الرقابة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (2)


23 حزيران 2016

بعد أن نشرنا الجزء الأول من تحقيق الرقابة في مناطق المعارضة، هنا الجزء الثاني:

حلب، حيث للصلات المحلية الشخصية اليد العليا

تتشارك حلب ومعظم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بشكل عام نفس الطابع "الفوضوي" للعمل الإعلامي حسب قول أحمد الناشط الصحفي في القسم الخارج عن سيطرة النظام من المدينة. "لا يوجد تنظيم، لا يوجد مركزية أو وحدة بالقرار، أو الجهات الرقابية التي تتحقق من صحة الخبر وتلاحق من ينشر الأخبار الكاذبة أو المغلوطة". إلا أن حلب تتمايز سواها بكثافة الأخبار المتعلقة بالقصف والقتال على الجبهات التي لا تلبث تهدأ لتظهر مشكلات الماء، الكهرباء أو المحروقات.  كثرة الفصائل والكثافة السكانية فيها تجعل مستوى المشاكل والمضايقات أكثر تعقيداً وتداخلا، فالناشط قد يختفي أو يقتل على يد مجهولين أو حتى معلومين، دون أن يكون هناك أي وسيلة لمنع ذلك من الحدوث، ورغم ذلك حتى الآن لازال الناشط الصحفي يستطيع العمل بدون رخصة أو موافقة في المناطق المدنية، إلا فيما يختص بجبهات القتال أو المناطق العسكرية.

ويقول أحمد أن اتهاماتٍ مثل "التلفيق، الشتم والتشويه" الموجهة للإعلامين، تخضع للتدخلات الشخصية والمناطقية كآلية حلٍ أولية، وفي حال تعثر ذلك، سيصل الموضوع لرفع شكوى ضده أمام القاضي الشرعي لتحل من خلال تقديم اعتذار أو نشر بيان توضيحي رسمي.

"لا يبقى على الناشط إلا الحذر في تناول أخبار بعض الفصائل التي لا تُحمد عقباها. والنصرة دائما فصيل مختلف"، أضاف أحمد في إشارة إلى العديد من الحالات المسجلة من اعتقال واعتداء على ناشطين صحفيين بسبب منشورات أو خلافات سياسية.

وتتحدث العديد من التقارير الصادرة من حلب بشكل مستمر عن اعتداءات من فصائل إسلامية طالت العديد من النشطاء، على خلفية التشدد الديني كما حصل مع الناشطة "مارسيل شحوارو" التي اعتقلت في مارس/آذار عام 2014، أو على خلفية رفع علم الثورة كحادثة اختطاف الناشط "ريان ريان" من قبل مسلحين إسلاميين في ابريل/نيسان الماضي، حيث ظهرت عليه آثار التعذيب بعد الإفراج عنه من قبل الهيئة الشرعية.

تعتبر الهيئة الشرعية المدعومة من الفصائل الإسلامية، المرجعية القضائية الأقوى على الأرض في حلب في فض الخلافات، في حين يبقى القضاء الموحد الأسبق الذي أسسته سابقا فصائل حلب مهمشا.

شُكّلت الكثير من التجمعات والاتحادات للناشطين، خبى أغلبها دون تحقيق فرق على الأرض. في عام 2014 اجتمع عدد كبير من الناشطين العاملين في حلب على تأسيس اتحاد الإعلاميين في المدينة، ليخيب ظن الكثير منهم لاحقا لما اعتبروه فشل الاتحاد في الدفاع عنهم وحمايتهم.

ادلب/جبهة النصرة

في ادلب، تشكلَ منذ ما يقارب العام ما سمي بجيش الفتح من فصائل كبرى كجبهة النصرة إلى جانب حشد كبير من فصائل إسلامية وفصائل الجيش الحر. سيطر هذا التحالف على ما يتجاوز كلية أراضي محافظة ادلب خلال فترة قياسية.

ومع السيطرة على عاصمة المحافظة، ظن الناشطون الصحفيون أن حرية العمل في المدن المتعارف عليها على امتداد سوريا ستطبق فيها. ويقول بعض الناشطون أنهم تعرضوا للاعتداءات والمضايقات خلال وبعد السيطرة على المدينة.

كل شيء يحتاج موافقة...

انعكست الفجوة الشاسعة في المنهج والأهداف بين الفصائل الإسلامية الكبرى المسيطرة وحشد فصائل الجيش الحر على طبيعة الحكم على الأرض، فتحولت المناطق التي تقاسموها فيما بينهم إلى إقطاعيات يحكم كل فصيل فيها كما يشاء.

يجتمع فصائل المعارضة كما النصرة على فرض الموافقات لممارسة النشاط الصحفي في مناطقهم. حتى المناطق المدنية الأساسية، كمدينة ادلب مثلا؛ لم يعد العمل آمناً لإعلامي فيها دون أن يكون قد حصل على موافقة أو حماية من الفصيل المسيطر على المنطقة.

"يجب أن يكون لك علاقات جيدة مع الفصائل... لن تتمكن من فعل شيء بدونها." قال الناشط إبراهيم الادلبي من منطقة إدلب، واصفا حالة الأمر الواقع التي يعمل ضمنها الناشطون الصحفيون.

وصِفت معاملة الحصول على الموافقة بـ"الروتينية" بالنسبة لأغلب الناشطين؛ تتضمن توضيح هدف التقرير وموضوعه ويلاقيها فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية مجملا بالقبول دون تعقيدات.

يعمل عدد من ناشطي منطقة ادلب حاليا على إصدار وثيقة لقواعد التصوير والعمل الإعلامي في إدلب، تؤمن قاعدة لحماية الصحفيين وتعزيز استقلاليتهم لمواجهة تحديات كرفض المساعدة المادية المقدمة من الفصائل مقابل الولاء.

يلخص الناشطون محرمات العمل الإعلامي الأساسية بالمواضيع المتعلقة بالمرأة ونشر معلومات تتعارض مع مصالح الفصائل.

فأحرقت في ادلب العام الماضي صحف محلية تصدر عن الشبكة السورية للإعلام في الخارج لتوزع في الداخل، ردا على تضامنها ضد الاعتداء الذي تعرض له طاقم جريدة شارلي ايبدو الفرنسية على خلفية حرية الانتقاد الديني.

يقول ناشطون أنه رغم إبرام هذه المؤسسات اتفاق مع المحكمة الشرعية تضمن من خلاله توزيع الصحف مقابل عدم نشر مواضيع تنتقد الدين والهيئات والشخصيات الممثل له، إضافة لعدم نشر صور سيدات لا يرتدين الحجاب الشرعي الكامل، ولكن حوادث منع التوزيع لازالت تتكرر.

في "اقطاعيات" إدلب يقول الناشطون أن لا قضاء يحكم أحد، والفصائل تنتقم ممن تريد. كل الفصائل بما فيها تلك التابعة للجيش الحر مستعدة لاعتقال إعلامي في حال اقتنعت أنه يشكل خطر عليها وعلى عملها ومشروعها.

"هذا صعب جدا في مناطق المعارضة الآن، فالصحفي هناك لا حقوق له على الإطلاق ... حتى وإن أقرت هذه الوثيقة فإن الفصائل نفسها ستخرقها. طالما لا قانون في هذه المناطق فلا حقوق." يقول إبراهيم.

في وسط حالة الفوضى والاعتداءات المستمرة، وجدت فصائل كجبهة النصرة فرصة لتوسيع تأثيرها، والضغط على العمل الصحفي الصادر من خارج مناطق سيطرتها حتى.

تنظيم القاعدة في بلاد الشام

ينتشر مقاتلو جبهة النصرة في أغلب المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة. وفي حين كان دورها في السلطة وتأثيرها على العمل الصحفي محدود بشدة في مناطق كالغوطة، يمكن رسم خط بياني لتصاعد تأثير ودور فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام بالانتقال بين المنطقة الجنوبية حيث يتصاعد دورها مع وجود شركاء محليين يشاطرونها التوجه المتشدد، مروراً بحلب حيث تتدخل بشكل أكبر في السلطة والعمل الصحفي، وصولا إلى إدلب حيث ظهرت تجربتها بشكل أوضح.

ترفض النصرة بالعموم التعاون مع الناشطين الصحفيين، أو السماح لهم بالحصول على أي معلومات إلا من خلال ما يسمى بشبكة مراسلي المنارة البيضاء – الجناح الإعلامي لجبهة النصرة – والمقسمة بحسب المناطق، كل منها له حساب خاص على وسائل التواصل الاجتماعي، يختص بنشر أخبار تلك المنطقة. ويتمتع عدد محدد من الناشطين والصحفيين بالحظوة لديهم، إما لانتسابهم للجبهة أو لتقارب في الرؤية السياسية.

ويعتبر الحصول على موافقة عمل صحفي من النصرة أمرا شديد الصعوبة، ويحتاج للكثير من العلاقات الشخصية لتساهم في حصوله. يلجأ بعض الناشطين أحيانا للتظاهر بالتوافق مع توجهات النصرة الفكرية، لربما يساهم ذلك في تسهيل عملهم في تغطية الأخبار والأحداث الطارئة في مناطق سيطرتها.

وقد يؤدي الاختلاف في الرأي مع الجبهة إلى تعرض الإعلاميين لخسارة تجهيزاتهم وإلصاق التهم بهم.

يروي المصور الصحفي أحمد بركات الذي عمل لصالح عدد من وكالات الأنباء عن قيام عناصر من النصرة بمنعه من توثيق الدمار الناتج عن قصف تعرضت له منطقة في ريف جسر الشغور، مصادرة كاميرته، متهمةً إياه بالعمالة "للنظام السوري". ويؤكد بركات أن التغطية الإعلامية في مناطق الجبهة غير ممكنة دون إذن، وأن عمليات خطف الصحفيين واعتقالهم أمر سائد في مناطق سيطرتها.

تشمل قائمة الممنوع في العمل الإعلامي بالنسبة للنصرة أي انتقادات لنشاطاتها أو تعدياتها بحق الناشطين المدنيين والإعلاميين. ويقول ناشطون في إدلب، أن النصرة تراقب صفحاتهم الشخصية على فيسبوك، وتتابع منشوراتهم وتعليقاتهم وصولا إلى مراقبة أي صفحات يتابعون.

يقول مراسل تلفزيون الآن "أحمد العبدو" أن الجهاز الأمني للجبهة يحضر "ملفات أمنية للإعلاميين" من إطار رقابته اللصيقة لوسائل الإعلام. العبدو اختطف على أحد حواجز النصرة في جسر الشغور أثناء توجهه لتغطية معركة المسطومة، ومن التهم التي وجهت له حينها؛ التشويه والإساءة لسمعة مقاتلي الجبهة.

شهدت بداية العام الحالي إقدام النصرة على اقتحام مقر إذاعة فريش في مدينة كفرنبل، ومصادرة التجهيزات الخاصة بالصحفيين، كما اعتقلت مدير الإذاعة "رائد الفارس" بتهمة الإخلال بالآداب الشرعية بسبب منشور له على الفيسبوك، وبث فقرات غنائية عبر إذاعته. تبع ذلك تعرض إذاعة أخرى "ألوان" في بلدة دارة عزة بريف حلب الغربي لحادث مماثل، فاقتحم ملثمون المكتب وصادروا التجهيزات واعتدوا بالضرب على العاملين فيه. واتهم ناشطون النصرة بالوقوف وراء هذا الاعتداء.

إعلام دولة الاسلام، لا إعلام دولة النظام

لم يتثن بعد للقاعدة أن تحكم منفردة منطقة بعينها في سورية، ولكن تنظيم الدولة الإسلامية المنشق عنها تمكن من تحقيق ذلك على الأرض من خلال احتكار الإعلام واستخدام العصا الغليظة مع الناشطين، وصولا لشل نشاطهم بشكل شبه كلي لتفرض سيطرتها على العمل الإعلامي في المناطق الخاضعة لها، وتمنع أي عمل صحفي خارج مظلتها وأجهزتها الرسمية أو شبه الرسمية.

يعد العمل في هذه المناطق بشكل مستقل عن سلطة التنظيم شيء مستحيل يتحداه عدد من الناشطين الصحفيين من أبناء المنطقة المحليين الذين احترفوا التخفي على شبكات التواصل الاجتماعي وحماية أنفسهم من القتل.

وتذكر التقارير الشحيحة التي تخرج من بين شقوق الجدار الحديدي المبني حول أخبار مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، أن سلطات الدولة فرضت البيعة (إعلان الولاء الرسمي) على الناشطين الصحفيين ليتمكنوا من متابعة نشاطهم، إلى جانب تجريم التعامل مع القنوات التلفزيونية، على أن يسمح لهم بإرسال الأخبار العاجلة والصور إلى وكالات الأنباء بعد أن يتم تسليم نسخة منها أولاً للمكتب الإعلامي للدولة الإسلامية.

أغلقت سلطات تنظيم الدولة لاحقا مكتب القناة الفضائية المعارضة الوحيدة في مدينة دير الزور وصادر أجهزته كافة. ليتلو ذلك اختفاء شبه كامل للناشطين الصحفيين في مناطق سيطرة التنظيم. لم يبق اليوم سوى بضع شبكات تغطي هذه المناطق من خلال ناشطين متخفين في الداخل، لكن بعضهم لم يسلم من الملاحقة والقتل حتى في دول الجوار.

تعتبر حسابات دعم النشر المناصرة لتنظيم الدولة على مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الرئيسي للأخبار القادمة من هذه المناطق، مستخدمة تصميم وهوية بصرية موحدة. قسم التنظيم مناطق سيطرته إلى ولايات لكل منها مكتب صحفي يصدر معظم التقارير الرسمية. ينشط في قلب كل ذلك عدد من المؤسسات الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية كمجلة "دابق" التي تصدر بعدة لغات ووكالة أعماق، وتشير الروايات إلى أن مجموعة من ناشطي المعارضة أعلنوا الولاء للتنظيم وشقوا طريقهم لتأسيس هذه الوكالة شبه الرسمية.

يعتمد التنظيم على مبدأ الاختطاف، القتل والتصفية كوسيلة لمعاقبة الصحافيين الذين خرجوا عن توجيهاته التنظيمية بشأن ممارسة العمل الإعلامي. وسجلت العديد من حالات إعدام وحشية لصحافيين أجانب ومحليين. وأصدر التنظيم مؤخرا فيديو بعنوان "لا نجونا أن نجوا" يهدد فيه القنوات التي تتبنى أخبارا تتعارض ومصالح التنظيم متوعدا الإعلاميين "أنتم الهدف القادم للأسود الجائعة".

المقال نتاج تعاون بين خمس منظمات إعلامية سورية بهدف تسليط الضوء على الحكايات السورية بطريقة عميقة، وهي:حكاية ما انحكت، مؤسسة أريح للصحافة الاستقصائية، راديو روزنة، سيريا ديبلي، مركز توثيق الانتهاكات في سورية.

المشروع بدعم من مؤسسةIMS، وستنشر المقالات بصيغة مختصرة باللغة الانكليزية على وكالة UPI.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد