الحلبيون في طرطوس، كيف أثروا وتأثروا؟


منذ عشرات السنين، اعتاد تجار طرطوس على العمل حتى الساعة الثانية ظهراً. هذه العادة تغيّرت مع مجيء التجار الحلبيين الذين يغلقون محلاتهم في الرابعة، فاضطروا أن يداوموا كتجار حلب، جيرانهم في أسواق المدينة، كما اعتادوا أن يحاسبوا الزبائن أسبوعياً، مثل تجار حلب، بدلاً من محاسبتهم شهرياً، كما في السابق.

15 تشرين الأول 2016

منذ عام 2013، نزحت عشرات العائلات الحلبية إلى طرطوس هرباً من القصف والاشتباكات بين المعارضة والنظام، وعلى الرغم من الخلافات الطائفية والمناطقية التي تخلّفها الحرب السورية، إلا أنّ أبناء حلب استطاعوا مع الوقت أن يصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي في طرطوس، فخُلقت بيئة جديدة في المحافظة التي كان تعداد سكانها تسعمائة ألف نسمة قبل الحرب، وقد ازداد هذا العدد بشكل كبير مع توافد النازحين إليها، ومعظمهم من حلب، كما تؤكد الجمعيات المحلية العاملة مع النازحين.

تجار حلب

فور نزوحهم، استأجر تجار حلب شققاً في طرطوس، لا سيما في شارِعَي "القصور" و"الحمراء" العريقين. وقتها، لم يتوّقعوا أن تستمر الحرب لسنوات، لذلك لم يقيموا أعمالاً أو يشتروا أراضي ومحلات في الشهور الأولى من قدومهم، ومع الوقت تدهور وضعهم المادي، لذلك كانوا مضطرين إلى العمل، فافتتحوا محلات لتجارة الألبسة، الأغذية، والمواد المنزلية في قلب المدينة، "أما أصحاب رؤوس الأموال، فقد عقدوا اتفاقيات مع تجار طرطوسيين، بحيث يبقى صاحب رأس المال في الظلّ، ويعمل الطرطوسي في إدارة المشاريع، هذا يريح بعض تجار حلب الذين يفضلون أن لا يظهروا تجاراً في مجتمع طرطوس، لأسباب تتعلّق بحفاظهم على أمانهم الشخصي"، كما يقول الناشط في جمعية "عبور" غدير غنوم لحكاية ما انحكت، إضافة إلى ذلك، "فقد أدى التعامل المستمر بين صاحب رأس المال والتاجر الطرطوسي، إلى ثقة متبادلة بين الطرفين، ومع الوقت تشكلت علاقات اجتماعية بينهم... كثير من الحلبيين تخلّوا عن عاداتهم الدينية، أقلعوا عن صيام رمضان، وصاروا يشاركون أبناء طرطوس في سهراتهم التي يأخذ الكحول والموسيقا جزءاً منها"، كما يؤكد غدير.

ليس كلّ التجار الحلبيين يفضلون البقاء بالظل، فأثناء تجواله في شارع الحمراء، باحثاً عن قميص جديد، يفضل أحد الشباب الطرطوسيين، عماد لحَّام (اسم مستعار/ ثمانية وعشرون عاماً)، ومن مواليد طرطوس، أن يدخل إلى محل ألبسة يديره تاجر حلبي، فهو بخلاف التاجر الطرطوسي يستوعب أسئلة الزبائن، ويقدّم لهم عروضاً مختلفة، وفي النهاية لا يغضب إن لم يشتروا من المحل، كما أنّه يملك بضاعة أكثر جودة، وأقلّ سعراً، بعكس التاجر الطرطوسي، الذي لا يملك الصبر الكافي لاستيعاب الزبون وأسئلته، خصوصاً إذا لم يشترِ أيّة قطعة، فتجار حلب، كما يقول فؤاد شدود "لديهم خبرة طويلة في التجارة، وترويج البضاعة، وقد جلبوا هذه الخبرة إلى طرطوس التي أصبحت حاضناً لهم، فأفادوها بخبرتهم، واستفادوا منها بترويج بضاعتهم".

منذ عشرات السنين، اعتاد تجار طرطوس على العمل حتى الساعة الثانية ظهراً. هذه العادة تغيّرت مع مجيء التجار الحلبيين الذين يغلقون محلاتهم في الرابعة، فاضطروا أن يداوموا كتجار حلب، جيرانهم في أسواق المدينة، كما اعتادوا أن يحاسبوا الزبائن أسبوعياً، مثل تجار حلب، بدلاً من محاسبتهم شهرياً، كما في السابق، فـ "الشخصية الطرطوسية بشكل عام ليست رافضة للآخر"، كما يؤكد شدود، متابعاً "بل هي منفتحة، وتحب التعلّم من الغير، بدليل أنّه على الرغم من الحرب، لم يحدث أيّ صدام بين أبناء طرطوس والنازحين إليها حتى الآن، باستثناء حادثة هجوم مجموعة من المؤيدين للنظام على مخيم الكرنك بتاريخ 23/05/2016، وذلك إثر تفجيرات الساحل التي قام بها داعش، فقد أحرق المهاجمون عدداً من الخيام"، وإضافة إلى هذه الحادثة، لا يحبّذ بعض أبناء طرطوس وجود الحلبيين، كما سنوضح في نهاية التحقيق.

حلبيو المخيمات

أما الحلبيون المقيمون في المخيّمات، فقد كان اليأس مسيطراً عليهم بداية النزوح، كما سادت حساسية في المجتمع الطرطوسي تجاههم، لكن مع الوقت، أصبحت المصالح التجارية مفتاحاً غيّر هذه النظرة. أحد أصحاب مخارط الحديد في طرطوس، والذي كان يعمل في مخرطته عامل طرطوسي يُنتج له خمسة وعشرين ألف ليرة في الشهر، أجّرها لعامل حلبي يقيم في مخيم الكراجات، وقد ضاعف المبلغ ليصبح خمسين ألف ليرة، حسبما أكد صاحب المخرطة، سليم العلي (اسم مستعار، 46 عاماً) لحكاية ما انحكت.

التاجر الحلبي أبو أغيد (اسم مستعار)، كان يملك محلاً لتجارة الأقمشة في "سوق القطن" بحلب القديمة، وقد احترق محله أواخر عام 2012 نتيجة المعارك الدائرة بين النظام والمعارضة. عندها قرّر الانتقال إلى طرطوس، واستطاع أن يفتتح محلاً جديداً في شارع هنانو برأس مال مشترك بينه وبينه تاجر من طرطوس، يقول أبو أغيد لحكاية ما انحكت "نعمل في هذا المحل منذ ثلاث سنوات، ومع أنّ الوضع الاقتصادي متدهور، فقد نجحنا بشكل معقول، فشريكي له معارف كثر وسمعة في طرطوس، أما أنا فلدي علاقات مع تجار الجملة في الأردن وتركيا، هكذا استثمر كلّ منا علاقاته في نجاح مشروعنا".

المرأة الحلبية

عام 2014، مرَّ الناشط فؤاد شدّود أمام مخيم الكراجات في طرطوس، فشاهد امرأة حولها مجموعة من الأطفال، تقوم بتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة بأدوات بسيطة، أقلام ودفاتر يخطون عليها الأحرف الأبجدية، وبعد نقاش مع المعلّمة، اتفق مع مجموعة من شباب طرطوس وأحضروا لوحاً، أقلام تلوين، كراسات للأولاد، وهو جزء من مشروعهم الهادف إلى تعليم الأطفال النازحين.

مع الوقت، تطوّر التعاون بين هؤلاء الشباب وأم عبدو إلى إقامة دورات للنساء الحلبيات والطرطوسيات حول تعدّد الزوجات، التحرّش الجنسي، والمجتمع المدني، بإشراف مختصين ومحلّلين نفسيين. كانت أم عبدو تنظّم هذه الدورات مع أعضاء جمعية عبور، ومركز الشعلة، فهم يختارون مكاناً (صالة سينما أو ألعاب رياضية)، وتجلب أم عبدو النساء الحلبيات اللواتي يوافقن على خوض هذه الدورات.

رسم على جدار الخيمة لابنة أم عبدو يمثل سورية بكافة محافظاتها/ مخيم الكراج القديم/طرطوس/ 6 / 12/ 2014/ صباح الخير سوريا
رسم على جدار الخيمة لابنة أم عبدو يمثل سورية بكافة محافظاتها/ مخيم الكراج القديم/طرطوس/ 6 / 12/ 2014/ صباح الخير سوريا

المرأة الحلبية المنحدرة من بيئة سنية متدينة، والتي تلتزم بالحجاب، ولا تصافح الرجال، استطاعت التأقلم مع المجتمع الجديد، فقد أصبح لا بد لها من الخروج، والعمل أحياناً، بسبب تدني الوضع المعيشي. تذكر إحدى النساء الحلبيات، نادية مارديني، (اسم مستعار)، 37 عاماً لـ (حكاية ما انحكت) أنه "حتى لو عاد الهدوء إلى حلب، فلن أعود إليها إلا في زيارة، لأنّني تأقلمت مع الحياة هنا، في حلب، كان زوجي يُجبرني على لبس النقاب، (في حين أنها الآن ترتدي الحجاب فقط)، كما أنّني كنتُ مراقبة من الجميع في بيئة منغلقة، أما هنا فأشعر أنني حرّة".

أطفال حلب

تجنّباً لأن تصبح لديهم نقمة على المجتمع في المستقبل، نتيجة عدم إكمال تعليمهم بسبب الحرب، عمل عدد من شباب طرطوس على البحث عن الأطفال الذين انقطعوا عن المدارس، ويعيشون في المخيمات، كما تواصلوا مع أطفال حلبيين سُجلوا في مدارس طرطوس، ويعانون من اضطراب نفسي إثر ما عاشوه من رعب الحرب قبل نزوحهم.

أحد أنشطة منظمة عبور مع الأطفال النازحين/13 إبريل 2016/ الصفحة الرسمية لمنظمة عبور على الفيسبوك
أحد أنشطة منظمة عبور مع الأطفال النازحين/13 إبريل 2016/ الصفحة الرسمية لمنظمة عبور على الفيسبوك

"التعليم في المكان"، كانت خطة هؤلاء الشباب، فنظموا باسم جمعية عبور دورات في المسرح، الرسم، الغناء، الرقص، السينما... لمعالجة الأطفال نفسياً، إلى جانب مساعدتهم في حلّ الواجبات المدرسية بشكل جماعي، وذلك لإشعارهم بالتضامن معهم، "هذا التكافل جعل الطفل الحلبي يشعر أنّه في بيئة تتقبّله، فتشكلت صداقة بينه وبين طفل طرطوس، حيث لم يعد غريباً أن نرى أمام مخيّم الكراجات لهجتين (حلبية وطرطوسية) يتحدّث بهما مجموعة من الأطفال أثناء لعبهم. هذا الاندماج باللهجات خلق شعوراً بالمساواة لدى الأطفال الحلبيين" كما يقول فؤاد.

شخصية جديدة

أدرك قسم من أبناء طرطوس أنّ هؤلاء الوافدين الجدد سيكونون عاملاً لنهضة في المدينة، لذلك قدّموا لهم ما استطاعوا من الخدمات، سواء بالمعونات الغذائية والمالية أو بالصالات والمحلات التجارية، أما تبادل المهارات بين الطرطوسيين والحلبيين فقد خلق شخصية جديدة، ابن طرطوس اليوم لديه من الخبرة التجارية بشؤون الاستيراد والتصدير ما لم يكن لديه في السابق، فأبناء طرطوس ليست لديهم مهنة محدّدة، شهدت تراكماً من الخبرات عبر السنين، باستثناء مهنة الصيد، وابن حلب أصبح أكثر انفتاحاً وحرصاً على التعلّم نتيجة تأثره بابن طرطوس، فالحلبيون حوَّلوا طرطوس إلى مدينة تضج بالحركة، بعد أن كانت أشبه بالقرية، وذلك بفضل ما قدمه أبناؤها إلى الحلبيين من مساحة لمتابعة حياتهم وأعمالهم.

تأثير سلبي

الصورة ليست وردية دائماً، فبعض أبناء طرطوس يرى في تواجد النازحين حالة شاذة، فهم زادوا من الحال الاقتصادية سوءاً، فسبّبوا ارتفاعاً في آجارات البيوت بسبب استعداد تجارهم للدفع أكثر من أبناء طرطوس، كما يرى البعض الآخر أنّهم غير مؤهلين للاندماج بمجتمع طرطوس، بسبب عاداتهم، إذ تقول إحدى شابات طرطوس، وهي طالبة في كلية الآداب، ليلى العلي، (اسم مستعار)، 23 عاماً لـ حكاية ما انحكت، "أصبحنا نرى الحلبيين في كل مكان، في أماكن سكننا، أسواقنا، على شاطئ البحر، أنا لست عنصرية، لكنّني ضد أن يتواجدوا بيننا بكثرة، فهم مع الوقت بدأوا يغيرون هوية المدينة، ونحن لنا تقاليدنا التي لا تشبههم". ولدى سؤالنا لها عن كونهم مجبرون على الإقامة في طرطوس بسبب الحرب قالت "هم ليسوا مجبرين، يستطيعون أن يذهبوا إلى محافظات أخرى، إلى اللاذقية أو جبلة أو دمشق، لكنهم ربما يفضلون المجيء إلى هنا لأنهم يجدون أعمالاً  في مدينتنا أكثر من غيرها، مع ذلك، هذا ليس سبباً كافياً لبقائهم".

يأخذ التأثير المتبادل بين الحلبيين والطرطوسيين بُعدين، إيجاباً وسلباً، وهو أمر طبيعي في ظلّ الانقسام الحاصل في البلد، والذي يرخي بثقله على الجميع، خاصة أنّنا أمام مدينة قتل قسم كبير من شبابها مع النظام وميليشياته، بينما لازال قسم كبير على جبهات القتال.

(الصورة الرئيسية: زيارة مجموعة من أعضاء جمعية عبور لمخيم الكراج القديم في طرطوس، بتاريخ 24/05/2016، المصدر: صفحة الناشط غدير غنوم)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد