الاقتصاد السوري بين التحرير والصراع


تبقى التسوية السياسية في سوريا مسألة مبهمة نظرًا لتعقيد شروطها وتوقيتها وشموليتها. إلّا أنّه يجوز النظر إلى الحكومة الانتقالية في إطار هذه الدراسة كمتسلسلة نرى فيها من جهة رؤية النظام التي تطمح إلى حكومة وحدة وطنية موسعة من دون أي تغيير في بنيتها السياسية، ومن جهة أخرى بداية الحكومة الانتقالية بقيادة المعارضة مع عزل الأسد ومن ثمّ تفكيك دولة الأمن.

04 كانون الثاني 2017

فرديناند أرسلانيان

فرديناند أرسلانيان مرشّح لشهادة دكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة سانت أندروز – مركز الدراسات السورية، وتركّز أطروحته على كيفية تمكن سوريا من التأقلم مع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وأرسلانيان حائز على شهادة ماجستير في علم الاقتصاد من جامعة كنت في كانتربري، ويتمتع بخبرة في موضوع سوريا إذ شغل منصب مستشار في السياسات العامة مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي. وفي رصيد أرسلانيان عدد من المنشورات وهي: "النمو في المرحلة الانتقالية وأداء سوريا الاقتصادي" (Growth in Transition and Syria’s Economic Performance) – الدراسات السورية، 2009؛ و"الحرب الأهلية في سوريا: البعد الدولي" (The Civil War in Syria: The International Dimension) – السياسات العالمية، 2015؛ وتحليله لكتاب محمد عمادي وعنوانه "تغير مفاهيم التطور في سوريا" (The Evolving Concepts of Development in Syria) – الدراسات السورية، 2015. ويُضاف أنّ الكاتب حائز على منحة كالوست كولبنكيان العالمية للتفوق، ويودّ أن يقدّم شكره للمؤسسة لدعمها له في كتابة هذا المقال.

لقد طغت على البعد الاقتصادي للصراع السوري بشكل واسع أبعادُه الإنسانية والعسكرية والسياسية التي تفوقه قهرًا. إلّا أنّ اقتصاديات الصراع السوري تنعكس في عدة مجالات، فهي سبب رئيسي في اندلاع الثورة استنادًا إلى إجراءات التحرير الاقتصادي التي اتُّخذت في عهد بشار الأسد، وهي أداة سياسية يستخدمها أعداء النظام السوري الأجانب نظرًا للعقوبات المفروضة على النظام، كما وأنّها من المجالات التي تجسّد قدرة النظام السوري على المجابهة.

وسيسلّط هذا المقال الضوء على البعد الاقتصادي للصراع السوري من وجهة نظر النظام السوري. فسيبدأ بتقديم معلومات عن الاقتصاد السوري تحت حكم حافظ الأسد وعن إجراءات التحرير الاقتصادي التي اتُّخذت في عهد ابنه بشار. وسيتناول بعد ذلك الأثرَ الذي تركه الصراع والسياسات المرتبطة به، ليركّز في النهاية على ديناميكيات الاقتصاد السوري في ظل حكومة انتقالية محتملة.

سيطرة الدولة على الاقتصاد وتحريره تحت حكم آل الأسد

تَشكّل الاقتصاد الخاضع لسيطرة الدولة في سوريا إثر عوامل سياسية واقتصادية سائدة ظهرت عقب انهزام العرب أمام إسرائيل في حرب 1967 وتولي الأسد السلطة، إذ اندحر الجيش السوري فيما عُزل النظام محليًّا ودوليًّا بسبب مواقف أسلاف الأسد الراديكالية1.

واستجابة لهذا الوضع سعى الأسد إلى إعادة توجيه سياسة سوريا الخارجية نحو هدف واحد ألا وهو استعادة هضبة الجولان2، ما عنى التصالح مع حكومات الخليج العربي الملكية الغنية بالنفط مع المحافظة على علاقة سوريا بالاتحاد السوفياتي، وأيضًا التقرب من البرجوازية السورية التقليدية مع المحافظة على ركيزة الحزب الاجتماعية الريفية والشعبية3.

وأسفرت هذه التطورات عن انعكاسات اقتصادية برزت في تحويل المساعدات المالية التي قدّمتها دول الخليج الغنية بالنفط لاستخدامها في توسيع القطاع العام 4الذي ساهم بدوره في خلق وظائف لركيزة حزب البعث الاجتماعية الريفية والشعبية.5

وفي الوقت نفسه سنحت الفرصة للبرجوازية التقليدية بالازدهار على هوامش هذه العملية، إذ بات بإمكانها استيراد المنتجات، والتوسط بين القطاع العام والشركات الأجنبية، وكذلك الاستثمار في الصناعات الخفيفة والخدمات6.

إلا أنّه تبين في أواخر السبعينات أنّ هذا النظام الاقتصادي غير مستدام إذ ظهرت عدم كفاءة القطاع العام. فتفشّى الفساد وبدأ التضخم يؤثّر في القدرة الشرائية للمواطن السوري المتوسط7. وتبع ذلك تضاؤل في المساعدات الخليجية وتراجع في عائدات تصدير النفط في المنتصف الأول من الثمانينات، ما أدى إلى أزمة شديدة في الصرف الأجنبي في العام 19868. ولحل هذه الأزمة حدّت الدولة دورها الاقتصادي واعتمدت في المقابل على القطاع الخاص في التجارة الخارجية والاستثمارات9.

وبعد بضع سنوات استعاد الاقتصاد السوري عافيته مع عودة الدولة إلى تصدير النفط وانتعاش القطاع الخاص. فظهر نظام اقتصادي جديد سُمّي بـ"التعددية الاقتصادية" دعم القطاع الخاص ليتساوى مع القطاع العام10.

وشهدت أوائل التسعينات طفرة بقيادة القطاع الخاص تميزت بتركيزها على الداخل وبتركيز المنتجات على المستهلكين وبعدم تهديد المنافسة الخارجية لها11لكن سرعان ما اندثرت هذه الطفرة مع توقّف صدور إصلاحات اقتصادية جديدة، ما أدى إلى حالة ركود في العام 199912.

وفي هذه الظروف الاقتصادية المريعة ورث بشار سوريا في العام 2000. فحاول في البداية إعادة توجيه الاقتصاد نحو الغرب وذلك عبر التفاوض حول اتفاقية الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي13، مع وضع أسس قانونية لاقتصاد صديق للأعمال من خلال ما سُمّي بـ"ثورة المراسيم"14.

وفي هذه الأثناء، كان السوق العراقي بمثابة شريان حياة اقتصادي، إذ قدّم منفذًا للصناعات السورية، والأهم من ذلك أنّه سمح بإعادة بيع النفط العراقي الخاضع للعقوبات، ما أدى إلى تراكم مهم في احتياطي النقد الأجنبي15. لكن سرعان ما تدخلت إدارة الرئيس بوش كالصقر واضعة حدًّا لخطط الاندماج في السوق الدولي16.

ولمواجهة الضغوطات السياسية المتصاعدة جرت محاولات لتسريع اتفاقية الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي17. وتمهيدًا لهذه الاتفاقية، اتُّخذت خطوات أحادية باتجاه تحرير التجارة في العام 2004 من خلال خفض الرسوم الجمركية، وفك بعض القيود الأخرى عن الواردات، وتوحيد أسعار الصرف الأجنبي المتعددة في سوريا18. وعلى النحو عينه تراجعت الإعانات في حين تحرّرت الأسعار إذ أصبحت الأولوية ترصيدَ الموازنة العامة19

إلّا أنّ هذه المحاولة تعطلت إثر قضية الحريري في بداية عام 200520، فمال الاقتصاد السوري إلى الشرق، مستغلًّا فطرة النفط بعد غزو العراق وجاذبًا استثمارات من الخليج. ونتيجة لذلك، ازدهر الاقتصاد بقيادة قطاع الخدمات في حين تحرر القطاع المالي وتركّزت الاستثمارات الخليجية على المشاريع العقارية والسياحية الراقية21. وأُطلق على هذه الحقبة الجديدة رسميًّا اسم "اقتصاد السوق الاجتماعي".

ومع نهاية العقد الأوّل من الألفية الثانية، استعاد الاقتصاد السوري عافيته وبلغ متوسط معدل النمو السنوي 4.7%22، مع أنّ ذلك جاء على حساب اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. فبرز اقتصاد جديد يرتكز على الخدمات، في حين تدهورت حال الصناعة الحرفية التقليدية جراء المنافسة الأجنبية23. ووسّع أصدقاء النظام الرأسماليون هيمنتهم على الاقتصاد بينما استُبعدت تدريجيًّا ركيزة النظام الاجتماعية الريفية السابقة.

لكن تجدر الإشارة إلى أنّ التدابير التي اتُّخذت لتحرير اقتصاد سوريا لم تكن بهذه الجدية، إذ بقي القطاع العام على حاله24 موظّفًا نسبة عالية من القوى العاملة، واستمرّ تقديم عدد من السلع الأساسية ضمن الإعانات مثل الخبز والخدمات العامة والطاقة. كذلك، بقي الاقتصاد السوري معتمدًا بشكل واسع على الاتحاد الأوروبي في استيراد المواد الأساسية وتصدير النفط بالرغم من توجهه إلى الشرق.

[الصورة: تصدير النفط السوري الخام بحسب الدول في عام 2010. فكان يتم تصدير أكثر من 90% من النفط السوري الخام إلى الدول الأوروبية – ألمانيا: 32%، إيطاليا: 31%، فرنسا: 11%، هولندا: 9%، النمسا: 7%، إسبانيا: 5%، دول أخرى: 5% - إدارة معلومات الطاقة الأمريكية/تقرير تحليلي خاص بسوريا/قابل للاستخدام. كافة حقوق النشر محفوظة.]

الاقتصاد في ظل الصراع المستمر

أصبحت سوريا بلدًا مختلفًا بعد خمس سنوات من الصراع خصوصًا على المستوى الاقتصادي، فقد أصبح مستوى الدخل فيها يساوي دخل اقتصاد البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى25، وفقدت العملة السورية 85% على الأقل من قيمتها26، واضمحلت الركيزة الصناعية.

وتغيّرت البنية التجارية في سوريا بشكل ملحوظ، فباتت الواردات تقتصر على المواد الأساسية من المنتجات النفطية والغذائية التي لا يتم إنتاجها محليًّا، وانخفضت التصديرات لتصل إلى حوالى 30% من قيمتها قبل الأزمة، في حين برزت إيران كشريك تجاري أساسي للبلاد27.

ومع ذلك، افتخر المسؤولون السوريون بتمكنهم من تجنب انهيار اقتصادي بالرغم من خمس سنوات من الصراع والعقوبات الاقتصادية28. وتبلورت قدرة سوريا على المجابهة اقتصاديًّا عبر صمود دولة فاعلة بشكل واسع لا تزال تقدّم خدمات عامة (بما في ذلك إعانات الخبز) بالرغم من تدهور نوعيتها وقدرتها على تغطية كافة المناطق. وخلافًا للبنان المجاور وهو دولة آمنة نسبيًّا، لم تواجه سوريا "أزمة نفايات" ولا تزال تتخلص من نفاياتها بشكل فعال. كما وتجنبت البلاد التخلف في تسديد رواتب موظفي الدولة وأيضًا انهيار النظام المالي.

وعند اندلاع الثورة، تأثر الاقتصاد بشكل مباشر بخسارة البلاد لعائدات قطاع السياحة، فضلًا عن الجمود في الحركة الاقتصادية بشكل عام الذي عادة ما تشهده أوضاع سياسية كهذه. ولمواجهة هذا الوضع، وجّه السياسات الاقتصادية اعتباران سياسيان هما ترسيخ فكرة "سوريا بخير" وتشكيل تحالفات معادية للثورة أو على الأقل تحييد المجموعات الاجتماعية.

فباعتبار أنّ "سوريا بخير"، وجب الحفاظ على بعض المؤشرات الاقتصادية، كتجنب انخفاض سعر الليرة السورية والتهافت على سحب الودائع من المصارف، مع حدّ الإجراءات التي قد تشير إلى تضييق اقتصادي (مثل فرض قيود على عمليات الصرف29). ونتيجة لذلك، تضمنت سياسة النقد والصرف في سوريا فوائد عالية30 وتدخلًا غير رسمي في السوق عبر الاعتماد على مجموعة من رجال الأعمال السوريين النافذين الذين أطلق عليهم اسم "الجيش الاقتصادي السوري"31

أما في ما يتعلق بالاعتبار الثاني، فقد تطلب على الصعيد السياسي تحييد الأكراد من خلال منح الجنسية للذين حُرموا منها، وتهدئة رجال الدين الدمشقيين المسلمين عبر إقفال كازينو دمشق وإطلاق قناة تلفزيونية دينية. وعلى الصعيد الاقتصادي، عنى هذا الاعتبار اللجوء إلى قاعدة عملاء القطاع العام من خلال زيادة الرواتب وفرص العمل32.

لكنّ سوريا خسرت مصدر دخل أساسي مع حظر النفط الذي فرضه الاتحاد الأوروبي في أيلول/سبتمبر 2011، فوجب إذًا تعديل سياستها الاقتصادية السابقة. وكمنت المحاولة الأولى في هذا الصدد في فرض حظر شديد على الواردات التي تزيد رسومها الجمركية عن 5%، إلا أنّ الحكومة سرعان ما أُجبرت على رفعه نتيجة للضغوطات التي مارسها رجال الأعمال33. وأثبت ذلك صعوبة عكس عملية التحرير الاقتصادي وكذلك القوة السياسية التي تتمتع بها فئة رجال الأعمال السوريين.

لذلك، كان من الضروري الاستجابة للضغوطات على الليرة السورية عبر السماح لقيمتها بالانخفاض والتدخل رسميًّا في السوق على حساب احتياطات النقد الأجنبي. أما في ما يخص المالية العامة فقد تمّ الحدّ من الإنفاق على الاستثمارات بهدف المحافظة على المستوى الحالي من الإنفاق على الرواتب والإعانات34.

وبعدما طالت العقوبات القطاع المالي، اتُّخذت عدة تدابير مضادة للتحايل عليها. فتزايد الاعتماد على النظام المالي الروسي وعلى خبرة إيران في شحن النفط بشكل غير قانوني، فضلًا عن إنشاء شركات خارج البلاد في لبنان35 والعالم.

وإثر تصعيد الأزمة السورية لتصبح حربًا أهلية شاملة مع نهاية صيف 2012، تقلّصت المناطق الخاضعة لسلطة النظام، وتقسّمت البلاد ما بين مختلف الأطراف المتنازعة. وعنى ذلك على الصعيد الاقتصادي تراجع احتياطي رأس المال بشكل هائل جراء الدمار والهروب والبطالة، وتضاؤل حجم التجارة الدولية لتصل إلى جزء بسيط من حجمها في فترة ما قبل الثورة36.

وفقدت الدولة سيطرتها على معظم النقاط الحدودية وحقول النفط، وواجهت بشكل عام صعوبات متزايدة في الوصل ما بين مناطق الإنتاج الزراعي والمناطق المستهلكة له في المدن، ما أسفر عن نقص متزايد في المنتجات وانقطاع الكهرباء وتضخم تفشى بسرعة هائلة. فضلًا عن ذلك، شهدت سوريا ظهور اقتصاديات الحرب التي أصبحت في إطارها عمليات النهب والخطف والاتفاقيات الاقتصادية بين الأطراف المتنازعة ممارسات تجارية شائعة.

إلا أنّ تطورات اقتصادية رافقت رجوح الكفة العسكرية لصالح الجيش السوري في صيف 2013، فأولًا، قدّمت إيران خطًّا ائتمانيًّا ثانيًا بقيمة 3.6 مليار دولار لتسهيل الواردات، وذلك بعدما كانت قد قدّمت خطًّا أولًا بقيمة مليار دولار في كانون الثاني/يناير 2013.

وتلى ذاك تغيير في سياسة سوريا التجارية لتصبح أكثر تشدّدًا في ما يتعلق بإجراءات الاستيراد. فأعيد فرض رخص الواردات على مستوردي القطاع الخاص بحسب كلّ حالة على حدة. وسهّل خطا الائتمان الإيرانيان عودة الحكومة إلى الساحة كمستورد للسلع الغذائية الأساسية. ومُنع صرف العملات الأجنبية بالمعدلات الرسمية في المعاملات الحكومية، في حين تعيّن على القطاع الخاص استحصال صرف أجنبي خاص به بالسعر المتداول في السوق37.

وأخيرًا، بدأ الاقتصاد السوري بالتأقلم مع الوضع الجديد، وبشكل خاص في خريف 2013 بعد الهجوم الكيميائي على الغوطة. وأصبحت المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة أكثر اتصالًا في ما بينها مع ظهور "سوريا المفيدة"، فتم الوصل ما بين الساحل ودمشق وبين وسط سوريا وحلب.

وانتقلت الأعمال من ريف دمشق الذي دمّرته الحرب إلى العاصمة نفسها38، ومن حلب إلى المنطقة الساحلية39، في حين برزت شركات جديدة في منطقتي السويداء وحماه الأكثر أمانًا40. وبالرغم من هروب الكثير من الشركات إلى تركيا ومصر والأردن والإمارات العربية المتحدة41، صُمّم عدد منها لخدمة السوق السوري، ما ولّد شبكات تجارية معقدة42.

وفضلًا عن ذلك، ساعدت حوالات الشتات السوري في الخارج عددًا كبيرًا من العائلات السورية على المحافظة على سبل العيش. فأسهم مجموع هذه العوامل في هيمنة استقرار نسبي على أسعار الصرف والأسعار إجمالًا، كما وحدّ من التراجع في المخرجات الاقتصادية.

لكن مع حلول منتصف 2014، واجه النظام السوري صعوبة متزايدة في الحصول على خطوط ائتمان جديدة، إذ عانى حليفاه الأساسيان روسيا وإيران من مشاكل مالية خاصة بهما بسبب انخفاض أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية.

وبعدما لم يبقَ للسلطات السورية سوى مواردها المحلية، باشرت تطوير مفهوم "عقلنة الدعائم"43، كان قد ابتُكر في المبدأ لتقديم إعانات أكثر استهدافًا لمن هم في أمسّ الحاجة إليها، إلّا أنّه عنى فعليًّا تقليل المواد الأساسية في الإعانات مقابل زيادة الرواتب في القطاع العام. وفي هذا الإطار، شهدت المنتجات الأساسية عدة موجات من ارتفاع الأسعار شملت منتجات الطاقة والخدمات العامة والسكّر وحتى الخبز44.

وعانت الليرة السورية من ضغوطات شديدة جراء الوضع الاقتصادي، فاستمرت قيمتها بالانخفاض خصوصًا مع سقوط مدينة إدلب في آذار/مارس 2015. ونتيجة لذلك بدأت الحكومة السورية بتشديد إفنائها للصرف الأجنبي من خلال خفض تمويلها للواردات ليشمل المواد الأساسية وحدها، وإجبارها المصدّرين على بيع عائدات الصرف الأجنبي للمصرف المركزي45.

وبهدف زيادة العائدات، أحجمت السلطات عن تكتيكيتها العقوبية السابقة التي نصت على منع تجديد جوازات سفر مناصري المعارضة، فضاعفت رسوم الخدمات الاستشارية وجنت بذلك 500 مليون دولار46.

ونتيجة لهذه الإجراءات وصلت قيمة الليرة السورية إلى 300 ليرة للدولار الواحد في خلال صيف 201547. إلا أنّ العملة السورية عادت لتتراجع بشكل هائل في شهر آب/أغسطس 2015، وحتى خط الائتمان الثالث الذي قدّمته إيران لم ينجح في عكس هذا المنحى48.

[معدلات سعر الصرف الشهرية من كانون الثاني/يناير 2011 إلى تموز/يوليو 2016 – 7-9-2016 (نشرة مصرف سورية المركزي الرسمية لأسعار الصرف/علاء الدين/مجال عام)]

وأتى التدخل الروسي في أيلول/سبتمبر 2015 على الاقتصاد السوري بآمال جديدة، إذ تمّ تأسيس قرية الواردات والصادرات، وهي عبارة عن منشأة تخزين في مرفأ اللاذقية، تدعمها شحنات تُرسَل إلى روسيا مرّة كل أسبوعين، أنشئت بهدف زيادة التصديرات الزراعية السورية49.

ومع انطلاق محادثات السلام في مؤتمر جنيف 3 في أواخر 2015 ومطلع 2016 تحضيرًا لعملية إعادة البناء المستقبلية، سُنّت قوانين جديدة لتنظيم مشاريع التشاركية بين القطاعين العام والخاص في مجال البنى التحتية، فتم إنشاء المجلس السوري للمعادن والصلب إلى جانب مؤسسة لضمان الائتمانات50.

كما وأعلن رئيس الوزراء عن انطلاق مرحلة جديدة في الاقتصاد السوري دُعيت بـ"الشراكة الوطنية" لتحل محل "اقتصاد السوق الاجتماعي". وفي إطار هذه المرحلة الجديدة، سيكبر دور القطاع الخاص في عملية إعادة بناء البنى التحتية في البلاد، ما شكّل إذًا خطوة أخرى في اتجاه تحرير الاقتصاد.

لكن مع تدهور عملية السلام، سرعان ما أصبحت هذه المرحلة الجديدة من الماضي وأعيد توجيه تركيز السياسة الاقتصادية السورية نحو اعتراض تدهور سعر الليرة السورية (التي وصلت قيمتها إلى 600 ليرة للدولار الواحد في أيار/مايو 201651). وبالتالي، فرضت الحكومة قيودًا على إصدار رخص الاستيراد وتأمين السيولة في السوق52.

وبشكل عام يمكن نسب قدرة سوريا على المجابهة اقتصاديًّا إلى ثلاثة عوامل وهي: تدابير الدولة الاقتصادية السابقة، ودور حلفائها السياسيين، والتدابير الاقتصادية التي اتُّخذت في خلال الأزمة. أمّا أهمية هذه العوامل فنسبية وغير ثابتة إذ تغيرت مع مجريات الصراع.

وقد شملت التدابير الاقتصادية التي اتُّخذت على مرّ العقود لعزل الاقتصاد السوري عن الضغوطات السياسية جمعَ احتياط هائل من النقد الأجنبي، واتباع سياسات اكتفاء ذاتي في الزراعة، وتشكيل شبكة مالية غير قانونية، وهي تدابير ساعدت الاقتصاد السوري على مواجهة الضغوطات التي عانى منها في البداية في العام 2011.

لكن مع تزايد ثقل العقوبات الاقتصادية وتداعيات الأزمة، بات دور حلفاء النظام السياسيين وخطوط الائتمان الإيرانية بشكل خاص عاملًا حاسمًا في صمود الاقتصاد السوري.

ومع تراجع الدعم الخارجي لاحقًا اتُّبعت تدابير اقتصادية جديدة تضمنت فرض قيود على التجارة والنقد الخارجي مع تحرير الأسعار، مع المحافظة على رواتب القطاع العام.

إلا أنّه يمكن التساؤل حول ديمومة هذه التدابير، إذ تواجه سوريا صعوبات في الحصول على عائدات في القطاع العام لتمويل نفقاتها وإيجاد أسواق صادرات لتمويل فاتورة الواردات الخاصة بها.

وحتى الآن، لم تلاقي القرية الروسية التطلعات التي تلت إنشاءها، ولم تنطلق الاستثمارات جراء التكييف الاقتصادي في منتصف 2013، وشجع تعزيز القيود التجارية التي تهدف إلى إنقاذ العملة عمليات التهريبَ بما أنّ الحكومة السورية ما عادت تسيطر على حدودها مع تركيا. ويمكن لمس هذه الصعوبات في تزايد ميزانية البلاد والعجز التجاري وارتفاع مستوى الدين العام53.

ما الذي يخبّئه المستقبل؟ 

بشكل عام، تجدر الإشارة إلى أنّ الربيع العربي فشل في تقديم نموذج اقتصادي جديد، وأفضل مثال على ذلك واقع أنّ كلًّا من مصر وتونس لجأ مؤخرًا إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وبذلك تبقى النيوليبرالية بالرغم من كافة الانتقادات الفلسفةَ الاقتصادية السائدة على الصعيدين الدولي والإقليمي.

أما في حال سوريا، فتجدر الإشارة إلى أنّه ما من جهة محلية سورية يهمها عكس مسار التحرير الاقتصادي. فإن أصبح النظام السوري نيوليبراليًّا بحكم الضرورة، فالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية نيوليبرالي باختياره54. ويُضاف أنّ حجم الدمار الذي عانى منه الاقتصاد السوري يجعل من إنشاء نظام رعاية مستدام أمرًا شبه مستحيل.

وتبقى التسوية السياسية في سوريا مسألة مبهمة نظرًا لتعقيد شروطها وتوقيتها وشموليتها. إلّا أنّه يجوز النظر إلى الحكومة الانتقالية في إطار هذه الدراسة كمتسلسلة نرى فيها من جهة رؤية النظام التي تطمح إلى حكومة وحدة وطنية موسعة من دون أي تغيير في بنيتها السياسية، ومن جهة أخرى بداية الحكومة الانتقالية بقيادة المعارضة مع عزل الأسد ومن ثمّ تفكيك دولة الأمن.

أمّا مكان الحكومة الانتقالية في هذه المتسلسلة فليس ثابتًا، إلّا أنّه يمكن ممارسة أنواع مختلفة من الضغوطات لإرغام النظام السوري على تقديم المزيد من التنازلات، ويمكن اعتبار السلطة الاقتصادية الغربية نوعًا من هذه الضغوطات، فكلما تنازل النظام السوري للمعارضة في إطار الحكومة الانتقالية، رُفعت عقوبات أكثر وقُدّمت تمويلات لإعادة بناء البلاد.

ويمكن للنظام السوري أن يحاول كإجراء وقائي أن يتجنب هذا النوع من الضغوطات عبر تصميم عملية إعادة البناء لتكون مفيدة تجاريًّا. ففي إحدى المقابلات مع بشار الأسد، صوّر الرئيس عملية إعادة البناء هذه على أنّها عملية مجزية لحلفائه السياسيين، خصوصًا روسيا والصين وإيران، متوقعًا أن تحثّ البلدان المعادية له أيضًا شركاتها على الانضمام إلى العملية.

[الصورة: خطة إعادة بناء منطقة بابا عمرو في حمص – 25-8-2015 (الموقع الرسمي لمحافظة حمص/صورة قابلة للاستخدام. كافة حقوق النشر محفوظة)].

وبناء على هذا المنطق، يمكن افتراض أنّه لا بد من أن يصير التحرير الاقتصادي واقعًا للتوصل إلى عملية بناء تدرّ ربحًا مثل هذه. ويتضح ذلك في القوانين التي سُنّت في هذا الصدد في خلال محادثات السلام في مؤتمر جنيف 3.

لكن بما أنّ حجم الدمار قد لا يمهّد لعملية إعادة بناء مربحة، قد يضطر الاقتصاد السوري إلى الاكتفاء بعملية إعادة بناء تدريجية وجزئية في حال كان يريد تجنب تقديم تنازلات سياسية.

كما وينطبق منطق مشابه على عملية رفع العقوبات الاقتصادية. ففيما ستستخدم القوى الغربية العقوبات كأداة لاستنباط التنازلات، قد تستجيب سوريا عبر إبعاد تجارتها عن الغرب أكثر فأكثر. ويمكن تقبّل هذا الخيار نظرًا لقاعدة البلاد التكنولوجية الضعيفة فضلًا عن ظهور قوى اقتصادية أخرى.

وختامًا، يبدو أنّ سياسة سوريا الاقتصادية مرتبطة بتحقيق الأهداف السياسية. وقد تُشكّل المحافظة على "النظام القديم" الهدف السياسي الأهم في خلال المرحلة الانتقالية، ما سيعني تشجيع الاستثمارات بدوافع تجارية والتجارة مع الحلفاء بهدف الحد من التمويل المشروط سياسيًّا لإعادة الإعمار.

[الصورة الرئيسية: نسخة قديمة من عملة 1000 ليرة سورية – 27-7-1998 (بلسون 303/CC BY.SA 4.0)].      

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد