علم واحد ولغة واحدة (4)


24 أيار 2016

عمار ديوب

كاتب سوري مقيم في دمشق، يكتب في عدد من الصحف العربية منها الحياة والعربي الجديد.

الدول المُتخلفة لا تحتمل لعباً كثيراً في اتجاهات تطورها. ففي كافة أوجه الحياة لا بد من تخطيط مسبق لتلك الاتجاهات؛ في الاقتصاد، والتعليم، والثقافة والعلاقة بين القوميات، بل وفي شكل النظام السياسي كذلك. أما لماذا، فلأن البنية السابقة لما قبل الحداثة منعتها الحداثة ذاتها من أن تتفكك وتنزوي وتصبح هامشية. نقصد أن حداثتنا تشكلت في عالم تسيطر عليه "الامبريالية" فتشوهت وأعيد إنتاج البنية القديمة بما يعيق مجدداً تشكيل حداثة واعية بذاتها وبشروطها الراهنة وللماضي وللعالم الموحد إمبريالياَ ولاحقاً عولمياً.

انطلقت الثورة السورية عام 2011. هدفت للنهوض بكافة أوجه الحياة، ورفع الظلم الاقتصادي بشكل رئيسي وكذلك الاجتماعي والسياسي، ولكن هدفها هذا لم يُصَغ رؤية ووعياً سياسياً متأصلاً، وعكس ذلك، سيطرت على الثورة المعارضة السابقة الليبرالية والأحزاب الكردية القومية ولاحقاً السلفية والجهادية. سيطر كردياً بالتحديد حزب البايا دي والسلفية والجهادية ويمكننا أن نضيف انتعشت العشائرية والجهوية وكذلك الطائفية والتمذهب؛ هذه الأشكال يُخيل أنها لفظت مفاهيم الحداثة بالكامل، ومنها الشعب، والوطن، والقومية، والدولة الواحدة الحديثة، والعقل، بل إن هذه القيم تبدو وكأنها خارج سياق البحث أو النقاش، أو، وبالتالي كأن الماضي ينتقم لنفسه، ويتكرر، وليس من تطور، وبذلك عاد القدماء ليمسكوا بتلابيب الأحياء بالكامل.

لم يصمد النظام السوري وانحسر عن أغلبية المدن السورية، وبتطور سنوات الثورة، برزت أعلام جديدة، تقطع مع علم النظام، ومع الأعلام ظهرت دعوات صبيانية لمقاطعة الدولة وليس النظام فقط، وكأن الثورة ستنتهي بعدة أيام، وبعدها تتسلم المعارضة السلطة. هذه المشكلة تعقدت فكلما طال أمد الصراع كثرت الأعلام والمناطق المدارة ذاتياً، والإمارات، وأخيراً وبدءاً من 2014 بدأت تظهر معالم دول ورؤى سياسية متغايرة وأعلام محددة ومسيطرة على المشهد؛ فشهدنا بقاء الدولة القديمة في مدن معينة وفيها علمها، وظهرت الدولة الإسلامية "داعش" بعلم خاص وبـ"ولايات" وقدمت نفسها كدولة لكل مسلمي الأرض، وظهر الكرد مقادين عبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والساعي إلى إلحاق "دويلته" بـ "كردستان الكبرى"، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي فرض سلطة على الكرد المختلفين معه، وعلى العرب المتواجدين في "دويلته". الحزب هذا أنشأ إدارة الذاتية ولاحقاً الفدرالية وبذلك أصبح يحقق مشروعاً لا علاقة له بسورية! فصالح مسلم الآن زعيم وله علم وجيش بل ونظام تعليمي والكردية اللغة الرسمية، واقتصاد على نفط الجزيرة العربية.

 وبالتالي انتهت أسطورة الدولة المركزية، وأصبح للجميع دوله وأعلامه ولغته.

لمعالجة هذه التعدد غير الفسيفسائي، بل التفتتي تم نحت حلول جديدة! المنحوتات العظيمة هذه لا تعالج المشكلة بتعقد مستوياتها، أي كيف تنتقل سورية إلى دولة مواطنية ووفقاً لحقوق الإنسان، وأن الفرد مصانة حقوقه، والشعب يتكون من مجموع أفراد المجتمع. الفكرة السابقة تم تجاهلها، لصالح تكريس فهم مشوه للدولة ما بعد الحل السياسي، وضمن الاستفادة مما ظهر في الأعوام السابقة، وتجميع الأقوياء هؤلاء وصناعة دولة لهم. أي دولة المحاصصة الطائفية والقومية والعشائرية؛ أي دولة الدول! وكذلك لا تعالجها من زاوية الاقتصاد والعلاقة مع العالم، وكيف تكون علاقة غير تبعية ولصالح سورية المستقبلية؛ البلد الذي دمر وقتل مئات الألوف من شبابه، وخسارات اقتصاده تفوق الـ 300 مليار دولار.

نريد القول: ليس بمقدور "الأقاليم" السورية منفردة تشكيل اقتصاد ينهض بحاجات الشعب، ولن أقول النهوض باقتصاد صناعي متقدم، ولكن لا يمكن لاقتصاد أن يكون قوياً دون أن يكون صناعياً، هذا أولاً! وثانياً، لا يمكن قبول أي حل سياسي معادي للدولة السورية بكليتها، فمشاريع الفدرالية ودولة داعش والإمارات لا بد أن تنتهي، وتتشكل دولة مركزية مجدداً، ولكن صلاحيات المدن ستكون واسعة؛ فكرتنا هنا لا تنطلق من عداء للمدن، ولا من ذهن متخوف على نفط الجزيرة وقمحها وقطنها، أو أيضاً من الميل القومي الكردي وهو حقيقي، بل تنطلق من أن كل دولة كما أصبحت عليها سورية، بل وقبل 2011، لا يمكنها أن تتقدم دون إستراتيجية نهوض كاملة، فكيف وقد أصبحت المدن السورية بالأرض.

الفدرالية التي يتبناها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لا تُطرح لتتشكل دولة اتحادية، وتبقى للعاصمة السلطات الأساسية في كل الأقاليم، بل تطرح بسياق تحاصصي وتشكيكي بالأكثرية العربية، وضمن شروط مسبقة بالمعنى التحاصصي، ومن هنا يرفض القائلون بالفدرالية مبدأ المواطنة لكل السوريين ولعلم الثورة ولأهدافها الأساسية، ويرفضون الحقوق الثقافية والتعليمية التي تقول بها معظم المعارضة السورية العربية، واعتبار هذه القضايا من الماضي. هذه الرؤية ليست خاصة بحزب الاتحاد الديمقراطي، بل هي اتجاه عام عند السياسيين الكرد. ويصل الأمر إلى الشوفينية حينما تُطرح كردستان الغربية على مناطق الجزيرة السورية، فهنا يتم تجاوز التاريخ والجغرافيا، فتاريخياً لا شيء اسمه كرد في الجزيرة، وجغرافياً منطقة الجزيرة جزء من سورية، عدا أن هناك ولايات سورية جنوب الجزيرة أصبحت خاضعة لتركيا بسبب الاستعمار الفرنسي، واعترف النظام السوري بذلك. القصد هنا، أن الجزيرة منطقة فيها أقوام عربية وكردية وسريانية وتركمانية وشركسية وسواها، وفيها أغلبية عربية في الحسكة والقامشلي، والكرد والسريان فيها قدموا إليها في أوائل القرن العشرين لأسباب متعددة، وبالتالي وضمن هذا الإطار فإن المقبول به أن تطرح الفدرالية ضمن وحدة سورية، وليس كما تطرح وكأنها مسألة قومية ولصالح الكرد وضد بقية القوميات؛ وبسبب التحفظات الواسعة على هذا المفهوم ودلالاته التي تقارب الانفصال وكارثية الأمر على قوميات الجزيرة وسورية وعلى الكرد قبل الجميع، فإن مفهوم اللامركزية الإدارية يعد أكثر تطابقاً واستجابة لحاجة قوميات سورية.

إذاً هناك رؤى متغايرة للكرد وللدولة الإسلامية وأيضاً للنظام، والخلافات بين الفصائل تتحول إلى قتال متبادل في كثير من المناطق. هذه القضايا ستستمر ولكنها ستتهمش مع بداية المرحلة الانتقالية، وانتقال السلطة؛ حينها فقط ستكون كافة المشاريع الدولتية بما فيها مشروع النظام الحالي في مرحلة الاحتضار. المشاريع الضيقة والمحدودة الأهمية حضرت بقوة بدءاً من 2013، ولكنها ورغم ما تثيره من تخوفات، بل والملف المطروح هنا يعبر عن ذلك بتأويل ما، فإن كل هذه الأعلام واللغات سيكون مصيرها الانضواء في إطار الدولة الواحدة، أي الدولة التي تمثل كل السوريين.

سورية بوضعها الحالي، ورغم كثرة الإعلام واللغات، وهي تساعد في تأجيل الحل السياسي وتوحيد سورية، ويشكل استمرار هذه المكونات عاملاً إضافياً في تعقد المشكلات وتأجيل الوصول إلى سورية الموحدة والديمقراطية ولجميع قومياتها؛ نقول إن سورية الحالية ستزول منها كافة الأمارات والسلطات المناقضة لوحدة سورية. فهذه السلطات لا تتوفر لها أية إمكانيات للبقاء، وبقاؤها مرهون بمشكلات الثورة واستمرار الحرب فقط. لم تتشكل سلطات متعددة في لبنان ولا في العراق؛ لبنان والعراق دول ضعيفة لارتباطها بالتدخل الخارجي فيها، وبسبب قوة المجموعات الداخلية التي لعبت دوراً في تشكيل أنظمتها. في سورية الأمر معقد للغاية لأسباب داخلية، وهي أن الثورة لم تكن من أجل ذلك، وأغلبية السوريين يرفضون الميل التفتيتي، وكذلك الدول الإقليمية، فتشكيل دول متعددة أو بقاء الحرب مفتوحة في سورية سيعني تفجراً للدول الإقليمية ذاتها، ومرشحة في هذا الأردن والسعودية وتركيا، عدا تضاعف المشكلات في لبنان والعراق، وبالتالي هناك ضرورة للعودة إلى الدولة السورية كما كانت.

للأغلبية العربية  الحق المطلق بأن تكون اللغة الرئيسية للدولة هي العربية، وهذا حق لها لأنها أغلبية، أما بقية اللغات فلها الحق بالتداول في الشأن التعليمي والثقافي والصحفي والاجتماعي إلى جانب اللغة العربية في المناطق التي فيها أكثرية قومية غير عربية؛ فهذه مسألة قومية في الدولة الوطنية ولا يمكن التخلي عنها. أما العلم، فقضيته مفتوحة، وستكون مجال توافق سوري واسع وعبر استفتاء شعبي عام، وربما يكون علماً جديداً ويمثل كافة السوريين؛ استخدام علم قومي لبقية الأقليات ممكن شريطة ألا تُستخدم هذه الأعلام بالتعارض مع العلم الأساسي للشعب.

في هذا النص، تعمدت الوضوح الكامل بخصوص العلاقة بين العرب وبقية القوميات، وإذا كانت القومية الأكبر دائماً تتحمل المسؤولية الأكبر عن العلاقات السليمة مع بقية القوميات، فإن القوميات الأخرى أيضاً تتحمل المسؤولية ذاتها، سيما وأن أفراد القومية العربية أكثر من تعرض للمظالم في السنوات الخمس من الاعتقال والقتل والدمار والتشرد واللجوء.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد