الانتفاضة وإعادة تشكيل الذاكرة الجمعية في سوريا


19 تشرين الثاني 2014

يزن بدران

باحث دكتوراه في جامعة بروكسل الحرة في بلجيكا وزميل في المجلس البحثي الفلمنكي (فلاندرز). بحثه يتمحور حول المؤسسات الاعلامية الجديدة في العالم العربي بعد ثورات ٢٠١١.

Translated By: رؤى زيات

استطاع نظام البعث منذ توليه السلطة في سبعينيات القرن الماضي أن يحكم قبضته على الفضاء العام فارضاً سيطرته المطلقة، ما أدى إلى إحداث فجوة في الذاكرة السورية امتدت حتى اندلاع الثورة في آذار 2011.

بدا الاحتكار هذا جلياً من خلال الترويج لسرد رتيب وقسري مهمته خلق وإدامة وهم التجانس بين مكونات الشعب السوري، بدلاً من تكوين هذا التجانس بحق. وقد تكون مشاركة الطلاب وموظفي الحكومة الجبرية في طقوس شعائرية تعلن ولاءهم للنظام خير مثال على ذلك، فهي عبارة عن عرض لحالة الوئام المزعومة، تقوم بدورها بخدمة الوهم بحد ذاته. لهذا، لم تكن القناعة الحقيقية مطلوبة، ما دامت الجماهير على استعداد لعرض طاعتها الكاملة للسلطة، عندما تستدعي الحاجة (1). وبينما لم تكن هذه السياسة ناجحة تماماً بكم أفواه الأصوات المعارضة للنظام ضمن الحلقات الضيقة، إلا أنها كانت فعالة للغاية في احتلال الحيز العام بشكل كامل، كيلا يحلم أي من هذه الأصوات المختلفة بالظهور.

كان النهج هذا مفصلياً في إقامة جدران بين السوريين أنفسهم كأفراد وكمجموعات، حيث أصبحت قضاياهم داخلية ونقاشاتهم مجزأة، كما بدأ "الجمهور العام" بفقدان قوته بشكل تدريجي، ليصبح تشكيل الذاكرة الجمعية للوطن وظيفة ثابتة للدولة بدلاً من أن يكون عملية حيوية يقوم بها المواطنون. لهذا كله، فالعقود الخمسة الأخيرة تمثل فجوة في الذاكرة السورية، كما أوردت سابقاً.

خاض الشعب السوري خلال الفترة هذه اضطرابات وأحداث أدت إلى تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية جذرية (زيادة العسكرة في المجتمع منذ أوائل السبعينيات، التورط في الحرب اللبنانية، الصراع الدامي مع الإخوان المسلمين في أوائل الثمانينيات ومجزرة حماة، القتال الداخلي بين حافظ ورفعت الأسد في ال84، الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات، موت حافظ الأسد وتسلم بشار الأسد مقاليد الحكم، السياسة النيوليبرالية منذ عام 2005 وغيرها..). بالعودة إلى هذه التواريخ التي غيرت وجه سوريا إلى الأبد، نجد أن السرد العام لهذه الأحداث -إن وجد- يتم تحريفه ليطابق الرواية المعتادة للنظام السوري. أما الجهود الفردية لمواجهة احتكار السلطة للحقيقة، فقد اقتصرت -بسبب ضغط النظام- على مجالات ضيقة من النخب، وكان تأثيرها ضئيلاً جداً.

من المؤكد أن الأحداث هذه تمت مناقشتها وتداولها من قبل الأفراد في المنازل وضمن حلقات صغيرة، ولكن كما يتضح من المثل الشعبي "الحيطان لها آذان"، فإن السوريين لم يشعروا بالأمان حتى في منازلهم الخاصة. على أي حال، فإن عدم قدرة هذه الجموع على إيصال صوتها إلى الحيز العام، جعل من تجاربها متحيّزة ومقتطعة وتفتقر إلى الوضوح. على سبيل المثال، فإن تجربة السوري وقراءته للصراع بين الأسد والإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، تختلف اختلافاً جذرياً اعتماداً على مكان إقامته حينها (حلب - حماة- اللاذقية).

عند اندلاع الانتفاضة التي عمّت أرجاء سوريا في آذار 2011 انهارت جدران الصمت جميعها في آن واحد، وقد كان للتكنولوجيا دوراً كبيراً في ذلك، فقد منحت الكثير من الأفراد منبراً لتبادل الخبرات والتعلم من بعضهم البعض. وعلى الرغم من أوجه القصور فيها، إلا أن هذه الأدوات الجديدة سمحت للجماهير بالتجمّع لأول مرة في عهد الأسدين الأب والابن، وتحدي جميع محاولات النظام لفرض سيطرته من جديد.

الرواية السائدة والبعيدة كل البعد عن الواقع، انهارت على نفسها بطريقة مذهلة، وتركت خلفها فجوة زمنية عمرها نصف قرن لا يمكن لأحد ملأها إلا السوريين أنفسهم. لقد منحت الانتفاضة السوريين فرصة تاريخية لإعادة النظر بتاريخهم الذي خطته يدا النظام، وإعادة كتابته، لذلك فإن أعداداً متزايدة من الأعمال الأدبية بدأت بالتركيز على تجميع ونشر وتبادل هذه الخبرات التي سبق أن كانت متقطعة وشخصية، وتحويلها إلى صورة أكثر تماسكاً ودقة.

التركيز الخاص الذي يحظى به هذا "النوع الأدبي" الناشئ يدل على تكريس السوريين قدراً كبيراً من الجهد للتعمّق في الفترة الأكثر إيلاماً في التاريخ السوري، ومعاينتها من وجهات نظر مختلفة. ذكريات المعتقلين السياسيين وقصصهم داخل السجون على سبيل المثال، ترسم صورة أكثر واقعية ووضوحاً لحملة الاعتقالات الواسعة التي شنها حافظ الأسد في الثمانينيات، كما التفاصيل المهمة عن مجزرة حماة المروعة والصراع البعثي- الإسلامي، وعن الرعب اليومي التي تعرّضت له التجمعات المدنية في المدن الكبرى أيضاً.

قد لا تكون هذه العملية تعاونية على الإطلاق، فهي غالباً ما تأخذ طابعاً تنافسياً تتبارى فيه التجارب والقصص التي تستخدم بدورها كأداة سياسية في الصراع الحالي، إلا أنها بالرغم من ذلك، تثري رواية السوريين لماضيهم المفقود على المدى البعيد.

كما أثبت الهزل السياسي أيضاً مكانته كحالة استثنائية في هذا السياق، فقد استطاع رغم الخناق الأمني أن يستمر كوسيلة رئيسة في مكافحة هيمنة النظام، وإن كان ذلك نتيجة الطبيعة الحميمية للحيز الخاص الأكثر أماناً، وهي ميزة تفسح مجالاً لوسائل الاتصال البدائية هذه. بالرغم من ذلك، فقد لقيت النكتة السياسية اهتماماً استثنائياً بعد بدء الثورة، وجهوداً حثيثة لتجميعها ونشرها (2).

إن هذا التعاون بين openDemocracy و حكاية ما انحكت بعنوان "الانتفاضة: نظرة نقدية" (Looking inside the uprising) ما هو إلا محاولة لمعاينة هذه العملية التي شرعت بها الانتفاضة السورية منذ ما يقارب الأربع سنوات. سيتم ذلك عبر المزيد من التأملات والبحوث التحليلية التي تبين كيف تحاول الحركة الاحتجاجية في سوريا توثيق نفسها بنفسها، وإن كانت قد بدأت بوسائل بدائية، إلا أنها ستتوسع سريعاً لتعيد قراءة وكتابة الحقائق الموروثة خلال النصف القرن الماضي برمته.

ترجمها الى اللغة العربية: رؤى زيات

[1] Wedeen, L. (1999). Ambiguities of Domination: Politics, Rhetoric, and Symbols in Contemporary Syria. University of Chicago Press.
[2] Camps-Febrer, Blanca, Political Humor as a Confrontational Tool against the Syrian Regime; A Study Case: Syria, 15th March 2011 – 15th May 2012 (12, 2012). International Catalan Institute for Peace, Working Paper No. 2012/8.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد