عندما قتل الأمن ابن شقيق المحامي خليل معتوق


قلّة من السوريين، ربما، يعرفون عن جريمة قرية المشيرفة التي ذهب ضحيتها ابن أخ المحامي المعتقل اليوم خليل معتوق، وقلّة أيضا يعرفون الجهود التي بذلها المحامي ميشال شماس والمحامي خليل معتوق لمحاكمة الجناة (عناصر من الأمن العسكري). عن تلك التجربة يحدثنا اليوم المحامي شماس في شهاداته التي يواصل نشرها في حكاية ما انحكت.

27 آب 2016

ميشال شماس

محامي سوري وناشط حقوقي في عدد من الملفات الحقوقية أبرزها: الدفاع عن المعتقلين السياسيين

حكايتي اليوم توالت فصولها منذ مساء الرابع عشر من تشرين الأول عام 2009، عندما اتصل بي أستاذي خليل معتوق ليخبرني بصوته المتهدج: "قتلوا سامي ابن أخي، قتلوه قبل أن يفرح بتخرجه مترجماً من كلية الآداب"، وأغلق الخط، أصابتني الصدمة من هول ما سمعت، منْ قتله  يا ترى؟ ولماذا قتلوه؟  أسئلة كثيرة بدأت ترد إلى مخيلتي..

  علمتُ فيما بعد، أنّ دورية من الأمن العسكري متنكرة بسيارة الهجّانة، كانت تلاحق مهرباً يدعى "جوني"، ولسوء الحظ كان الشاب سامي معتوق يجلس على صوفا مركونة أمام "دكان"، يرتاح قليلاً من عناء قطف الزيتون لحظة مرور "جوني". فجأة انهال الرصاص كالمطر، قتل "جوني" على الفور، ولفظَ  "سامي" أنفاسه الأخيرة وهو جالس على الصوفا التي تحوّل لونها الى الأحمر القاني، خمسون طلقة من "البي كي سي"  كانت كافية لقتلهما وجرح اثنين آخرين.

   لما هذه الهمجية؟ كان بإمكان عناصر الدورية إلقاء القبض على "المهرّب جوني" فالمسافة بينهما لا تتعدى العشرة أمتار، ولم يكن مسلحاً، كان يرتدي شحاطة، أرادوا قتل "جوني" لا توقيفه، بأمر من قائد سرّية المداهمة  في الأمن العسكري بحمص "العميد إبراهيم "، "لأن "جوني" يحتفظ  بتسجيلات مصورة عن تورط العميد المذكور بعمليات التهريب.

   أُسعف سامي وجوني إلى مشفى الرازي بحمص، من قبل ضابط عميد متقاعد، وبدل أن تحضر دورية الأمن إلى مكان الجريمة، حضرت لاستجواب الضابط المسعف، والطلب منه أن يقول: "أنه وجد بجانبهما لحظة إسعافهما  قنبلة وبارودة روسية"، لكن الضابط  رفض قول ذلك، وأكد للدورية أنّه عندما أسعفهما لم يشاهد أي سلاح أو قنابل لا بحوزتهما، ولا حتى في مكان الجريمة، وبعد فترة استدعى الضابط المذكور الى فرع الأمن العسكري في تل كلخ، وأعادوا التحقيق معه، وكرّورا الطلب منه القول أنّه شاهد بحوزتهما بارودة وقنبلة، إلا أنّه رفض وأصرّ على موقفه، فتم توقيفه عرفياً لمدة لسنة عقوبة له على رفضه الانصياع لطلب الأمن.

  تقدّم الاستاذ خليل بدعوى طلب فيها الكشف على مكان الجريمة وملاحقة المجرمين ومعاقبتهم، وبعد أسبوع  قرّرت النيابة العامة إجراء الكشف، إلا أنّ "خفافيش الليل"، استبقوا الكشف بحرق الصوفا التي كان يجلس عليها المرحوم "سامي"، كما شوّهوا مكان أثار الطلقات بالمطارق.

  وبدأت الضغوط تزداد على الأستاذ خليل لإرغامه على  التنازل عن الدعوى العسكرية المقامة ضد دورية الأمن العسكري والعميد ابراهيم، فتعرّض لحادث سير متعمّد أصيبَ على أثره بجروح طفيفة، واستدعي بعد ذلك إلى فرع التحقيق العسكري "248" حيث اتهموه بأنّه يحرّض ضد الدولة ويدعو لإثارة الفتن، وأتوا بشهود من قريته موقوفين عرفياً في الفرع ليشهدوا ضده. وقد أُفرجَ عنهم بعد فترة، واتصلوا مع الأستاذ خليل، واعتذروا عن شهادتهم ضده، وأكدوا له أنّهم أجبروا على الشهادة ضده، وإنّهم مستعدين لقول ذلك أمام القضاء.

 وبعد فترة ادّعت عليه النيابة العسكرية بحمص بجرم التحريض وإثارة النعرات الطائفية، وصدر حكم غيابي بحقه بالسجن لمدة ستة أشهر، أتبعت بدعوى أخرى ضده بتهمة تحقير رئيس الجمهورية، وصدر حكم غيابي أيضاً بحبسه مدة ستة أشهر، إلا أنّ عفواً صدر، وألغى عقوبة الحكمين معاً.

  وأذكر حينها كتبت مقالةً بعنوان: "في ذكرى أربعين جريمة المشيرفة"  أوضحت فيها أنّ  خفافيش الليل الذين أحرقوا مكان الجريمة وطمسوا معالمها، لن يفلتوا من العقاب، فالأدلة أصبحت بحوزة القضاء العسكري. لكن سرعان ما خاب ظنّي بعد قرار وزير الدفاع بمكافأة المجرمين بحفظ الدعوى، ووقف ملاحقة المتهمين بارتكاب جريمة المشيرفة.

  في اليوم التالي لنشر المقالة، وردني اتصال هاتفي من نقابة المحامين أعلموني فيه بمراجعة فرع فلسطين، وخلال يومين من تبليغي ذهبتُ إلى الفرع المذكور، مصطحباً معي ملفاً يتعلق بجريمة المشيرفة لأني توقعت أنّ الاستدعاء يتعلّق بها.  وعلى باب الفرع أرشدني أحدهم بمراجعة مكتب العقيد أبورمحمد في الطابق الثاني، ودار الحوار التالي بيننا:

العقيد أبو محمد: وهو يلوح بورقة في وجهي، شو هاد يا استاذ ميشال يلّي كاتبه؟ نحنا  خفافيش … نحنا يلّي عم نحميك وعم نحمي زوجتك وأولادك.. خفافيش..؟

ارتبكت فعلاً، ثم قلتُ  بصوت مخنوق: لا قطعاً.. لستُ أقصدكم، بل المجموعة التي ارتكبت الجريمة؟

العقيد أبومحمد: إي هذه المجموعة من عناصرنا.. فكيف تقول أنك لا تقصدنا؟

أنا: سيادة العقيد، هذه المجموعة أساءت لسمعة الأمن ويجب محاسبتها، وهي متل تفاحة منزوعة بصندوق تفاح، لازم تنشال من الصندوق حتى ما تضرب باقي التفاحات. وهذا ما قصدت قوله.

العقيد ابو محمد: (منفعلاً وغاضباً) يا أستاذ نحنا مو خفافيش نحنا عم نحميكم. وكان يُفترض فيك قبل ما تكتب وتنشر وتتهمنا، كنت خبرنا ونحنا كنّا حاسبناهم.

أنا: أعرف إنكم عم تحموا الناس والله يعطيكم العافية،  يا سيدي عندما استهدف تفجير إرهابي  فرعكم، ألقيتم القبض على أحد المشتركين في التفجير، بدون إطلاق رصاصة كما سمعت. علماً أنّه كان متحصناً في شقة بمخيم اليرموك، مع أنه كان بإمكانكم تدمير الشقة التي يتحصن بها وقتله، لكنكم  لم تفعلوا؟ فلما تتصرف تلك الدورية كما تصرفتم هنا؟

العقيد ابو محمد:  نحن حريصون على إمساكه حياً،  لنحصل عن معلومات منه عن باقي أفراد العصابة المجرمة التي نفذت التفجير.. وبعدين يا أستاذ، المجرم كان يتحصن في منطقة مدنية ولا نريد أن نعرض حياة المدنيين لأي خطر. أما بالنسبة للدورية التي تتحدث عنها فقد فوجئت بالمهرب وهو يشهر سلاحاً بوجهها فهل تضرب له تحية؟

أنا: لا يا سيدي، هناك شهود كُثرْ، أكدوا أنّ المهرب لم يكن يحمل سلاحاً، بل كان يرتدي بيجامة وشحاطة، وعلى بعد ستة أمتار عنهم وكان بإمكانهم الإمساك به حياً، أجزم أن هدف المجموعة  لم يكن توقيف المهرب، بل قتله، وذلك كي تموت المعلومات التي كان بحوزته عن عمليات التهريب  التي كانت تتم برعاية العميد ابراهيم؟

 العقيد أبو محمد: مقاطعاً "من إبراهيم ؟

أنا: قائد سرّية المداهمة في فرع الأمن العسكري بحمص، وهنا أعطيته تقريراً مكتوباً من شقيق المرحوم جوني، مرفقاً بسيدي يتضمن مقاطع فيديو، تؤكد مشاركة العميد المذكور في عمليات التهريب، وصور عن موقع جريمة المشيرفة  قبل وبعد العبث به..

 العقيد أبو محمد: ما هذا؟ ولما لم تقدمهم للمحكمة؟

أنا:  هذه وثائق تدين العميد المذكور، وتثبت أنه وراء جريمة المشيرفة، وقد قدمنا الوثائق للمحكمة، لكن وزير الدفاع قرّر حفظ الدعوى، فلم يرَ في كل ذلك أي جرم. أعطيك هذه الوثائق على أمل أن تفعلوا شيئاً.

العقيد أبو محمد: نحن لا نتدخل في عمل القضاء، (وأضاف بنبرة عالية محاولاً تغيير اتجاه الحديث) ولكن كل ما ذكرته لا يبرّر وصفك عناصر الأمن بالخفافيش، ويجب أن تُحاسب على ذلك.

أنا:  لم أقصد الإساءة لكم بتاتاً، بل محاسبة تلك المجموعة التي شوّهت سمعتكم. وأعلن أمامك الآن أني مستعد لكتابة اعتذار علني وأنشره غداً، أؤكد فيه أنّي لم أتهم عناصر الأمن بخفافيش الليل.

العقيد أبو محمد: (مقاطعاً ومنفعلاً) لا..لا  تفعل ذلك ما بدنا فضائح. يكفي إنك اعتذرت أمامي، وأكدت لي أنك لم تكن تقصدنا بذلك، ولن تفعل ذلك مرة أخرى، وسأضع السيد رئيس الفرع بصورة موقفك.

  هنا انتهى اللقاء بعد أن دام حوالي الساعتين، وتخلّله فنجان قهوة وأخر شاي وعدد لا يحصى من السجائر. خرجتُ بعدها متعهداً بعدم تكرار وصفي الأمن بالخفافيش، وتذكرت مقالتي عن شطف الدرج التي قادتني إلى فرع المنطقة،  والآن خفافيش الليل قادتني إلى فرع فلسطين، ولا أدري إلى أيّ فرع ستقودني كتاباتي في قادم الأيام.

(الاستاذ خليل معتوق هو رئيس هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سوريا، معتقل في سجون النظام منذ تاريخ 2/10/2012، ولا معلومات عنه منذ لحظة اعتقاله)

(اللوحة الرئيسية: كرتونة من دير الزور)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد