مصاعب الإيجار في دمشق... المدينة التي لفظتني (3)


اضطرت حياة أن تترك منزلها أكثر من مرة بفعل غلاء الأسعار، الأمر الذي اضطرها إلى ترك العاصمة والعودة إلى منزل أهلها في مدينة طرطوس. حكاية تسلط الضوء على متاعب السكن، عاكسة تحولات الحياة السورية ومصاعبها

17 تشرين الثاني 2017

أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

تبدأ حكاية ما انحكت نشر سلسلة شهادات وحكايات عن الحياة اليومية في دمشق، ضمن هذا الملف:

تصعد (حياة) إلى الباص المنطلق من دمشق إلى طرطوس، بعد أن وضعت آخر حقائبها في الباكاج.

  • كل هالشناتي؟ كتير كتار يا آنسة. بدك تضطري تدفعي زيادة.
  • مو مشكلة. هي آخر مرة. ما بقا تشوفو وشي.

تعيش حياة البالغة من العمر خمسة وثلاثين عاماً في دمشق منذ أكثر من أربعة عشر عاماً. بعد أن تخرجت من كلية الأدب الانكليزي في جامعة تشرين، انتقلت للعمل في العاصمة. في العقد الماضي وقبل اندلاع الأحداث في سوريا، كانت فرص العمل في المنظمات والهيئات التنموية والإنسانية تستقطب الشبان والشابات من كل المحافظات، أصبحت العاصمة دمشق كالمغناطيس، بسبب انتعاش القطاع الخاص، وظهور ما يسمّى بالأمانة السورية للتنمية، وافتتاح منظمات الأمم المتحدة وما يشبهها لعمليات الإغاثة الخاصة باللاجئين العراقيين، والتي خلقت كماً هائلاً من فرص العمل للشباب المهتمين منهم وغير المهتمين بالشأن العام. كانت العاصمة تزدهر، أو على الأقل ذلك ما كان يبدو على السطح، مع كل هذه الحركة في سوق العمل والمشاريع الاقتصادية والإنمائية.

بعد التخرج لم تبحث حياة كثيراً حتى وجدت فرصة عمل في إحدى المنظمات الإغاثية، وبراتب جيد، ساعدها على استئجار منزل مقبول، وادخار بعض المال، ومساعدة عائلتها المتواضعة في طرطوس، وتأمين معيشتها في العاصمة.

عند اندلاع الثورة كان راتب حياة يعادل ألف دولار أمريكي. ومع هبوط الليرة اتبعت المنظمات الدولية سياسة تثبيت قيمة الراتب بالعملة الصعبة، فلم تتأثر حياة بما كان يتأثر به أغلب السوريين من ضغوطات اقتصادية بسبب التفاوت الكبير بين ما يستطيعون جنيه من المال وما يترتب عليهم من أعباء معيشية بسبب غلاء الأسعار التدريجي.

كانت حياة تدخر مالاً لتشتري بيتاً في العاصمة. وكانت تستأجر شقة مفروشة في منطقة متوسطة وسط العاصمة بمبلغ عشرة آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل 200 دولاراً في ذلك الوقت. وعند اندلاع الأحداث ونزوح السوريين من ريف دمشق ومن محافظات أخرى مثل حمص ودرعا في عام 2011، برزت أزمة الشقق المأجورة في دمشق، وبرزت معها أزمة أخلاقية أكثر عمقاً. تضاعفت أسعار الإيجارات إلى أربعة أضعاف أو أكثر بعد شهور قليلة من امتلاء العاصمة بالسوريين الهاربين من أعمال العنف من محافظات أخرى والباحثين عن سكن مؤقت، تبين فيما بعد أنه ليس مؤقتاً.

كانت الشقة المفروشة المؤلفة من غرفتين تؤجر بأربعين ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 800 دولاراً في ذلك الوقت، عندما كان هبوط الليرة ما يزال طفيفاً. أما الغرفة في سكن مشترك فكانت تؤجر بـ 20 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 400 دولاراً. في الوقت الذي كان فيه الراتب الحكومي في أحسن أحواله لا يتعدى 30 ألف ليرة سورية. أي ما يعادل 600 دولاراً. طبعاً بقي الراتب شبه ثابت وتابعت الليرة هبوطها.

في ذلك الوقت، كانت حياة ما تزال تتقاضى قيمة راتبها بالدولار. ولم تنزعج عندما طالبتها صاحبة البيت بزيادة الأجرة إلى مبلغ 20 ألف ليرة سورية. لكن ما كان يزعج حياة في حقيقة الأمر هو الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يعاني منه الناس، الذين لم يكفهم أنهم فقدوا كل ممتلكاتهم تقريباً في مدنهم، بل أتوا إلى مدينة سورية أخرى لتمتص ما تبقى لهم من قوة مادية بجشع أصحاب الملك فيها.

انخرطت حياة في النشاط الإغاثي ضمن عملها في المنظمة الإنسانية، ولكنها عملت حسب قواعدها الخاصة وحاولت إيصال المساعدات إلى جميع السوريين حتى إلى المناطق التي كان النظام السوري يحاصرها ويمارس ضغوطاته السياسية والأمنية على المنظمات الدولية كي لا تصل إليها. وهذا ما جعلها تتعرض للمساءلة الأمنية والاعتقال، وعندما أطلق سراحها خيّرتها المنظمة بين ترك النشاط الإغاثي خارج سياسات المنظمة، أو ترك المنظمة. فاختارت حياة الخيار الثاني، لأنها كانت قد ضاقت ذرعاً بالعجز الطوعي للمنظمات عن المساعدة في مقابل أن تظل موجودة على الأراضي السورية لتعمل ويتقاضى موظفوها رواتبهم. لم تكن حياة تشعر بالعدالة الاجتماعية، وهي تتقاضى مبلغاً يعادل 400 ألف ليرة سورية في حين أن عائلات أخرى لا تستطيع تأمين عشرة بالمائة من هذا المبلغ.

بداية التحولات

لم تقلق حياة كثيراً، فيمكنها أن تجد عملاً آخر، ويمكنها أن تعمل في الترجمة وتدريس اللغة الإنجليزية، وحتى ذلك الحين تستطيع أن تعيش من مدخراتها. كان ذلك في عام 2013، وكانت الأحداث العسكرية وأزمة السكن في دمشق في أوجها في ذلك الوقت.

لكن الأمور لم تسر تماماً كما كانت حياة تأمل. فماضيها مع المنظمة والاعتقال جعل جميع المنظمات تتهرب من توظيفها. لم تجد حياة عملاً سوى في مكتب ترجمة براتب 70 ألف ليرة سورية شهرياً. لم يكن الراتب يكفيها طبعاً، لكنها كانت تعتمد على مدخراتها، واستمرت في مساعدة عائلتها وعائلات معدمة أخرى. "أكيد بلاقي شي فرصة بوقت قريب" فكرت حياة.

خلال عام 2014، اتصلت صاحبة المنزل بحياة: "بدي زيد الأجار لخمسين ألف".

  • "أوف! ليش؟ والله كتير!"
  • "إذا بتطلعي هلأ من البيت بقدر أجرو بـ 100 ألف وانتي بتعرفي. لا بدي ضرك ولا بدي تضريني". ردت صاحبة المنزل.

بحثت حياة عن منزل آخر بسعر أقل، لكن الأسعار كانت خيالية، تتجاوز المئة ألف. فوافقت على مضض، وبدأت تشعر أن الخطر يداهمها خاصة مع بدء مدخراتها بالنفاد، وهي المدخرات نفسها التي كانت توّفرها لشراء منزل. وبات عليها أن تجد حلاً في القريب العاجل.

في دمشق، ومع أنّ الباحثين عن منزل للإيجار يضطرون للقبول بأي منزل وبأي سعر بسبب الضغط الكبير الذي سببه أنّ الطلب أكبر من الأماكن المتاحة، تمتلئ العاصمة ببيوت مغلقة، أقفلها سكانها قبل سفرهم إلى الخارج. أصحاب البيوت بغالبيتهم لا ينوون العودة قريباً. ومع ذلك هم يفضلون بقاء البيوت مغلقة على تأجيرها، خوفاً على المنزل من أن يتم الاستيلاء عليه من قبل المستأجر. مع ذلك، تعرّض كثير من هذه المنازل للسلب والسرقة، وأحياناً لعمليات احتيال وبيع أكثر من مرة، بسبب غياب أهلها والاضطراب الأمني والقانوني في البلاد.

حاولت حياة أن تجد منزلاً من هذه المنازل، وتواصلت مع معارفها وأصدقائها، وقدم لها صديق مفتاح منزله الفارغ في العاصمة. فانتقلت إلى المنزل مقابل أجار بسيط شهرياً.

ظنّت حياة أن أزمة السكن في حياتها قد انتهت. لكنها وبعد شهور قليلة فوجئت بخبر بيع المنزل. وكان عليها أن تبحث من جديد عن مكان تنتقل إليه. لكنها لم تجد منزلاً للإيجار بسعر أقل من 70 ألف ليرة سورية. وهو مبلغ لم يكن بإمكانها تحمله خاصة ومع نفاذ مدخراتها بالكامل. فلجأت إلى غرف السكن المشترك في الأحياء القديمة.

دفعت حياة مبلغ 20 ألف ليرة سورية لقاء غرفة واحدة، كان عليها أن تستخدم الحمام والمطبخ بالاشتراك مع فتيات لا تعرفهن. وأصبحت تدرس اللغة الإنجليزية بشكل خاص كل يوم بعد دوامها في مكتب الترجمة. لكن ومع كل ذلك الجهد، كانت تؤمن مبلغ 150 ألف ليرة سورية شهرياً، أي ما يعادل 300 دولار. تابعت حياة إرسال بعض المساعدة إلى أهلها، لكنها لم تستطع ادخار أي مبلغ.

بسبب انعدام الخصوصية في منازل السكن المشترك، وعدم تنظيم استخدام المرافق المشتركة، والتقنين من قبل صاحب السكن في الخدمات الأولية كالماء الساخن والغسيل والكهرباء والتدفئة، "لا تشغلوا السخان، لا تغسلوا أكتر من مرة بالأسبوع، طفوا الضو، وفروا المي.." كثرت الإزعاجات اليومية التافهة التي استهلكت طاقة حياة وجعلتها تنفجر غاضبة أكثر من مرة حول تفاصيل صغيرة، ذكرتها بمشاكل السكن المشترك في المعتقل مع الفتيات، وإثارتهن للمشاكل حول احتياجات بسيطة كالسكر والماء والصابون والبطانية. بدأت حياة تشعر بأنّ حياتها الآن لا تختلف كثيراً عن وقتها الذي أمضته في الزنزانة، وبأنّ صاحب السكن لا يختلف كثيراً عن السجان. لكنها أمضت في ذلك السكن المشترك عامين، لأنّها لم تجد مكاناً أفضل، ولأن الموافقات الأمنية لم تكن تقل صعوبة عن إيجاد السكن نفسه. فبعض الأماكن في العاصمة لا يمكن إلا لسوريين من مدن محدّدة وطوائف محدّدة أن يحصلوا على موافقات أمنية لشرائها واستئجارها. في مناطق مثل الجسر الأبيض التابعة لفرع أمن الدولة، من الصعب جداً على سوري من إدلب أو حمص أو حماه أن يستأجر سكناً، حتى ولو كان في مقدوره أن يدفع ثمناً باهظاً في مناطق المدينة القديمة تنقسم الأحياء حسب طوائفها إلى حد كبير، علما الأحياء الشيعية هي أكثر الأماكن صعوبة في الحصول على موافقة أمنية فيها. في مناطق أخرى مثل مساكن برزة وركن الدين، التابعة للأمن السياسي، من السهل تحصيل الموافقات الأمنية، لذلك فالطلب هائل وأسعار الإيجارات أعلى من أيّ مكان آخر. بالتأكيد أصبح استئجار منزل عدا عن اقتنائه حلماً بعيد المنال بالنسبة لحياة، وبات السكن المشترك خيارها الوحيد ضمن إمكانياتها المادية.

وعندما طلب صاحب السكن المشترك زيادة الأجرة إلى مبلغ 35 ألف ليرة، وقع شجار كبير بينه وبين المستأجرين، ليس بسبب الإيجار، بل بسبب الخدمات السيئة وسوء المعاملة، وعقدت حياة العزم على البحث عن مكان آخر، وهي لا تصدّق بأنها وصلت إلى هذه الحال المتأزمة.

وجدت حياة غرفة في سكن مشترك آخر، كانت الأجرة خمسون ألف ليرة، لكنها وافقت لأنها لم تجد مكاناً أوفر ثمناً. كان المنزل مريحاً وأكثر تنظيماً. لكن صاحب المنزل بعد مرور ستة أشهر طالب المستأجرين بزيادة إلى 70 ألفاً، فوقع شجار جديد واضطرت حياة إلى البحث عن بيت آخر، ونقلت أغراضها مرة أخرى. في كل مرة كانت حياة تنتقل من منزل إلى آخر، كانت تفقد شيئاً من ذكرياتها، من هدايا أصدقائها، اضطرت في كثير من الأحيان إلى بيع وتوزيع بعض الأثاث والأدوات الكهربائية التي لم يكن لها مكان في السكن الجديد.

كان المنزل الجديد أشبه بكهف. وكانت الخدمات سيئة، لكنه كان بـ 50 ألف ليرة. نظفت حياة المنزل، ورتبت أغراضها المتبقية، التي نجت من "نقلة" إلى أخرى. وانتظرت الموافقة الأمنية، لكن الموافقة الأمنية جاءت بالرفض.

حاولت حياة طلب الموافقة مرة أخرى، لكنها أتت بالرفض من جديد. حاولت أن تبحث عن منزل آخر، لكنها لم تجد غرفاً مشتركة بأقل من 100 ألف ليرة سورية.

لم تنم حياة ليلتها، نظرت حولها إلى جدران الزنزانة التي تعيش فيها. حتى الزنزانة تلفظها. لم كل هذا العناء؟ تفاصيل الحياة اليومية باتت مرهقة بشكل لا يحتمل، باتت حياة تشعر بحقد لا يشبهها تجاه كل أصحاب البيوت المغلقة، أبغضت دمشق وأهلها، وهي المدينة التي كانت موطنها منذ أكثر من خمسة عشرة عاماً. مع كل هذه المشاعر والأفكار السوداء التي تثقل قلبها ورأسها. فكرت حياة، وهي تكاد لا تعرف نفسها، وأمسكت بهاتفها لتتصل بوالديها في طرطوس: هي المدينة ما عاد بدا ياني. ولا عاد بدي ياها. من زمان قلعتني وأنا مو مستوعبة، كنت متمسكة فيها وعم قول لحالي يمكن لساتها بتحب ناسها. بس أنا كتير غلطانة. جهزولي غرفتي وغراضي، راجعة لغرفة نومي اللي إلي سنين مو نايمة فيها.. راجعة لعندكم..

(الصورة الرئيسية: لوحة من تصميم  "كوميك لأجل سورية"، وهي رسمت خصيصا لهذه المادة، خاص حكاية ما انحكت)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد