الفيدرالية وإمكانية التطبيق في سوريا (5)


29 أيار 2016

هوازن خداج

كاتبة سورية تكتب في عدد من الصحف والمواقع الالكترونية حول قضايا المرأة والمواطنة والديمقراطية

أدى تغييب بناء الدولة على أساس مبدأ المواطنة واعتبار الهوية السياسية والقانونية قاعدة للعلاقة بين أعضاء المجتمع الذين يتمتعون بذات الحقوق، إلى اختلال البنية المجتمعية السورية،  كما أدت حالة التسلّط إلى إنبات بذور الانتماءات الدينية والمذهبية والإثنية والقبلية، وإلى بروز معضلات سياسية ناتجة عن تهميش حقوق الآخرين لصالح الديكتاتورية القائمة، وتم تعزيز الانقسامات وتثبيتها بتوسع رقعة الصراع وانتقالها من الحالة السياسية المطلبية إلى صراع مذهبي ديني واثني، حتى باتت المطالبة في تطبيق الديمقراطية بمعناها التمثيلي سيؤدي إلى تهميش حقوق الأقليات لصالح الأكثرية العددية، أمام هذه الحالة المعقدة التي يصعب فيها حماية حقوق الأطياف المتنوعة وجدت مسوغات قيام النظام الفيدرالي الذي يعطي جميع الأطياف شيء من الاستقلالية تمكنها من الحفاظ على خصوصياتها القومية أو اللغوية أو الدينية ورغباتها القومية والدينية وغيرها. فالنظام الفيدرالي كنظام سياسي يعتمد على توزيع السلطات بين سلطة مركزية وسلطات ثانوية لها كياناتها القانونية والإدارية، وتتقاسم فيه الحكومة المركزية صلاحياتها الدستورية وواجباتها الإدارية مع الأقاليم المختلفة أو الهيئات المحلية التي تأخذ بعض مهمات وصلاحيات حكومة المركز، وتتمتع الهيئات المحلية بصلاحيات تشريعية وتنفيذية يتحدد نطاقها بطبيعة المهام والواجبات الملقاة على عاتقها، بصرف النظر عن أن تطبيق النظام الفيدرالي في سوريا سيفتح باب التجزئة ويكون خطوة نحو انحلال سوريا كدولة، فالمنادين بإقامة فيدرالية سورية اعتبروها طريقا للتوحد، وقد اعتمدوا بذلك الحالة التعددية السورية، فسوريا بلد متعدد  إثنياً ودينياً وطائفياً، وإن هذا التنوع بات يشكل عامل تفريق وليس توحيد، لهذا من الواجب أن يكون لكل تشكيل في هذا التوزيع الحرية في تنظيم نفسه وإدارة إقليمه، مع العلم أن الدولة السورية قد شهدت سابقا أيام الاحتلال الفرنسي نظاما اتحاديا  أو الاتحاد السوري وضم ثلاث دول (دمشق، حلب، جبل العلويين) تمثّل بإعلان هنري غورو في 28 يوليو 1922 وتم حل هذا الاتحاد الفيدرالي كحصيلة دمج دولتي دمشق وحلب في 15 ديسمبر 1924 بقرارٍ من المفوّض السامي الفرنسي مكسيم فيغان حيث أعلن قيام "الدولة السورية" بعد فصل دولتي جبل العلويين وجبل الدروز عنها وفك لواء إسكندرون عن ولاية حلب.

معيقات التطبيق الفيدرالي في سوريا:

طرح الفيدرالية الحالية، أيا تكن طريقة التقسيم التي ستتخذها، ستنحو باتجاه إقامة كانتونات دينية وإثنية، وستواجه بمعيقات كثيرة ومتنوعة منها ما هو ناتج عن طبيعة المنطقة وتوزع الثروات الطبيعية والموارد وكيفية إدارتها بين السلطات المحلية والسلطة المركزية، وهي قضية خطيرة تتطلب بحثا طويلا ووضع الخطط الاقتصادية اللازمة قبل إقرار التقسيم الإداري. ومنها ما هو ناتج عن التوزيع الديمغرافي للسكان وهي مشكلة لا يمكن إغفالها إذ أن هذه الدول الناشئة لن تضم شعبا واحداً يشترك في الهموم والمصالح من جهة، ولن يتوحد تحت بند قانوني تشريعي واحد، أو يمكن فرض لغة واحدة عليه من جهة ثانية، فحالة التشابك الديمغرافي التي تعيشها سوريا لم تلغها التبدلات الديمغرافية التي حصلت مؤخرا ولم تتخذ شكلا صافيا  دينيا أو عرقيا ولا يمكن حصر منطقة جغرافية معينة بفئة عرقية أو دينية منفصلة،  وإن وجود أغلبية سنية في المحافظات الرئيسية (دمشق وحمص وحماة وحلب والرقة ودرعا)، لا يلغ وجود أقليات طائفية ومذهبية وأثنية أخرى، وإنها ستعاني الغبن في ظل أي تقسيم ديني أو اثني، وإن جرى الحديث عن أغلبية كردية في الشمال السوري فإنه لا يلغي وجود قوميات أخرى كالسريان والآشوريون والشركس والتركمان والعرب في المناطق الكردية وهي أقليات لها خصوصيتها وتراثها وتاريخها وعاداتها ولغاتها، وإن استطاعت الكيانات الناشئة إيجاد الحلول القانونية وتحديد الأنسب لبيئتها المحلية، ومراعاة خصوصيات السكان الدينية، والخروج من حالة الغبن التي ستعيشها الأقليات الموجودة فيها وفق ما تقرره الاصول العامة للتشريعات والمبادئ العامة للقانون، سيكون على الدولة الفيدرالية مواجهة موضوع اللغات المتنوعة.

تأتي أهمية اللغة باعتبارها حق ثقافي للشعوب ولا يجوز أن تحرم الأقليات الدينية أو الاثنية من  حق التمتع بثقافتها الخاصة واستخدام لغتها، وتضم سوريا في مجالها الحيوي عددا كبيرا من القوميات والأديان لكل منها لغتها الخاصة (عربية، آشورية، كردية، أرمنية، سريانية، الأديغية الشركسية، التركمانية)، ورغم أن معظم سكان سوريا يتحدثون اللغة العربية، إلا أن التزام اللغة الواحدة وإلزام الجميع على تداولها، يعدّ اجحافا وتهميشا بحق فئات مجتمعية متنوعة تسعى للحفاظ على هويتها ولغتها ونيل الاعتراف بوجودها وحقوقها غير المنقوصة. لهذا يتوجب على الدولة السورية أيا كانت طريقة إدارة نظام الحكم المستقبلي فيها التعامل مع مسألة اللغة، فمصير لغات الأقليات يرتبط بشكل وثيق بكيفية تعاطي الدولة مع هذه اللغات المتنوعة وتحقيق التعايش بين اللغات المتداولة على أراضيها، وهذا يتطلب وضع خطط واضحة، وصياغة وتنفيذ إجراءات رسمية تُنظّم استعمال اللغات وتنويعاتها المختلفة. مع ملاحظة انعدام إمكانية تعميم كافة اللغات بشكل رسمي والاعتراف بها جميعا كلغة رسمية لسوريا، أو اختيار لغة بديلة عن اللغة المتداولة بسبب بطء تطور اللغة والقدرة على إتقانها من قبل كافة الفئات، وإن هذا الأمر يحتاج إلى أجيال حتى يتم تطبيقه، لهذا فإن على الحكومة اختيار لغة واحدة معتمدة في التصريحات الرسمية وداخل المؤسسات التعليمية وفي وسائل الإعلام، وستكون اللغة العربية كونها الأكثر تداولا وتأصّلا بالمجتمع، ومنعا للشعور بالغبن لدى المجموعات العرقية داخل البلد الواحد، يلزم توضيح سبب إعطاء الأولوية للغة معينة على حساب غيرها، والسماح باستخدام البرامج التعليمية ذات الثنائية اللغوية لمراعاة لغات الأقليات، وهذه العملية تشتمل على إيصال كافة المعارف والمهارات التي تكوّن الهوية الثقافية للأقليات، بالتوازي مع الثقافة اللغوية العامة، وهي الخطة الأكثر جدوى لأن فرض تعليم الأقليات في مناطقهم بلغاتهم فقط سيؤدي بالنتيجة إلى حالة من العزل العنصري وتعميق الانقسامات داخل المجتمع، وسيمزق الروابط بين المكونات على المدى البعيد، وهذا الحل الممكن في سوريا نتيجة التشابك الديمغرافي الكبير بين المكونات.

أيا تكن الدوافع لدى البعض لاعتماد نظام حكم فيدرالي ولدى الآخرين الحفاظ على دولة مركزية، فإن بناء دولة ديمقراطية مدنية، وبناء الدستور بما يحقق العدالة والمساواة ويضمن الحريات العامة للأفراد والجماعات ويعترف بالحقوق المشروعة للأقليات وضمان المشاركة بالسلطة هو الحل الصحيح لوحدة المجتمعات والضمان للاستقرار على المدى الطويل وعدم الوقوع في ويلات حروب مستقبلية.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد