حلب والعالم الطائفي


02 أيار 2016

عمر يوسف سليمان

شاعر وصحفي سوري يقيم في باريس، آخر أعماله، "الموت لا يُغوي السُّكارى"، شعر باريس 2014، "انسَ دمشق"، سرد، بيروت 2015، و"الطفلُ المنسي"، شعر، باريس، 2016.

أكثر المشكلات تعقيداً في المأساة السورية هي المشكلة الطائفية، فلا نلبث أن نتحدث عن إحدى جوانبها من منطق الوطنية حتى نجد أنفسنا وقد انتقلنا إلى توصيفات كثيراً ما أنكرنا وجودَها لصالح مفهوم المواطنة الذي قامت الثورة من أجله، فبعد أن تم تصنيف الشعب السوري إلى طوائف وأعراق سبقت انتماءهم إلى سوريتهم، أصبح رابط المواطنة خيطاً واهياً يتم قطعه عند أول اشتباك بالسلاح أو بالكلمات.

الطائفية في سوريا لها جذورها التاريخية التي كثيراً ما أخذت منحىً مناطقياً أيضاً، كان للاستعمار ثم لحزب البعث دور فاعل في ذلك، أما أن نجد العالم اليوم يكيل الدم السوري بمكيالين فلا جُناح علينا أن نقف يائسين من ردم الهوة التي فصلت بين أبناء سوريا، إذ لا كلمات تعوِّضُ أباً قُتل أبناءه أمامه بصواريخ النظام الفاشي، لكن الأقسى من القتل أن يُعَدَّ أبناؤه ليسوا ذوي قيمة فقط لأنهم وُلدوا وسط الأكثرية السورية.

نتذكر الضجة الإعلامية التي اصطحبَت خطف الراهبات المسيحيات الأربع من مدينة معلولا على أيدي جبهة النصرة، والتي أدت إلى احتجاج دولي للمطالبة بهن ومعرفة مصائرهن، كذلك ما أحدثه مقتل الأب "فرانس" في حمص، وغيرها من الأحداث التي تمس الأقليات الدينية في سوريا، ولا يندرج تأكيدُنا على أنها أعمال مدانة بكل المقاييس تحت بند المدافع عن نفسه ضد المزاودين على الوطنية، بل في سياق أن أعظم قضية في العالم لا تستحق أن يُجرح من أجلها ظِفر طفل في أية بقعة على الأرض، وفي السياق ذاته، من حقنا أن نستنكر هذا التجاهل العالمي المخزي لقصف مشفى "القدس" في حلب، فلو فرضنا أن هذا المشفى يحوي مرضى ينتمون إلى إحدى "الأقليات" السورية، إذاً لانبرت الأمم المتحدة في الاستنكار والشجب، ولفتحت الدول الأوروبية أبواب اللجوء للمُضطهدين الذين يتعرضون لإبادة من "الأكثرية"، وكأن دم هذه الأكثرية حين يهدره الطيار الوحش ليس أغلى من دمِ الأقلية، أو لكأن التصنيف الأقلوي والأكثري صار منطبقاً حتى في حالة الحرب على الأديان والأعراق، علماً أن بين السنة مَن هو أقلي، كما بين الأقليات مَن هو أكثري، ولعل الأقلية الأكثر اضطهاداً اليوم هي أقلية العقلاء في هذه الحرب المجنونة.

سُبات العالم أمام المذبحة السورية التي حولت السلطة إلى آلة قتل، في حين حولت الضحايا منا "الأكثرية" إلى بضاعة أكثر رخصاً في سوق السياسات من قلق بان كي مون، سيحوّل أيضاً السوريين السنة في المستقبل إلى سلفيين لا يعترفون بانتمائهم للأرض التي عاشوا فيها، تماماً كما حدث ويحدث اليوم في العراق، فبعد أن كان الدم الشيعي درجة ثانية أمام الدم السني أيام الساقط صدام حسين، انقلبت الموازين في حكومة المالكي الطائفية، والتي أصبح اضطهاد السنة شغلها الشاغل في البرلمان والحكومة لصالح الشيعة، ولن نبتعد عن الحقيقة لو قلنا إن هذا ما ولَّد البيئة الحاضنة لداعش في العراق، إثر بحث العشائر السنية عن مَن يُعيد إليها مكانتها المفقودة أمام المَدِّ الشيعي. ينطبق الأمر على العلويين في سوريا، سيما أبناء القرى، الذين كانوا يُعاملون باحتقار من قبل البرجوازية السنية قبل مجيء حافظ الأسد إلى السلطة، ومع أن هذا الاحتقار جزء من المنظومة الطبقية، التي انطبقت على العلويين وغيرهم من الفقراء، إلا أن الخوف أودى ببعض العلويين لأن يتمسكوا بالرئيس "العلوي" الذي باعهم أوهام السلطة، واحتفظ له ولشبيحته بالمكاسب.

في اليوم التالي لمذبحة مشفى القدس، ضجت وسائل الإعلام الأوروبية بخبر الإفراج عن طفلة فلسطينية من السجون الإسرائيلية بعد شهرين من اعتقالها بتهمة حيازتها سلاحاً، في حين لم يحرِّك أياً من إعلامييها مشهد أم حاملٍ تخرُج من مشفى مدمر في حلب، أمام هذا، ماذا يُقال للجنين لو أصبح مستقبلاً طفلاً مجنوناً بطائفيته؟.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد