سوريا واحتمالات الحلّ السياسي (7)


30 تشرين الثاني 2014

أنور البني

محامي سوري ورئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية

منذ بداية الثورة السورية كان الحديث يدور عن حلول سياسية داخلياً، فأقيمت عدة مؤتمرات وتجمّعات للمعارضة وطالبت بالحلول السياسية لموضوع الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وكانت السلطات تتجاهل ذلك، بل لاحقت واعتقلت النشطاء المشاركين. وبعد ذلك طرحت السلطة السورية مؤتمر حوار وطني ترأسه نائب رئيس الجمهورية "فاروق الشرع" وحضرته أعداد كبيرة من رموز المجتمع السياسي والاجتماعي، وتوّصل لتوصيات بقيت حبيسة أروقة المؤتمر ولم تلتزم السلطة بتنفيذ أي منها.

ومع تقدّم الوقت وإيغال النظام السوري بالقتل والاعتقال، كان لسان حال المجتمع الدولي ينصب على التأكيد على ضرورة الحل السياسي وعدم وجود بديل آخر. وكان هذا الخطاب من أهم العوامل التي شجعت النظام السوري على زيادة القتل للمتظاهرين السلميين، واستخدام السلاح الثقيل في تدمير البلدات والقرى والمدن السورية الثائرة، ووصل إلى حد استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه, دون أن يشعر أن هناك أي رادع أو عقوبة يمكن أن تطاله بسبب الجرائم التي يرتكبها. وحتى عند استخدام السلاح الكيميائي ضد الشعب، كانت ردة فعل العالم في أحسن أحوالها: التهديد بقصف مواقع تخزين ومعامل السلاح الكيميائي، دون الحديث عن محاسبة المجرمين الذين استخدموه.

ومع سقوط أكثر من ثلاثمئة ألف ضحية من مجموع الشعب السوري وتهجير أكثر من نصف هذا الشعب داخلياً وخارجياً، ودمار كامل وجزئي لما يزيد عن 20% من سوريا بسبب استخدام كل أنواع الأسلحة الثقيلة، من المدفعية والدبابات والصواريخ القصيرة والبعيدة المدى، والفراغية والبراميل المتفجرة، وثبوت ارتكاب مجازر وجرائم إبادة وتطهير عرقي وجرائم ضد الانسانية من قبل النظام بوثائق صادرة عن أعلى مرجعية دولية تعنى بهذا الموضوع، وهي مجلس حقوق الإنسان, مع كل ذلك لم يغير العالم لهجته وما زال الحديث يدور حول وحدانية الحل السياسي كطريقة للخروج من الوضع السوري المتفجر.

مع إيماني الشديد بالحل السياسي، إلا أن وجوده يتطلب شروطا أساسية وهي أولاً موافقة الأطراف عليها. وكان من الواضح بشكل جلي للجميع أن النظام يرفض الانخراط بأيّ عملية سياسية تقوّض أو تنتقص من سلطته التامة والمطلقة، ويعرقل أيّ محاولة لطرح وتنفيذ هذه الحلول بالمماطلة والتسويف وصرف الانتباه لمسائل أخرى يخترعها. رغم كل ذلك، لم يقم العالم الذي يطرح الحلول السياسية بأيّة خطوة أو عمل من شأنه إجبار النظام على القبول بها أو إفهامه أنّ عدم انخراطه بالحل السياسي سيكون له عواقبه, واقتصرت العقوبات على "فركة أذن" بسيطة تجلّت بوضع عقوبات لا تقدّم ولا تؤخر على شخصيات محدّدة من النظام بقرار سياسي وليس قضائي، مما يجعلها عرضة للمساومة والتراجع بأيّ وقت, وبوعود بتسليح ودعم المعارضة لم تأخذ شكلها إلا بمؤتمرات وتصريحات ظلّت بدون تنفيذ, وكانت مجرد محاولة للهروب من الفعل الجدي ومن العار الأخلاقي للغرب أمام كل الفظائع التي ترتكب بسوريا.

وهذا جعل النظام مسترخياً، ويستمر بالقتل والتدمير بدم بارد تماماً, دون أي شعور بأن هناك محاسبة ومساءلة عن الجرائم التي يرتكبها, وإن أسوأ السيناريوهات بالنسبة له بالنهاية هو حل سياسي يفلت بموجبه من العقاب .

ومركز كارتر، كان من أوائل من قاموا باستطلاعات وأبحاث ولقاءات لوضع مثل هذه الحلول، وأذكر أنه بدأ بذلك منذ أوائل عام 2012، والتقى الكثيرين من النشطاء في الداخل والخارج ومن المعارضة السياسية ومن شخصيات النظام. ولم يحبط من الردود الرافضة من النظام لكل السيناريوهات للحلول السياسية التي طرحوها بالبداية . وبعد اتفاق جنيف 1، اعتمد عليه لبناء دراسته حول الحل السياسي الممكن, رغم أن اتفاق جنيف ولد ميتاً لعدم جدية من صاغه، ولوجود كثير من القضايا الغامضة التي تركت دون تفسير, واختلاف التفسيرات حوله, ولعدم وجود أي آلية لفرضه واعتماده كخريطة عمل للمجتمع الدولي، مع آلية عقاب لمن يرفض الانخراط فيه, وقد ثبت هذا الأمر بلقاء جنيف2، الذي تحول إلى لقاء إعلامي استعرضت فيه الأطراف عضلاتها على حساب الشعب السوري ودماءه, واستغله النظام للترويج لقصته حول الإرهاب الذي اختلقه، دون أن يقدم أي شيء ملموس حول الحلول السياسية، أو يُظهر أية نية طيبة، ولو على الصعيد الانساني، بإطلاق سراح معتقلين نشطاء سلميين ومعتقلي رأي وسياسيين .

ومع أنني أعتبر أن كل ما بذل من جهود مخلصة لإيجاد حلول سياسية، هو في النهاية يذهب عبثاً ويستهلك الوقت لا أكثر لدى العالم، فيما هذا الوقت يمرّ على السوريين بطيئاً قاتلاً, ومع قناعتي التامة أنه لم يعد هناك فرص لحل سياسي مع نظام يرفض بالمطلق بحث أي آلية للتنازل عن سلطته المطلقة والأبدية لسوريا, ومع عدم وجود أي آلية لفرض الحلول السياسية على الجميع, فإنني أرى أن ورقة البحث التي قدمها معهد كارتر إيجابية بمجملها، وهناك عدد من الملاحظات عليها, أولها أنه مرّ مروراً بسيطاً على مسألة العدالة الانتقالية ولم يعطها الأهمية اللازمة والضرورية، باعتبارها بوابة العبور للحلول السياسية، وقصرها على مسألة التعويضات دون الحديث عن أي مساءلة جاء ذكرها في سياق إصدار عفو, وهذا يعني أن مجرمي الأمس سيفلتون من العقاب، وربما سيكونون أسياد الغد وقادة المرحلة الانتقالية . هذا خطأ جسيم، لأن محاسبة المجرمين وإحقاق العدالة هو البوابة الأساسية للعبور. ودون ذلك لن تستقر سوريا أبداً وستنتقل الصراعات إلى مستويات أكبر.

وثانياً، تجاهلت الورقة في موضوع الانتخابات، وضع المهجرين خارجياً وداخلياً، واعتمدت على المسجلين بالقوائم الانتخابية، مما يعطي النظام أريحية في عدم السماح بعودة اللاجئين ويحصر الانتخابات بالمناطق التي كانت تحت سلطته، وبالتالي تكون نتيجة الانتخابات مضمونة.

وثالثاً، وهو الأهم، أكدت الورقة على بقاء عناصر الجيش والأمن على رأس عملهم وكلفتهم ممارسة عمليات ضبط الأمن، وكأن هذا الجيش وهذه الأجهزة لم ترتكب الجرائم ولم تقتل الشعب المسالم ولم تدمر المدن والبلدات السورية، وهنا لبّ الصراع أساساً، وبذلك أعادت الورقة إنتاج نظام قاتل بلبوس جديد وبشرعية مختلفة وفوضته بالقيام بجرائم جديدة في معرض تأكيدها على إلزام المجموعات المسلحة تسليم سلاحها .

إن هذه النقاط الثلاث برأيي كافية لتجعل الورقة مجرد أطروحة غير قابلة للحياة أبداً، ولن تكون مدخلاً لإعادة الاستقرار لسوريا. وبكل الأحوال لن تجد طريقها للتنفيذ لعدم وجود إرادة دولية حتى الآن بفرض الحلول السياسية, وعدم وجود أية آلية لإجبار الأطراف على الانخراط في حل سياسي. هذا سيجعل الأمور، إن لم يكن قد جعلها تزداد سوءاً وتتفاقم على الأرض، بزيادة مستوى القتل والتدمير وتقلص حتى فرص فرض حل سياسي دون تدخل عسكري خارجي شامل.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد