في تراجع الحديث عن العدالة الانتقالية في سوريا


22 شباط 2016

علياء أحمد

باحثة سورية، خريجة علم اجتماع، مدربة في اﻵليات الدولية لحماية حقوق الإنسان.

منذ ربيع العام (2011)، شهدت سوريا تغّيرات جذرية على كافّة المستويات، حين تعلّقت الآمال على احتمالات تحقيق انتقال سياسي سلمي يفضي إلى الديمقراطية. ذلك أن واقع أحوال البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء منها ما سبق الحراك الشعبي الذي انطلق في آذار (2011)، أو ما نجمَ عن تطوّراته لاحقاً، حال دون بلوغ الشعب المنتفض مبتغاه في الحرية والعدالة عبر عمليّة تغيير سلميّ. فالوقت لم يطل حتّى انزلقت البلاد في أتون نزاع مسلّح متعدّد المستويات، تتشابك فيه الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية.

جملة تلك المعطيات، وما سبّبته من ارتفاع نسبة الإنتهاكات الجسيمة التي مورست بحق الأبرياء منذ بداية الحراك، دفعت إلى الاهتمام باكراً بمسألة العدالة الانتقالية في أوساط السوريين، أفراداً وهيئات([1]). وبدأ تداول الحديث فيها على نطاق واسع، باعتبارها آلية جرى اعتمادها في عدد من الدول التي مرت بتجربة انتقال سياسي بعد نزاعات مسلحة، تتيح تسليط الضوء على مكامن الخلل التي أدت إلى تفشي انتهاكات حقوق الإنسان، بغرض التعامل مع أسبابها ومعالجتها من جذورها.

راجت الكتابات والأنشطة التي تسلّط الضوء على سبل تحقيق العدالة الانتقالية، والتعريف بأركانها الأساسية، وهي: إظهار الحقيقة، وجبر الضرر على المستويين الفردي والجماعي، ومحاسبة المنتهكين، والمصالحة، وإصلاح المؤسسات. وشرعت منظمات دولية وسورية ونشطاء وهيئات من المجتمع المدني، على اختلاف التخصصات، التحضير والتمهيد لتلك المرحلة الفترضة. وبغية التأسيس السليم لها، سعى المهتمّون إلى مراجعة الحالات المشابهة، للاستفادة من الخبرات والمكتسبات التي حققتها التجارب الإنسانية، وما تراكم في سياقها من الآليات والاجتهادات، سواء في أداءأصحاب العلاقة في البلدان المعنية، أو في عمل منظمة الأمم المتحدة وعدد من المنظمات المختصة.

من المعروف اليوم أنّ هناك الكثير مما يمكن الرجوع إليه في مسائل العدالة الانتقالية، استناداً إلى قواعد القانون الدولي الإنساني وشرعة حقوق الإنسان بوجه عام، وكذلك سلسة المواثيق والاتفاقيات والصكوك الدولية ذات الصلة بالعدالة الانتقالية على وجه التحديد، ومنها الوثائق الصادرة عن الأمم المتحدة، كتقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول"سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ‏ما بعد الصراع"، الصادر عام(2004)([2])، والتوصيات الصادرة عن الأمم المتحدة باستحداث آلية المقرر الخاص للعدالة الإنتقالية في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عام (2005)([3]).

وبالتزامن مع ما يجري في سوريا، شهدت بلدان الربيع العربي أشكالاً مختلفة من الاهتمام بموضوع العدالة الانتقالية. ففي أيار (2013)، وبدعوة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة  الإنمائي ومركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية بالمغرب، عُقد في القاهرة "المنتدى العربي الإقليمي للعدالة الانتقالية، الفرص والتحديات"، الذي يهدف إلى إيجاد آفاق لمسار لعدالة الانتقالية في المنطقة بما يتلاءم مع أوضاعها السياسية، وفهم التحديات والصعوبات التي تواجه تطلعات الشعوب العربية في إجراء الإصلاحات السياسية والتشريعية والاقتصادية وبناء نظام ديمقراطي عادل يضمن سيادة القانون[4].

في سوريا، عمل عدد من منظمات المجتمع المدني على التوعية بآلية العدالة الانتقالية وأهميتها، من خلال مجموعة من الأنشطة والمنشورات وورشات العمل. وفي عام 2014 أعلنت مجموعة مكونة من 14 منظمة من منظمات المجتمع المدني السورية العاملة في مجال العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، وهيئات سياسية معارضة، عن تأسيس “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية في سوريا”([5])، كمجموعة مستقلة تعمل على تحقيق جملة من الأهداف، من بينها التنسيق بين كافة المنظمات العاملة في مجال العدالة الانتقالية في سوريا في شتى مجالاتها، بما في ذلك توثيق الانتهاكات، الدعاية والمناصرة والتوعية، ورفع القضايا النوعية أمام المحاكم. إضافة إلى دعم مبدأ العمل التشاركي وتأمين التدريب وتبادل المعلومات بين هذه المنظمات، وتشكيل مكتبة رقمية تضم كافة التقارير والبيانات والكتب والدراسات التي تتناول قضايا العدالة الانتقالية في سوريا.

وقد بدأت هذه المنظمات بالعمل الحثيث لتحقيق الرؤيا التي اجتمعت عليها، فلم توفر جهداً في إطلاق حملاتها. ويضمّ موقعها الإلكتروني العديد من الإنجازات الغنية التي تعكس نتاجاتها وخطوات تحقيق إستراتيجيتها المرسومة بهدف التأسيس الصحيح والعمل لإنجاز تجربة عدالة انتقالية خاصة في سوريا، فالفعاليات المعلن عنها والتقارير والإحصائيات المُحدّثة إضافة لتوثيق الانتهاكات وتصنيفها، والبيانات الصادرة، عدا عن المكتبة الالكترونية التي جمعت أوراق عمل مهمة وكتيبات موجهة لمختلف الفئات الموجودة في سوريا، تعطي انطباعاً إيجابياً بأن هناك من يأخذ الأمر على عاتقه وبشكل جدي.

غير أنّه من المؤسف أنّ تلك الانطلاقة القوية لمجموعة تنسيق العدالة الانتقالية في سوريا، ما لبثت أنّ خف بريقها، أو لنقل أن الواقع أثبط من عزيمتها، في ظلّ تراجع الاهتمام الدولي بهذه المسألة وأهمّيتها، إلى جانب التدهور المريع الذي أصاب أوضاع السوريين عموماً، نتيجّة تعقّد الصراع وتفشّي درجات غير مسبوقة من العنف، وما رافقه من ازدياد الشروخ والانكسارات المجتمعيّة اتّساعاً فيما بين السوريين مع طول أمد الصراع. فالحقائق المرعبة للأحوال السوريّة، التي تؤكّدها الأرقام والإحصاءات، تكشف أكثر فأكثر هول الكارثة الإنسانية التي حلّت بالبلد. ففي الوجه الأكثر مأسوية للكارثة، وهو الخسائر البشرية، تشير التقديرات إلى أن عدد الوفيات قد بلغ مع نهاية (2015) نسبة 10 بالألف، ووصل عدد الجرحى إلى 1.88 مليون نسمة، أي إنّ ما يقارب 11.5% من السكان في سوريا إما قتلى أو جرحى نتيجة للنزاع المسلّح. عدا عن تدهور النظام الصحي والخدمات كافة، الأمر الذي أدى إلى تراجع كبير في متوسط عمر الفرد المتوقع عند الولادة من 70.5 سنة، عام 2010 إلى 55.4 سنة  عام (2015)([6]).كما اضطر 45% من السكان إلى مغادرة أماكن سكنهم بحثاً عن الأمان أو الظروف المعيشية الأفضل. وبلغ عدد الأشخاص النازحین داخلياً حوالي 6.36 ملیون نسمة، أما عدد اللاجئین الذین غادروا البلاد فقدر بحدود 3.11 ملیون([7](.

لقد أكّدت التجارب السابقة أن نجاح نموذج العدالة الانتقالية في أي بلد يعتمد على قاعدتين أساسيتين: هما الإرادة السياسة الجادة، والثقة المتبادلة بين أطراف عملية الانتقال كشرطين من شأنهما تمكين آليات التغيير من التحرك المنتظم باتجاه إنجاز أهدافها. وفي ضوء الأوضاع التي نجمت عن النزاع وفق ما مرّ بيانها، ومع استمرار أسبابها، فإنّ الساحة السورية لا تتوفّر على هاتين القاعدتين، وإننا نجد أنّ صعوبات جمّة تقف في سبيل تحقيقها في سوريا، ظمن الظروف والأوضاع الراهنة. فلا توجد أرضية ثقافية وأخلاقية لضمان تأثير وفاعليّة الجهود التي بُذلت في موضوع العدالة الانتقالية.

من المرجح، على ما يبدو، أنّ هذه الحالة التي تعيق إمكانية الاستعداد والتهيئة لمشاريع العدالة الانتقالية ستطول، وهي ماضية في المزيد من التعقّد كلما طال أمد الصراع واستمرّ تعنّت أطرافه، وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير تراجع أو تجميد ( إن لم نقل قتل) الاهتمام بالمبادرات التي تهيّء للعدالة الانتقالية في سوريا.

على مستوىً آخر، يجدر الانتباه إلى أنّ أهمّ "الدول المانحة"، أو تلك التي تدعم وتموّل منظمات المجتمع المدني، لا سيّما المنظمات المعنيّة بموضوع العدالة الانتقالية، هي نفسها الدول المتورّطة في الصراع، والتي ساهمت بطرق مختلفة في استمراره، أكان ذلك نتيجة فشلها في التوصل إلى تفاهمات وخطوات جدّية تفضي إلى الحلّ إنهاء النزاع والشروع بعمليّة سياسيّة جدّية، أو في استمرار رهان بعضها على العمل العسكري وتركيز جهودها ودعمها في هذا الاتجاه، وبالتالي لن تتشكّل الظروف الموضوعية التي لا بد من توفّر حدّ أدنى منها للتهيئة جدّياً لمقتضيات العدالة الانتقالية، وكذلك ستتراجع إمكانات العاملين على مشاريع العدالة في غياب الدعم.

إنّ مما يعوق عمل المعنيين بمسألة العدالة الانتقالية، ليس فقط تعدّد المتدخّلين الخارجيين في الصراع الدائر في سوريا، واستثمارهم فيه بما يضمن مصالحهم، بل أيضاً تمزّق المجتمع السوري بفعل الحرب، وانتشار الروح الثأرية والنزعات التبريرية لكما يحصل من انتهاكات لدى جمهور كلّ الأطراف المختلفة، بفجاجة زاد من وقاحتها غياب ثقافة الاعتذار والاعتراف بالأخطاء، حتى ضمن "المعسكر" الواحد تجاه الشركاء الذين قد تصيبهم "النيران الصديقة".

كل هذا يكرّس منطق الإقصاء، ويقوّض فرص العدالة الانتقالية لصالح فكرة الهوس بالقتال حتى النهاية!

المراجع:

1 على سبيل المثال لا الحصر: بدايات العدالة الانتقالية في سوريا، على الرابط: http://www.irinnews.org/ar/report/

[2]للمزيد يمكن قراءة التقرير على الرابط:
http://daccess-dds-ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N04/395/27/PDF/N0439527.pdf?OpenElement

[3]انظر: "مقرر خاص للأمم المتحدة حول العدالة الانتقالية"، على الرابط:https://www.ictj.org/node/17340

[4]يمكن الاطلاع على البيان الختامي للمنتدى على الرابط:
http://gihr-ar.org/ar/index.php?option=com_content&view=article&id=1708%3A2013-05-14-18-12-25&Itemid=1

[5]للمزيد، يمكن زيارة الموقع الإلكتروني للمجموعة على الرابط: http://justicesyria.org/AR/Home

[6]سورية، مواجهة التشظّي! تقرير يرصد آثار الأزمة السورية خلال العام (2015)، المركز السوري لبحوث السياسات، شباط (2016)، ص 8.

[7]المرجع السابق، ص7.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد