رغم الحرب.. الصناعة في ريف إدلب مستمرة بين التجديد والحداثة


لأنّ الحاجة هي أم الاختراع، فإنّ السوريين لم يستكينوا لواقعهم المؤلم، قاوموا كلّ الظروف القاسية، وراحوا يبتكرون سبل مقاومة تساعدهم على العيش، من هذه السبل العمل على إحياء صناعات قديمة، فيما ظهرت أيضاً صناعات حديثة تميزت بها إدلب وريفها.

27 أيلول 2017

هدى يحيى

إعلامية وناشطة من ريف إدلب، حائزة على إجازة في التاريخ  

ساهمت الحرب السورية بدمار العديد من القطاعات ومنها القطاع الصناعي الذي كان له النصيب الأكبر من التراجع والانهيار نتيجة العديد من المعوقات، بدءاً من تدمير العديد من المنشآت الخاصة والعامة بفعل القصف، والتي بلغت أضرارها مليارات الليرات السورية وتسبّبت بنزوح العديد من الصناعيين والفنيين وذوي الكفاءات إلى خارج البلاد، مروراً بتراجع المنتجات الزراعية التي تشكل المواد الأولية للصناعات، كالقطن، القمح، الشوندر، الخضراوات والفواكه. تبعها توقف العديد من المنشآت الصغيرة والمتوسطة والحرفية، وصولاً لرفع تكاليف الإنتاج بسبب الحصار الاقتصادي الجائر ورفع أسعار المحروقات بكل أنواعها.

ولأنّ الحاجة هي أم الاختراع، فإنّ السوريين لم يستكينوا لواقعهم المؤلم، قاوموا كلّ الظروف القاسية، وراحوا يبتكرون سبل مقاومة تساعدهم على العيش، من هذه السبل العمل على إحياء صناعات قديمة، فيما ظهرت أيضاً صناعات حديثة تميزت بها إدلب وريفها.

تعتبر صناعة الفخار والخزف إحدى الصناعات التقليدية التي أعيد إحياؤها بعد أن ظهرت الحاجة إليها وازداد الإقبال عليها لحفظ المياه والأغذية وتبريدها في ظل انقطاع التيار الكهربائي عن المنطقة.

حرف أعيد أحياءها

مدينة أرمناز الواقعة في الشمال الغربي من محافظة إدلب تشتهر بهذه الصناعة منذ القدم وهي اليوم تعود لصناعة الفخار بزخم وسط زيادة الطلب عليه بحسب ما يؤكده محمد جمو (45 عاماً) أحد مالكي مصانع الفخار في البلدة، الذي يشرح آلية صنع الأواني والأدوات الفخارية لحكاية ما انحكت قائلاً: "نأتي بالتراب من أراضي أرمناز الزراعية وهو تراب ملاءم لصناعة الفخار، ثم نقوم بغربلته من الشوائب وعجنه ليوضع بعدها في أكياس لمدة 24 ساعة حتى يختمر، لتبدأ مرحلة صناعة الفخارة التي قد تكون على شكل خوابي كبيرة أو صغيرة ومزهريات، قدور، كؤوس وغيرها لتأتي المرحلة الأخيرة، وهنا تطلى الفخارة بالسيراميك وتوضع في الفرن بدرجة حرارة 1000 لتصبح جاهزة للبيع في الأسواق المحلية أو التصدير عن طريق بعض التجار".

سناء البرهوم (41 عاماً) من أهالي معرة النعمان وجدت في الأواني الفخارية ضالتها، فهي تعتمد عليها لحفظ الزيت والمياه وتتحدث عن فوائدها قائلة: "إنها تنقّي الأطعمة والأشربة من الشوائب ويظهر للمأكولات فيها طعم رائع، بوجود هذه الأواني لم أعد أعاني انقطاع التيار الكهربائي لتشغيل البراد".

(فخاريات في مدينة أرمناز. تصوير: هدى يحيى بتاريخ 25 آب/ أغسطس 2017/ خاص حكاية ما انحكت)

صناعة مكانس القش التي تعتبر إحدى صناعات الفولكلور التراثي هي الأخرى عادت إلى ريف إدلب بعد توقف المكانس الكهربائية عن العمل. تصنع مكانس القش في ورش صغيرة مؤلفة من رجال ونساء يصنعونها بمهارة ودقة كبيرة.

 أم محمد الخمسينية، إحدى أمهر النساء في مدينة كفرنبل بهذه الصناعة التي تمارسها في منزلها، تتحدث قائلة لحكاية ما انحكت: "المواد الأولية متوفرة بكثرة في مناطقنا، فهي تعتمد على نبات المكنس الذي يزرع كسياج للمزروعات الصيفية، ويتم قطافه في آخر الموسم ويأتون بها إليّ لأصنع منها المكانس باستخدام بعض الخيوط". هذه الصنعة تعتبر مصدر رزق لأم محمد وغيرها من الصناع ولا داعي لتصدير المنتج لأنه يباع في الأسواق المحلية بحسب أم محمد.

(مكانس قش في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى بتاريخ 13 تموز/ سبتمبر 2017/ خاص حكاية ما انحكت)

كذلك صناعة بوابير الكاز، وهي من أقدم الصناعات السورية، عادت إلى الواجهة وبرز الاهتمام باقتنائها بشكل ملحوظ في ريف إدلب نتيجة انقطاع أنبوبة الغاز في كثير من الأحيان أو غلائها إن وجدت. وحول هذه الصناعة يقول صانع البوابير في معرة النعمان، الحاج صبحي (55عاماً): "لدي ورشة صغيرة أصنع فيها البوابير وأقوم بصيانتها، بدأت العمل بهذا المجال منذ بداية الثورة. سيّما وأنني تعلمتها من والدي وأتقنها منذ الثمانينات". ويلفت لأن هذه الصناعة توقفت منذ أكثر من ثلاثين سنة غير أنها عادت زمن الحرب للاستعانة بها في الأعمال المنزلية والطهي لانخفاض أسعار الكاز نسبياً مقارنة بمواد المحروقات الأخرى المرتفعة بحسب تعبيره.

الحاج صبحي لا يحتاج لمواد تصنيع لأنه يقوم بتحويل القطع القديمة والمستعملة إلى بوابير كاز بمهارة عالية.

(بابور في أحد بيوت مدينة إدلب. تصوير: هدى يحيى بتاريخ 12 تموز/ سبتمبر 2017/ خاص حكاية ما انحكت)

وقد أوجد انقطاع التيار الكهربائي عن المنطقة لسنوات منذ بداية الثورة صناعة البطاريات التي ذاع استخدامها عند المدنيين في المناطق المحرّرة، سواء للإضاءة أو لتشغيل الأدوات الكهربائية. يقول صاحب إحدى مصانع البطاريات في مدينة سرمدا الواقعة في ريف إدلب الشمالي، عارف المحمود (43عاماً)، بأنّ مصنعه ينتج ما يقارب 12 بطارية في اليوم وجميعها يتميز بـ "الجودة العالية وضمان لمدة ستة أشهر، نحن نتكفل بصيانتها في حال وجود أي خلل فيها". ويوّضح المحمود بأنّ أسعار منتجاتهم منخفضة بنسبة تتراوح بين 40-50 بالمائة مقارنة بأسعار البطاريات المستوردة، فالبطارية ذات استطاعة 200 أمبير تباع بسعر 80 دولار أمريكي بينما يصل عمرها الافتراضي إلى أكثر من سنة. ويردف: "هذه البطاريات معدّة للاستخدام المنزلي والشحن المتكرّر، ومؤخراً ظهر استخدامها في تجهيز الطاقة الشمسية كعنصر أساسي في المجموعة، ويكاد لا يخلو منزل من وجودها". هذا ما يؤكده المهندس عمار الحلاق (33عاماً) الذي اقتنى في منزله بطاريات محلية الصنع، ووجد أنها ذات جودة عالية وعمرها أطول من المستوردة وثمنها أقل. يعبّر عن ذلك بالقول: "أشعر بالسعادة عندما أجد صناعات محلية في الأسواق، وهي صناعات أكثر من جيدة، هذا ما يخفف عنا أعباء الحرب والغلاء ويدفعنا للتفاؤل بغد أفضل".

صناعات حديثة برزت

صناعة تركيب السيارات إحدى الصناعات الحديثة المنتشرة في إدلب وريفها، حيث قام عدد من التجار باستجلاب قطع سيارات مستعملة في غالبيتها، مصدرها أوروبا والخليج وبلدان أخرى. هذه القطع تدخل عن طريق الأراضي التركية عبر معبر باب الهوا الحدودي، مروراً إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. هناك في ورش تضم العديد من الصناع والمعدات تبدأ صناعة تركيب هذه القطع لتظهر بهيئتها النهائية سيارات متعدّدة الأشكال والأحجام.

علي الشلح (35 عاماً) يمتلك معرضاً لبيع هذه السيارات بعد تجهيزها، يفيد بأنّ الطلب على هذه السيارات بات كبيراً، فهي ضرورية للعمل والتنقل قبل أي بعد ترفيهي آخر، وتتميز بجودتها ورخص ثمنها مقارنة مع سيارات النظام التي لم يكن يستطيع اقتناءها سوى الأغنياء والميسورين حسب وصفه.

ومن الصناعات المبتكرة في إدلب وريفها صناعة تكرير النفط عبر مصافي بدائية وبسيطة لسد النقص في المحروقات وغلاء أسعارها، الأمر الذي ساهم في تخفيف الكلفة المادية للحصول على المحروقات وتوفير المادة في الأسواق. المهندس خليل البيوش (27 عاماً) يتحدّث بإيجاز عن هذه الصناعة: "يتم استحضار المواد الخام من مناطق شرق سوريا بأسعار رخيصة، لتبدأ عملية تكريرها في ريف إدلب وتحولها لثلاث مواد وهي بنزين، مازوت، كاز، وتتألف هذه المصافي من خزان إحراق وجهاز تبريد وخزان وقود".

وإن كانت هذه الصناعة قد حلّت مشكلات كسر أسعار المحروقات وتوّفرها، فإنها من جهة أخرى تعتبر صناعة ضارة بصحة الأهالي لإحراقها الأوكسجين وإفرازه لغازات سامة، وخاصة وأنّها تتم وسط المدن وليس في مناطق بعيدة كما يبين البيوش.

صناعة المنظفات لم تكن بمنأى عن مناطق إدلب وريفها، وذلك ضمن معامل وورشات صغيرة، وقد ازداد الطلب على المنظفات المحلية بعد تمكن صناعها من إنتاج مواد ذات جودة وفاعلية جيدة تنافس الماركات السورية الشهيرة والباهظة قياساً بالمنظفات المحلية التي تتناسب مع واقع الأهالي المعيشي الصعب وموردهم المالي الضعيف.

غياث الحسين (28 عاماً) أحد العاملين في مجال صناعة المنظفات يعدّد لحكاية ما انحكت مكونات هذه الصناعة وهي التكسبون، الحمض، هيدوكسيد الصوديوم، الملح الصخري إضافة لصبغات ومعطرات. هذه المواد يتعامل معها الحسين بحذر ووفق مقادير معينة لتتحول بعدها لمواد تنظيف متنوعة.

وأيضاً، تعتبر صناعة تدوير النفايات من أبرز وأهم الصناعات التي أوجدتها الحرب في إدلب وريفها، حيث تمّ افتتاح العديد من المعامل بغية تكرير النفايات وتخليص البيئة منها من جهة، ولتأمين مواد أولية لمعامل الصناعات البلاستيكية والمعدنية كما توفر فرص عمل لعدد كبير من العمال من جهة أخرى.

عن آلية العمل في هذه الصناعة، يحاول برهوم حيدر (52 عاماً)، وهو أحد مالكي هذه المعامل، أن يشرح بإيجاز: "نشتري كميات كبيرة من النفايات من التجار الجوالين بين القرى والبلدات، وقد يصل وزن هذه النفايات إلى 200 طن شهرياً. وبعد تجميعها يقوم العمال بفرز المواد البلاستيكية عن المواد المعدنية وجرشها كل على حدّة لتتحول إلى قطع صغيرة تعبّأ بأكياس كبيرة ويتم بيعها للمعامل كمواد أولية جاهز".

هذا بالإضافة لصناعات عديدة شهدتها المنطقة كصناعة الألبسة وصناعة الفحم والفسيفساء والبلوك وغيرها من مختلف الصناعات.

أحمد طعمة (37 عاماً)، أحد أعضاء المجلس المحلي في مدينة معرة النعمان يفخر بإحياء القطاع الصناعي في إدلب رغم الحرب فيقول: "إن الشعب الذي اتخذ من الموت شعاراً أمام الذل والهوان سيبقى يبحث عن بدائل لاستمرار الحياة، فهو لا يعرف اليأس ولن تثنيه المآسي عن البحث دائماً عن مصادر رزق والعيش بكرامة".

رغم الحرب والتغيرات السياسية والعسكرية، رغم الغلاء وقلة الموارد، تستمر الصناعة في إدلب وريفها بسواعد صناعها ومواردها الطبيعية، فهي وإن لم تكن بتلك الدقة والتنظيم والضخامة إلا أنها تعد كافية لتغطي حاجة السوق المحلية دون الحاجة للاستيراد من مناطق النظام أو أي مناطق أخرى، الأمر الذي يمنح الأهالي في المناطق المحرّرة أملاً متجدّداً في الاستقرار والبقاء.

(الصورة الرئيسية: مكانس قش في كفر نبل. تصوير: هدى يحيى بتاريخ 13 تموز/ سبتمبر 2017/ خاص حكاية ما انحكت)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد