطور الى نزاع دولي لم يبق فيه للسوريين أي صوت, فان هذا المجال الاعلامي الناشئ يمثل المساحة الوحيدة التي يمكن لها أن تعبر عن آراء السوريين وأن تسمح بتأطير الأحداث الجارية من وجهة نظرهم.

---

1 Enrico De Angelis، “Syrian News Websites: a Negotiated Identity”، Oriente Moderno، 1، 2011.

2 Enrico De Angelis, “L’évolution du journalisme citoyen en Syrie : le cas des web-radios”, Moyen Orient, January 2014.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد