التقسيم إنهاء للحرب، أم إشعال لحروب جديدة؟


26 أيار 2016

غيث الحلاق

(كاتب سوري مقيم في إيطاليا)

"إن تقسيم سوريا قد يتحقق وفق سيناريو  يوغسلافيا، أي ظهور عدة دويلات بدلاً من دولة موحدة ".

هذا الكلام الصادر عن الجنرال جيمس ستافريديس، القائد السابق لقوات حلف الناتو في أوروبا، لم يكن  مجرد تنبؤّ سياسي أو تصور لخريطة جديدة قد تنشأ حدودها افتراضياً على الأرض، إنما كان نتيجة عدد من المؤشرات والتصريحات من المسؤوليين الغربيين، ولعلّ آخرها وأكثرها تلميحاً بهذا الخصوص كان من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري حول ما تمت تسميته بالخطة (ب)، والتي أشار إلى إمكانية تطبيقها بشكل كبير كحلّ أخير لا بد منه في حال فشل الهدنة في سوريا، من غير الغوص في تفاصيل الخطة، على الرغم من جزم الكثير من المحللين، ومن هم في مواقع القرار أن هذه الخطة من وجهة نظر الولايات المتحدة هي تقسيم الدولة السورية إلى عدة دويلات لكل منها حكم ذاتي، بينما من وجهة النظر الروسية ستكون الخطة البديلة هي إقامة فيدرالية سورية كحل أخير.

لكن، ما هي إمكانية تطبيق ما هو على الورق، بشكل عملي على الأرض؟

لعل الإعلان الكردي الشهر الماضي عن تشكيل إقليم كردي في شمال سوريا قد كان بدايةً فعلية لمرحلة تقسيم البلاد، وإن كان ذلك الإقليم حتى اللحظة محطّ جدل بين عديد من الأطراف في الداخل والخارج، إلا أنه أصبح ولا شك مشروعَ أمرٍ واقعْ.  إلا أن ضعف المقومات الفعلية لإنشاء كيان مستقل لا زال ظاهراً في ظل عدم استقرار يرجع إلى خلافات داخلية حول السيطرة ومواقع النفوذ الى اليوم ما بين قيادات المجلس الوطني الكردستاني وقواته التي باتت تسمى بـ "بشمركة شمال سوريا" من طرف، وبين قوات وحدات حماية الشعب الكردي من طرف آخر، ولا ننسى بالتأكيد الجار التركي في الشمال والرافض كلياً لإقامة أي كيان مستقل للأكراد على حدوده الجنوبية. التأييد الأكبر والمنطقي سيكون من حزب العمال الكردستاني في العراق، والذي سيجد في الإقليم الكردي السوري أو "روج آفا" صلة وصل مثالية له مع البحر الأبيض المتوسط. الأمر الذي قد يقود بشكل أو بآخر إلى تفجر أزمة جديدة ما بين الطرفين التركي والكردي العراقي.

في الغرب يبدو الوضع مختلفاً، الحديث عن دولة علوية يجعل الامور أكثر تعقيداً، خصوصاً مع التداخل الديموغرافي الكبير في المنطقة التي تمت تسميتها اصطلاحاً بـ "سوريا المفيدة". ويبدو أن كافة الاطراف الدولية باتت تدرك ذلك الأمر ومخاطر هذه الخطوة على كافة الأصعدة ما جعلت وزيري الخارجية الأمريكي والروسي يستبعدان أمر إنشاء هذه الدولة ( على الأقل أمام الإعلام والرأي العام ).  فيما يظهر الانقسام الداخلي ما بين العلويين أنفسهم بين مؤيد لإقامة الدولة تحت عنوان حماية الطائفة في المستقبل، وبين معارض للفكرة بسبب المخاوف القائمة من الواقع الجغرافي للدولة العلوية المنشودة، والتي لن تجد لها سوى المنفذ البحري الوحيد في ظل التواجد السوري السني المفترض في الشرق والجنوب، والتركي المعارض لهذه الدولة في الشمال، ما يفتح الباب لاحتمالات نزاعات جديدة مستقبلية، إضافة إلى أن إنشاء حكم علوي في الساحل لن يرضي بالتأكيد السنة الموجودين في منطقة الساحل السوري والبالغ عددهم حوالي المليونين، وهذا إنما قد يؤدي إلى نشوء احتجاجات جديدة، وربما ثورات وحركات مقاومة داخلية في الساحل ضد الكيان العلوي. وهو ما تدركه روسيا جيداً، وتدرك أيضا أنه لن يكون في خدمة مصالحها البحرية والجوية طويلة الأمد في الساحل السوري.

بالعودة إلى مفاوضات السلام، بات واضحاً أن القوى المؤثرة الكبرى ستسعى للضغط بأية وسيلة على طرفي التفاوض للوصول الى صيغة مشتركة ترضي الطرفين ولو بشكل جزئي، طالما أن احتمال تطبيق شروط كل من الطرفين كاملةً أمر غير وارد على الأرض، وستسعى تلك القوى لأن تكون هذه الصيغة بشكل يضمن عدم استمرار النزاعات المسلحة ويضمن في الوقت نفسه تحقيق ما تسعى إليه من مصالح مستقبلية في البلاد. وهذا ما لا ينطبق على مشروع التقسيم المطروح، خصوصاً أن التقسيم قد يتعدى التوقعات الافتراضية من نزاعات ( عربية كردية ) أو ( سنية علوية ) إلى نزاعات ( سنية سنية ) ربما، فلا يمكن تجاهل ما يسيطر عليه تنظيم الدولة الاسلامية من أراضٍ على امتداد الجغرافيا السورية، إضافة إلى عديد من القوى المتطرفة الأخرى على الأرض والتي وعلى الرغم من اتفاقها الظاهري فيما بينها، فإنها تختلف إيديولوجياً في كثير من المفاهيم الأساسية بشكل  يصل إلى عدم اعتراف كل منها بالآخر، وهو ما سيحول دون إقامة كيان سني متجانس كما يُروَّج اليوم، وحتى لو تم القضاء على تنظيم الدولة وتلك القوى، يبقى موضوع الكيان السني الموحّد موضوعاً غير قابلٍ للتطبيق في ظل الخلاف المستمر حتى اللحظة حول شكل وقيادة وحدود وماهية هذا الكيان سواء بين قيادات السنة أو بين القوى الخارجية التي قد تدعم نشوء هذا الكيان. وأيضاً لم يُذكر حتى اللحظة مصير كثير من الأقليات التي قد يضمها هذه الكيان، كما لم يُذكر أيضاً مصيرها في الدولة العلوية الافتراضية، فمستقبل المسيحيين والإسماعيليين وحتى الدروز في ظل عدم وجود مقومات كافية لإقامة دويلاتهم المستقلة، هو حتى اليوم مثار كثير من التكهنات والتنبؤات، وفي نفس الوقت مصدر قلق وخوف للقوى الغربية من تطور النزاعات الطائفية إلىى مذابح جماعية أو عمليات تهجير جماعية جديدة على أساس طائفي كما حصل في البوسنة والهرسك منذ عقود.

الطرح الحالي على أن التقسيم سيكون إنهاءً للحرب، وإن أصبح اليوم ورقةً يجد فيها الإعلام موضوعاً للتداول وملء النشرات الإخبارية لا أكثر، إنما هو في يد القوى الكبرى ورقة ضغط و حتى وإن تجاوز الأمر ذلك ببدء أول كيان منبثق عن سوريا وهو الكيان الكردي، إلا أن المستقبل لا زال غامضاً بالنسبة لهذا الكيان كما هو غامض بالنسبة للكيانات الأخرى التي يُروّج لنشوئها. الأمر الوحيد الذي يمكن الجزم به هو أن التقسيم إن حصل في سوريا، سيكون نهايةً للحرب الاهلية وبدايةً لحربٍ أوسع هي حرب الدويلات، ولن تكون الدول المجاورة والإقليمية بمنأى عن هذه الحرب دون أدنى شك، ماسيفتح الباب لحرب إقليمية مجهولة العواقب.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد