لماذا عجزت المعارضة عن إنتاج مؤسساتها البديلة؟


23 كانون الأول 2014

صبر درويش

كاتب وصحفي سوري. يكتب في عدد من الصحف العربية. من آخر أعماله تحرير كتاب "سوريا: تجربة المدن المحررة".

1. مدخــــل:

تمكنت قوى المعارضة السورية، ومنذ مطلع عام 2012، وبالتزامن مع تسلل السلاح إلى صفوف الثورة، من إحكام سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية. ومع تنامي قوّة التشكيلات العسكرية المعارضة، وتحديداً بعد منتصف عام 2012، كانت قوى المعارضة تسيطر على العشرات من البلدات والمدن السورية في شرق البلاد وغربها.

وعلى قاعدة احتدام المعارك، وارتفاع حدة المواجهات، اضطرت قوات نظام الأسد للانسحاب من هذه المدن والبلدات، وانسحب معها أغلب الموظفين والعاملين في مؤسسات الدولة التي كانت متواجدة في هذه المناطق، كموظفي البلديات، والمؤسسات القضائية، وعمال الصيانة وورشات التصليح، وغيرها من المؤسسات الحكومية، التي نتج عن انسحاب موظفيها نشوء فراغ مؤسساتي، ساهم وبشكل كبير في إنعاش حالة الفوضى التي عمت هذه المناطق عقب "تحريرها".

ومنذ ذلك الوقت، سعت قوى المعارضة إلى بلورة سلطاتها البديلة، فعملت على إنشاء مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة المنسحبة، وسعت جاهدة إلى إحلال موظفين وعاملين جدد لإدارة هذه المؤسسات الناشئة؛ وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة التي قام بها الناشطون في هذه المناطق، في سبيل إدارة مدنهم وبلداتهم، إلا أنّ التجربة صادفت تعقيدات ومعيقات كثيرة، ساهمت مجتمعة في إفشال هذه التجربة، وبأقل تقدير كان أداء هذه المؤسسات متواضعاً ودون المطلوب.

2. تململ شعبي في المناطق المحررة:

بعد حوالي العامين على تجربة المناطق المحررة، بدأ السكان بالشعور بالضيق والاستياء من أداء هذه المؤسسات وآليات عملها، التي تغلغل فيها الفساد والمحسوبيات وسوء الإدارة، وفي اتصال قام به الباحث مع أحد الناشطين في مدينة دوما شرقي العاصمة دمشق، والتي شهدت موجة احتجاجات واسعة عبر فيها المتظاهرون عن غضبهم حيال عمل مؤسسات القضاء وغيرها، قال: "القيادة المشتركة، والقضاء الذي نتج عنها، أثبتوا فشلهم، ولم يتمكنوا من تحقيق شيء يذكر، بل على العكس، كل شيء في تراجع، ولكن سيكون هناك روح جديدة في الغوطة الشرقية، وندعو أن تكون لمصلحة أهالي الغوطة وتكون إيجابية لمسار الثورة".

ولا يقتصر الأمر على مدن وبلدات شرقي العاصمة دمشق، بل الاستياء بدأ بالتسرب إلى مناطق أخرى كجنوب العاصمة على سبيل المثال، حيث أشار احد الناشطين إلى أن "الهيئة الشرعية في جنوب دمشق، هي عبارة عن قلة من المثقفين أصحاب الشهادات الجامعية من حقوقيين، وشرعيين من خريجي المدراس الشرعية أو التلاميذ لدى بعض المشايخ، ويترأسها قائد لواء شام الرسول، أبو عمار، والشيخ أنس العظم أبو مالك. وتمت البيعة لهم من أغلب الكتائب والألوية العاملة في جنوب دمشق، باستثناء جبهة النصرة وتنظيم الدولة "(1). وعلى الرغم من ذلك، يشير عمل الهيئة إلى أن المبايعة كانت شكلية، فالهيئة لم تستطع فرض سلطتها سوى على المدنيين، بخلاف التشكيلات العسكرية التي لا تلتزم بأي سلطة خارج سلطتها العسكرية.

والسؤال الذي يبرز هنا: لماذا عجزت قوى الثورة السورية عن بلورة سلطاتها المدنية البديلة في المدن التي احكمت سيطرتها عليها؟
وماهي المعيقات التي حالت دون ذلك؟.

3. عوامل فشل بلورة سلطات المعارضة البديلة:

ساهمت مجموعة من العوامل، في عرقلة وإفشال بلورة تجربة يعتد بها على صعيد قدرة قوى المعارضة على إدارة المناطق التي وقعت تحت سيطرتها، وفي الوقت الذي يبدو فيه أن نظام الأسد، يتحمل مسؤولية كبيرة في إفشال هذه التجربة، إلا أن قوى المعارضة تتحمل بدورها القسم الأكبر من أسباب هذا الفشل.

أ‌. سيطرة التشكيلات العسكرية واحتكار السلطة:

برزت التشكيلات العسكرية المعارضة، كطرف أساسي في المعادلة السياسية، ومع الوقت، صارت هذه التشكيلات العسكرية، هي القوة الضاربة والمسيطرة في أغلب المناطق "المحررة". لا بل أكثر من ذلك، أصبحت طرفاً أساسياً في تشكيل المؤسسات المدنية والسيطرة عليها فيما بعد.

في بداية الأمر، عمد الناشطون إلى تشكيل مجالس محلية لإدارة شؤون مدنهم، وضم المجلس المحلي مجموعة من المؤسسات المدنية، كمؤسسات خاصة بالإغاثة وتوزيع المساعدات، ومؤسسات طبية وإسعافيه، وأخرى خاصة بالأحوال الشخصية كتسجيل الولادات والوفيات وأمور الزواج والطلاق وغيرها، كما أسس سجن يتبع لكل مجلس محلي، يوضع فيه الموقوفين بقضايا مختلفة، وفي كل الحالات، كان الناشطون المدنيون من تولى شؤون إدارة هذه المؤسسات، وذلك بالتنسيق مع التشكيلات العسكرية المتواجدة في كل منطقة.
هذا ما حدث على سبيل المثال في حي جوبر شرقي العاصمة دمشق، حيث قام الناشطون بتشكيل مجلس محلي، وذلك قبل دخول الكتائب العسكرية إلى الحي، وساهم المجلس المحلي في الحي بتأمين الطحين والمحروقات للمخابز، وحماية ممتلكات الناس، وفرض الأمن بين السكان، وتوزيع المساعدات، واستمر عمل المجلس المحلي بحيّ جوبر حتى آذار من عام 2013، عندما قررت مجموعة من التشكيلات العسكرية دخول الحي وتحويله إلى جبهة قتال ضد نظام الأسد.

بعد هذا التاريخ، سيطرت كتيبة هارون الرشيد على الحي بالكامل، وأعيد هيكلة المجلس المحلي والمؤسسات المرتبطة به، وتحول تدريجياً (المجلس ومؤسساته) إلى امتداد لسلطة هذه الكتيبة، ولم يستثنى من ذلك الدفاع المدني أو مؤسسات الإغاثة أو حتى توثيق عدد الشهداء، وتحولت هذه المؤسسات من خلال علاقتها التفاعلية مع آلية عمل الكتيبة العسكرية إلى أداة لإحكام السيطرة على ما تبقى من مدنيين في الحي، ففي كثير من الحالات، ارتبط توزيع المساعدات وما يشبهها، بتقديم الولاء لهذه الكتيبة.

بينما الهيئة القضائية التي كانت مشكلة في الحي قبل تاريخ مارس آذار 2013، فقد تحولت إلى هيئة شرعية، يسيطر عليها "مشايخ" تم تعيينهم من قبل كتيبة هارون الرشيد.

من أبرز المؤسسات التي سعى الناشطون إلى إنشائها، كانت المؤسسات القضائية، فبعد هدوء القصف نسبياً على المدن والبلدات المختلفة، فإن الناس بدأت بالعودة تدريجياً إلى بيوتها وحياتها، لتبدأ من جديد المشاكل والخلافات بالبروز بين السكان، لذا كان من الضروري تشكيل هيئات قضائية قبل أي شيء آخر، لحل النزاعات بين المدنيين ونشر العدل وفض الخلافات( 2).

وبسبب الأهمية الحاسمة التي لعبتها الهيئات القضائية، تحولت هذه الهيئات إلى ساحة للمنافسة للسيطرة عليها من قبل التشكيلات العسكرية المختلفة.

ففي دوما وهي واحدة من أكبر مدن الغوطة الشرقية، تم الإعلان عن تشكيل مجلس محلي منتخب، سعى القائمون عليه إلى التركيز على المختصين والمتعلمين في إدارة شؤون المدينة، فما كان من جيش الإسلام بزعامة زهران علوش، إلا أن أصدر بياناً أدان فيه تشكيل هذا المجلس والذي وضع حداً "لمجلس الشورى" التابع لزهران ذاته، حيث اعتبر أن الإعلان عن تشكيل هذا المجلس فيه شق للصفوف وزرع للفتنة.. إلخ. وفي الوقت ذاته اعتبر بعض القادة العسكريين في بيان علوش تدخلاً غير مقبول في شؤون المدنيين، يقول السيد سليم حجازي قائد لواء الشام: "إن فرض السلطة على المدنيين بغض النظر ان كان من الشيخ زهران أو غيره هو أمر مخالف لثورتنا، فعندما حملنا السلاح حملناه لأجل المدنيين وكرامتهم لا لأجل أن نحكمهم به"( 3).

على امتداد الجغرافية السورية، شهد السوريون استطالات واسعة لسلطة التشكيلات العسكرية المختلفة، والتي لم تكتف بتحديد مهماتها في قتال نظام الأسد وحماية المدن، بل تعدت ذلك لتصبح طرفاً مقرراً، وفيما بعد طرفاً وحيداً في إدارة هذه المناطق، حيث أبعد المدنيون والمختصون، وحل محلهم أفراداً ميزتهم الوحيدة، انهم موالون لهذه التشكيلات العسكرية.

ب‌. سياسة الحصار وتدمير المدن، وغياب الكوادر المتخصصة:

حفزت الثورة السورية، وتحديداً في عامها الأول، بروز العشرات من الشبان الناشطين في الحراك الثوري، وكان قسماً كبيراً منهم من الطلبة والخريجين الجامعيين، والذين لعبوا دوراً مهماً على صعيد الحراك الميداني، فساهم طلاب الطب في عمل المشافي الميدانية، كما ساهم غيرهم من الطلبة الجامعيين وباختصاصات مختلفة في تأسيس المكاتب الاعلامية، وغيرها من النشاطات.

وبقرار مدروس، استهدفت قوات الأمن السوري هذه الكوادر، فزج بقسم كبير منها في المعتقلات، كما استهدفت من قبل قناصي النظام، ومع الوقت قتل من قتل منهم، وغادر البلاد من كتب له النجاة من المعتقلات، فخسرت قوى الثورة، خيرت شبانها وكوادرها.

مع سيطرة قوى المعارضة على العديد من المناطق السورية، اعتمدت قوات النظام على قصف هذه المناطق وتدميرها، وهو ما ساهم بنزوح وهجرة الآلاف من عوائل المدنيين والتي ضمت العشرات من الكوادر التي كانت تعمل أساساً في مؤسسات الدولة المختلفة.

فجأة، لم يتبق في المناطق "المحررة"، سوى أعداد قليلة من المدنيين، حيث عانت هذه المناطق من نقص شديد بالكوادر المتخصصة، وبكل الاختصاصات، فلم يتبق سوى القليل من الأطباء العاملين في المشافي الميدانية، والقليل من دارسي القانون للعمل في الهيئات القضائية؛ وكانت خسارة كبرى بالنسبة للحراك الثوري، حيث خلّف غيابهم فراغاً كان من الصعب ملأه.

انعكس نقص الكوادر المتعلّمة، على مستوى أداء المؤسسات المدنية الناشئة حديثاً، وبحسب مشاهدات الباحث، من خلال زيارته للعديد من المدن والبلدات في محيط دمشق، كان من الصعوبة إيجاد أشخاص ممن أتيح لهم دراسة القانون، ليشغلوا مكاناً لهم في المؤسسات القضائية، على سبيل المثال، بينما النقص الشديد بالأطباء، فقد دعا بعض المسعفين، والذين لا تعدو خبراتهم في المجال الطبي حضورهم لبعض الدورات الإسعافية، للعب دور تحوّلوا بموجبه إلى أطباء يجرون العمليات للجرحى والمرضى. والأمر ينطبق على مجمل المؤسسات الأخرى، كالدفاع المدني، والسجلات المدنية والأحوال الشخصية وغيرها.

ت‌. فساد المعارضة السياسية ونقص التمويل:

منذ أن اتخذ القرار بحمل السلاح، جنحت قوى الثورة المختلفة إلى اعتماد سياسة السيطرة على المدن والبلدات السورية المختلفة، تحت عنوان "المناطق المحررة".

ووجهت هذه المناطق المحررة، ومنذ البداية بسياسة عنيفة من قبل قوات الأسد، فضرب حصار شديد على هذه المناطق، وكثف القصف عليها حتى طال الدمار اكثر من 40% من الأبنية السكنية، ومثلها بالنسبة للبنى التحتية، حتى بات من الصعب الاستمرار بالعيش بالنسبة لمن تبقى من السكان الذين قرروا عدم مغادرة مدنهم.

كل هذا الوضع، استدعى توظيف أموالاً طائلة، لإعادة إعمار جزء ولو يسيراً من هذه المساكن، بالإضافة إلى ترميم ما يمكن ترميمه من البنى التحتية وتحديداً شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي.

وكان الائتلاف الوطني لقوى الثورة، وبصفته الممثل لقوى المعارضة، قد طالب دول أصدقاء سوريا بتقديم المساعدات العاجلة في سبيل توظيفها في مشاريع "المناطق المحررة"؛ وفي سبيل ذك أسس الائتلاف وحدة تنسيق الدعم في كانون الأول من عام 2012 كأداة لتوفير الدعم العاجل لكافة السوريين المستحقين، والذين تضرّروا جراء الحرب الدائرة في البلاد.

وإلى جانب وحدة تنسيق الدعم التابعة للائتلاف، نشأت العشرات من المنظمات والجمعيات بأسماء شتى، ولكن بمضمون واحد إلا وهو تقديم الدعم والمساعدة للسوريين المنكوبين.

وبعد سنوات على تأسيس هذه المنظمات والمؤسسات، اكتشف السوريون المنكوبون، أنه لم يصلهم من الدعم سوى النزر اليسير، وأن ملفات الفساد والتي تشير إلى تورط العديد من هذه المنظمات وعلى رأسها وحدة تنسيق الدعم، باتت الحدث الأهم بين أوساط الناشطين.

بالنسبة لوحدة تنسيق الدعم، قدم تقرير صادر عن شركة ديلويت للمحاسبة والشفافية، "رأياً متحفظاً"، حول البيانات المالية لوحدة تنسيق الدعم التابعة للائتلاف السوري المعارض عن عام 2013، ما منع الشركة من إعطاء الوحدة شهادة كاملة عن نزاهتها. وأشار التقرير إلى أن مدققين ماليين يتبعون لشركة ديلويت للمحاسبة لم يتمكنوا من "تتبع مليون دولار في نفقات المساعدات للائتلاف المعارض" (4). وهذا الرقم –مليون دولار- لا يعدو كونه، رقماً متواضعاً، أمام الأرقام، التي كشف عنها، والتي أشارت إلى هدر غير مسبوق بأموال المساعدات، في الوقت الذي كان يفترض أن تذهب إلى دعم القوى الاجتماعية الصامدة في المناطق المحررة.

وبحسب بعض المصادر، دخل إلى الائتلاف حوالي 1,25 مليار دولار، كمساعدات كان عليها أن تذهب إلى الشعب السوري، ودعماً للمشاريع التنموية في المناطق "المحررة" (5)، إلا أنه لا يوجد ما يؤكد ما مصير هذه المبالغ الطائلة والتي كان من الممكن لو وصلت لأصحابها أن تساهم في بناء مؤسساتهم وتقوية سلطاتهم الناشئة.

ولا يقتصر الأمر على المعارضة الرسمية، بل إن الفساد تغلغل حتى وصل إلى العديد من التشكيلات العسكرية المتواجدة في المناطق المحررة، والتي عملت على احتكار الدعم، المالي والإغاثي، في سبيل استخدامه وتوزيعه وفق أجنداتها.

هذا ما حدث في مدينة دوما في الغوطة الشرقية، عقب الاحتجاجات التي شهدتها المدينة منتصف تشرين الثاني العام الجاري، حيث اقتحم المتظاهرون مستودعات التجار ليجدوها مليئة بالسلع الغذائية، كما قام المتظاهرون باقتحام مؤسسة "عدالة" الخيرية، التابعة لجيش الاسلام بقيادة زهران علوش، والأمر أيضاً كان قد تكرر قبل بضعة أشهر من هذا التاريخ في المنطقة الجنوبية من العاصمة دمشق، وفي كل الحالات، اصطدم المحتجون بحجم السلع التي تغص بها مستودعات العديد من تشكيلات المعارضة العسكرية.

ساهم الفساد الجاري الحديث عنه، في ضعف تمويل مشاريع قوى المعارضة في المناطق المحررة، مما أدى في كثير من الحالات، إلى فشل هذه المشاريع أو توقفها عن العمل، وفي حالات أخرى قبلت الارتهان لمصادر تمويل "مشروط"، وأصبحت مؤسسات تابعة لجهات التمويل هذه. ولا يختلف الأمر هنا، إن كان الممولين هنا هم من السوريين أم من دول الجوار، فالجميع أثبت أن له أجندات خاصة به، وفي الكثير من الحالات كان إنماء المناطق المحررة آخر هموم هذه الجهات.

4. مقترحات حول إمكانية بناء سلطات مدنية معتبرة:

على الرغم من أن مجمل اللوحة العامة لإدارة المعارضة للمناطق التي تسيطر عليها، كانت سوداوية بالمجمل، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بعض التجارب الأخرى المعتبرة، والتي تمكّنت فيها قوى المعارضة، من بلورة بعض المؤسسات التي ساهمت في إرساء نوع من الاستقرار، وحد أدنى من تخفيف أعباء الحرب عن الأهالي.

لا بديل عن عودة السلطة في مجمل المناطق المحررة إلى القوى المدنية، فهذه هي الخطوة الأولى والأساسية، ولا بد أيضاً واستكمالاً لذلك من ابتعاد التشكيلات العسكرية قدر الامكان عن إدارة الشؤون المدنية، وترك هذه المهمات للمدنيين أنفسهم، فمهمة التشكيلات العسكرية على الجبهات وليس في إدارة المدن.

من جهة أخرى، لا بد من إبعاد "السياسة" عن "الإدارة"، فإدارة المدن، وفي هذه المرحلة بالتحديد، تفترض أطر ومؤسسات أشبه بحكومات تكنوقراط، مهمتها الأساسية إدارة هذه المناطق وتخفيف أعباء الحرب عن السكان وتلبية ما يمكن تلبيته من متطلبات الحياة اليومية لهم.
بالإضافة إلى ما تقدم، يقع على عاتق القوى المدنية مهمات أساسية تكتسي أهمية أكثر من غيرها، كإنشاء المدارس ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، والعمل على تأمين أسر الشهداء وأبنائهم، بالدرجة الأولى، كما تعتبر إعادة إصلاح أجزاء من شبكات البنى التحتية من المهمات التي لا تقبل التأجيل.

وفي ظل ظروف الفساد السائدة، وما رافقها من نقص في تمويل هذه المشاريع، لا يتبقى أمام القوى المدنية من خيار سوى الاعتماد على إمكانياتهم الذاتية قدر الإمكان، والعمل على فتح قنوات اتصال مع المنظمات الدولية بشكل مباشر ودون وجود "وسطاء" وتحديداً وسطاء من الناشطين السوريين، والذين أثبتت التجربة فشلهم وفسادهم في تأمين الدعم للمناطق "المحررة".

ولكي يستحق أي مشروع لإدارة المناطق المحررة اسمه، ويكتب له النجاح، لا بد من ممارسة الأطر الديموقراطية حتى ولو بحدها الأدنى ووفق ما تسمح به الظروف، وهو أمر ليس بالمستحيل، ففي مدينة زملكا في الغوطة الشرقية، جرت في شهر تشرين ثاني من العام الجاري (2014)، انتخابات ديموقراطية، باعتراف الناشطين في المدينة، لانتخاب المجلس المحلي، المكون بالمجمل من ناشطين من أهالي المدينة، وجرت الانتخابات عن طريق التصويت بصناديق مقفلة، وفعلا صوت الأهالي لممثليهم، من دون أن تمارس أية ضغوط عليهم، وهي تجربة تستحق الرعاية من قبل الإعلام.

5. خاتمـــــة:

شهدت المناطق التي تمكنت قوى المعارضة من السيطرة عليها محاولات حثيثة من قبل الناشطين، لإرساء وبلورة مؤسسات مدنية بديلة عن مؤسسات الدولة التي رحلت، وتحل محلها في الآن نفسه.

ومع الوقت، تنامت داخل هذه المناطق سلطات مختلفة، سعت إلى تنازع السيطرة على هذه المدن والبلدات، والأهم من هذا التنازع على مصادر الدعم واحتكار الشرعية؛ فنشأت سلطات عسكرية، مدعمة بقوة السلاح، واجهت سلطات مدنية، بالكاد كانت قد بدأت بتجميع قواها وتنظيم صفوفها؛ وفي أغلب الحالات، انتصرت سلطة العسكر، وهزمت القوى المدنية، أو تم استيعابها في أحسن الأحوال، بينما إدارة هذه المناطق والسير بتنفيذ مشاريع تنموية فكان آخر هم السلطات الجديدة المنتصرة على منافسيها.

وفي حمأة المنافسة على احتكار "السلطة" في هذه المناطق، نسي المتنافسون أنّ المناطق المحررة بحاجة إلى مجالس لتديرها لا لتحكمها وتتخذ عنها قرارات سياسية.. وإن إدارة المناطق المحررة تحتاج كفاءات وشهادات وخبرات وكل في اختصاصه، بغض النظر عن المشارب السياسية لهذه الكفاءات، وبالتالي يتطلب ما يشبه حكومة تكنوقراط مصغرة لكل منطقة وليس رئاسة وحكم ومشيخة وإمارة(6 )، على حد تعبير أحد الناشطين في الغوطة الشرقية.

المراجع:

(1)- معلومات حصل عليها الباحث من خلال اتصالات مع بعض الناشطين.
(2)- شهادة حصل عليها الباحث من أحد القضاة في الغوطة الشرقية.
(3)- شهادة حصل عليها الباحث من خلال اتصال مباشر مع بعض الناشطين.
(4)- راجع: "مليون دولار "غير مرصودة" في بيانات وحدة تنسيق الدعم"، جريدة عنب بلدي، http://enabbaladi.org/archives/19867
(5)- راجع موقع "كلنا شركاء" الالكتروني، معارضون يلجؤون للقضاء التركي لمحاكمة قياديين في الائتلاف السوري المعارض، بتاريخ: 2014/10/04.
(6)- شهادة حصل عليها الباحث من خلال اتصال مباشر مع بعض الناشطين في الغوطة الشرقية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد