مدن في الثورة: معرفة الثورة وثورة المعرفة


15 تموز 2016

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

طالما شكلت المعرفة أحد الأدوات الأساسية لقهر أية سلطة، فالثورة دون "وعي ثوري" يقرأ الممكن والمستحيل، ويكون لديه طريقه لمرحلة الانتقال من الحرية كشعار إلى الديمقراطية كمؤسسات، لا تتجاوز حدود "الاحتجاج" أو الموت المجاني، لأنها تجد نفسها في مستنقع الحرب الأهلية إذا كانت ثورة مسلحة، وجزءا من النظام إذا كانت ثورة سلمية، ولهذا طالما عملت النظم على تعميم سياسة التجهيل لمنع ضحاياها من امتلاك المعرفة اللازمة بآلية عمل النظام وطبيعته وبنيته، وبالتالي لتكوين وعي ثوري ضحل حين تثور هذه الضحايا، محتجة على إفقارها أو ظلمها.

وقد كشفت الثورة السورية خلال سيروة السنوات الخمس ونيف التي مرت، أن جزءا من ارتباك الثورة يعود إلى نقص هذا الوعي، وعي بطبيعة النظام ومستوى الإجرام الذي يمكن أن يصله، ووعي بطبيعة العالم الذي نعيش فيه، عالم متشابك ومعقّد المصالح، ووعي ببنية القوى الثورية نفسها، ووعي ببنية الشعب السوري وتعدده وتنوعه وتعدد مصالحه أيضا، الأمر الذي يجعل معركة الوعي وامتلاك المعرفة اليوم، أحد أهم الأدوات اللازمة لقهر سلطة الدكتاتورية التي سعت خلال الثورة لقتل واعتقال كل من يسلط الضوء على الحقيقة، وهي الحقيقة التي طالما عملت السلطات لحجبها، ولازالت تعمل، بالتوازي على كتابة حقيقة مختلفة، تطمس ما جرى، فمع تقدم الإرهاب في ساحات الربيع العربي يعمل النظام السوري على طمس معالم الثورة، وطمس كل ما جرى من احتجاجات ليثبت سرديته القائلة بأن ما حدث في سورية، ومنذ البداية، لم يكن إلا إرهاب يسعى لتفكيك الدولة، وهو ما نلمحه جيدا في تصريحات الدكتاتور الأسد الأخيرة.

من هنا تأتي أهمية مشروع "مدن في الثورة" السورية، الذي أطلقته "حكاية ما انحكت"، دون أن تنحصر الأهمية هنا فقط، بل إن مسار السنوات والأشهر التي مرت من عمر الثورة السورية، كشفت أن النشطاء الذين قاموا بالاحداث وكانوا فاعلين بها بدؤوا أحيانا يخطئون بالتواريخ وينسون بعض التفاصيل، ناهيك عن سجالهم فيما بيهم بين ما حدث وما لم يحدث، وبين دقة الرواية، إن كانت سمعت من فم قائلها أم نقلا عن، الأمر الذي بيّن لنا في حكاية ما انحكت، أهمية توثيق هذا التاريخ بدقة علمية، بعيدة عن التحيزات، لأن الأمر يتعدى هنا مسألة كسر استبداد النظام رغم أهميتها، إلى مسألة التاريخ وأمانة كتابته، ناهيك عن كون أنّ خلافات التاريخ كثيرا ما كانت سببا في حروب أهلية لاحقا، حيث يسعى كل طرف للي عنق التاريخ، موّظفا إياه في خدمة أجندته السياسية، كما يجري اليوم بين العرب والأكراد، فلو كان هناك تاريخا دقيقا وموثقا بشكل محايد حول النسب الديمغرافية وحول أسماء القرى والمدن تاريخيا، ألم يكن الأمر يساعد في تخفيف هذا الاحتقان؟ دون أن نتوهم أيضا أن التاريخ مهما كان دقيقا أو موثقا يمكن أن يمنع الحروب.

إذن، يأتي مشروع مدن في الثورة السورية، ليقدّم معرفة عن الثورة السورية بكافة تفاصيلها التي جرت في المدن السورية، وبطريقة علمية بحثية، تأخذ المعلومة من فم الفاعلين السياسيين والمدنيين الذين قاموا بهذه الأحداث أو كانوا على مقربة كافية منها، ساعين لتوثيق ذلك بأكثر قدر ممكن من المصداقية التي تمكنا من الوصول إليها، وبطرق إبداعية مختلفة (بحث، فيلم، انفوغرافيك، إذاعة، صور، شهادات) دون أن ندّعي الكمال، الأمر الذي يجعلنا أمام معرفة لا تزال معجونة برائحة الأرض والبشر، رائحة الشهود الذين لازالوا تحت النار والحصار والموت والدمار، رائحة الناس التي لا زالت تقاوم لنعرف هذه الحقيقة وتصل لنا، وبما يقدّم أيضا لنا معرفة ستكون في متناول الباحثين والصحافيين والمختصين، الذين يكثرون من سؤال: ماذا يحصل اليوم في سورية؟ وكيف جرى ما جرى؟ ولم وصلت الثورة هنا؟

مشروع "مدن في الثورة"، الذي بدأ بست مدن سورية في مرحلته الأولى، يسعى لكسر احتكار الاستبداد للمعرفة ولتقديم معرفة بالثورة دون أن ترتهن للثورة أيضا، بل لشروط المعرفة وحدها، بعيدا عن أيّة تحيزات ثورية، وإن كان القائمون على المشروع لا يخفون تأييدهم لثورة السوريين، دون أن يسمح لهم تحيزهم هذا بأن يصب ضد المعرفة التي تبقى هي الأهدف الأهم والأسمى، إذ كان تسليط الضوء على الانحرافات والأخطاء وتقديم النقد، بندا أساسيا في آلية العمل، وهو النقد الذي نأمل أن نسمعه أيضا، من كل الذين يقرؤون هذا المشروع، فنحن نتطلع لسماع المزيد منه لا المديح.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد