ناجي الجرف وبوصلة السوريين


29 كانون الأول 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

في أوقات متقاربة رحل ثلاثة "سوريين" على ضفاف "المسألة السورية"، كل منهم له موقع فيها من مكان مختلف عن الآخر.

الأول هو سمير القنطار الذي كان رمزا مقاوما لكل السوريين قبل ثورة آذار(2011)، وتحوّل مادة للسجال والخلاف بينهم بعد الثورة السورية. وإذا كان "سمير" لبنانيا بالولادة، فإن موقع القضية الفلسطينية والمقاومة في أذهان السوريين، وموقع سمير نفسه قبل الثورة، والموقع السوري الذي اختاره هو بنفسه ليعلن وقوفه إلى جانب نظام الاستبداد و"مقاومة إسرائيل".. كلها تجعل منه سوريا بامتياز، بل ربما كان دائما حضور سمير في سوريا "المقاومة" أكبر بكثير من حضوره بين "شعوب الشعب اللبناني" المنقسم طائفيا وإيديولوجيا.

الثاني، هو زهران علوش ابن مدينة دوما، التي كان لها موقعها في الحراك السوري السلمي، وكان معتقلا لدى النظام السوري قبل أن يطلق سراحه بفعل الثورة السورية، ليشكل جيش الإسلام ويطرح مشروعا مضادا للثورة السورية كان ضحيته الأولى النشطاء الذين أطلقوا الثورة وطالبوا بإطلاق سراح علوش، الذي أدى مقتله إلى إطلاق جدل حاد بين السوريين أيضا.

الثالث هو الإعلامي والصحفي ناجي الجرف، ابن مدينة السلمية التي كان لها موقعها المميز في الحراك السلمي الذي كان ناجي ورفاقه في القلب منه، وأحد مؤسسي مجلة "حنطة"، وأحد الإعلاميين الذين لم يتوقف صوتهم عن فضح الاستبداد دون أن ينسى فضائح داعش التي يقال أنها تقف خلف مقتله بكاتم صوت مجهول.

أثار موت الثلاثة الكثير من الجدل بين السوريين، والحقيقة أن كل منهم يمثل جزءا من الإيديولوجيات التي تهيمن على الفضاء السوري اليوم، فالأول هو ممثل إيديولوجية المقاومة والعداء لإسرائيل والتي يعمل تيار غير قليل من السوريين بالتعاون مع النظام لإبقائها مادة للتجارة لوأد خيارات الحرية. وإذا كنا لا نلتفت لأولئك الذين يدركون ما يفعلون حين يضعون المقاومة بجبة الاستبداد بهدف إبقاء الأخير، لأنهم ليسوا أكثر من أجراء، فعلينا أن نعترف أيضا أن ثمة قسم لا بأس به من السوريين يؤمنون بأن إسرائيل تقف خلف كل ما يحصل في سورية اليوم، وأن النظام المستبد يدافع عن الدولة السورية بوجه إسرائيل، وعليه فإن الأولوية اليوم هي لمحاربة إسرائيل ولا شيء آخر، وهو ما جاء القنطار ليعززه ويقود هذا "القسم" من السوريين، ساعيا لأخذ "الرأي العام" معه أيضا.

الثاني يمثل الإيديولوجية الإسلامية التي يسعى البعض لترويجها أنها وسطية، فالرجل الذي ولد في رحم ثورة السوريين المنادية بالحرية والديمقراطية، لم يبق للسوريين في مناطق تواجده أي شيء من أحلامهم وأهدافهم، فلا شعارات الثورة بقيت ولا أعلامها ونشطائها حتى، فكل من يعارض السلطة "الزهرانية" مكانه المعتقل الجديد. هنا أيضا علينا أن نعترف أن ثمة سوريين يؤمنون بهذا الخيار، وهو ما أتاح لزهران علوش أن يبني جيشه وقوته، وهي قوة ضد الثورة وضد طموحات السوريين، حتى ولو كانت تقاتل النظام، ناهيك عن كون زهران وأمثاله ساعدوا النظام بأن يجعل أولوية "محاربة الإرهاب" تتقدم على أولوية الحرية، ليس لدى النظام وداعموه فهؤلاء يسعون منذ البداية لترسيخ هذه الحقيقة، بل عند طيف واسع من السوريين الذي بات يقف خلف النظام بعد أن رأى استعراضات زهران التي كان آخرها "أقفاص الموت".

الثالث: يمثل إيديولوجية الثورة، والإيديولوجية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة على عكس الإيديولوجيتين السابقيتن، لأن الإيديولوجيا جزء من أي عمل ثوري في نهاية المطاف، وهذا يمثل التيار السلمي المدني في بداية الثورة، وذاك الذي رأى في الجيش الحر خيارا وطنيا للسوريين، إذ بقي هذا الطيف الواسع من السوريين وفيا لمبادئ الثورة في الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، رافضا التطرف من جهة والاستبداد من جهة أخرى، وساعيا لدحرهما.

إلا أن وقوع هذا التيار بين حجري رحى الاستبداد المدعوم دوليا والتطرف المدعوم بغض الطرف عنه من أطياف كثيرة، جعله الأضعف والأكثر انكشافا، ولكنه الأصلب والأكثر قدرة بذات الوقت على تمثيل السوريين، ولهذا يخافه الجميع.

ولكن ما الذي يؤكد هذا الكلام الذي نقوله؟

يمكن اعتبار السجالات التي جرت بين السوريين بعيد مقتل الثلاثة مؤشرا واضحا في هذا السياق، إذ في الوقت الذي اختلف فيه السوريين حول مقتل كل من القنطار وعلوش حتى ضمن الطيف المعارض، فإن التوحد واقتراب الرؤى والحزن الذي عمّ القلوب بشكل واضح حتى لمن لا يعرف "الجرف" شخصيا، كان كافيا ليعرف الجميع أين هي بوصلة السوريين حقا، وإلام تشخص عيونهم، أي إلى الحرية: حرية تلك البلاد التي نحبها ونريدها بلا استبداد أو تطرف أو مقاومة كاذبة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد