أنا من السلَمية... لكني لست ممن في هذا المقال (4)


"عبادة الفرج" كتهمة تتخذ بعدين اثنين. فهي من جهة تنكر عليهم "عبادة الله" كمسلمين، وهي من جهة ثانية تحقّر المعتقد الإسماعيلي إلى مستوى "عبادة الفرج"، بحيث يكون الكفر أو الإلحاد أو الشرك بالله "تهمة" لطيفة جداً قياساً بالعبادة المذكورة .

18 حزيران 2018

(لوحة من تصميم كوميك لأجل سورية، رسمت خصيصا لهذه المادة، خاص حكاية ما انحكت)
عبدالله أمين الحلاق

كاتب وباحث سوري، ويكتب في عدد من الصحف منها: الحياة والنهار والمستقبل

(ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع نوى على أوبن ديموكراسي، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية) 

قادني حسن حظي أو سوؤه، لا أعرف بالضبط، لأن أولد في مدينة السلَمية، الواقعة وسط سورية بالقرب من مدينة حماة. أنا اسماعيلي بالولادة (الإسماعيلية هي طائفة دينية منشقة عن الشيعة) لأبوين اسماعيليين، وأنا لا ديني بالقناعة في تكتيكاتي اليومية و"استراتيجياتي" في هذه الحياة وهذا العالم. أحترم حق كل مؤمن وأي إنسان في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد بأيّ دين أو مذهب "رغم أنّ معظم هؤلاء المؤمنين لا يحترمون ولا يقرّون حق عدم الاعتقاد لأمثالنا"، طالما أنّه لا يرى أن طائفته أو دينه هي البداية والختام، وفقاً لمقولات قيامية وسحرية تضرب عميقاً في بيئات لا يزال السحر والخرافة مقيمَين فيها.

لم يكن تفضيل طائفة لذاتها على غيرها يظهر إلى العلن في سوريا، ربما من باب الدعاية لـ "الفسيفساء السورية" و"التعايش" اللذَين خبرناهما جيداً بعد الثورة. لكن، يمكن للمرء أن يرصد مقولات تزدهر في صفوف الفئات الأكثر جهلاً في هذه الطائفة أو تلك، تحمل تحقيراً للآخرين. وتحقير الآخرين تبعاً لدينهم أو طائفتهم أو عرقهم أو لونهم هو، في مكان ما منه، ادعاء تفوّق منسوباً بدوره إلى طائفة أو دين وغير ذلك.

لا داعي لكتابة سطور طويلة حول ما هو بديهي، أي ضرورة الابتعاد عن وسم جماعة ما بِسِمة ما، وعن محاذرة أن يُنسب إليها كــ "كل" ما يتناقله "البعض" فيها، لكنّ سرديات ومرويات شفهية "نادرة" بين بعض "ناشطي" الطوائف في سوريا موجودة وإن بشكل محدود، وهي تحديداً ما يستحق الوقوف عنده والكتابة عنه. إذاً، هنا "وردة". فلنرقص هنا.

السلَمية مدينة تشكل الأقلية الإسماعيلية (يشكل الأئمة حتى جعفر الصادق قاسماً مشتركاً بين الإسماعيليين والشيعة الإثني عشرية) أكثرية سكانية فيها. وفي بلد مثل سوريا البعثية والأسدية، يلتجئ أناس من الأكثرية والأقليات إلى رواية تاريخهم الشفهي تجاه الطوائف أو الجماعات الأخرى وتعزيزه بالخوارق غير المعقولة، في ظل غياب السياسة وحجبها ومعها أجواء التعبير السليم والصحي بين السوريين. وفي ظل عدم معرفة السوريين بعضهم البعض، ووجود جدران وسواتر أمنية بينهم كان سبباً أساسياً في امتناع المعرفة ذاك.

عيشة الحمرا".. وصف تحوّل لدى بعض مناهضي عائشة، المتخندقون اليوم في خندق علي بن أبي طالب، إلى وصف يطال كل امرأة يرونها "سفيهة"، تحت مسمّى "عيشة الحمرا".

لم تكن الطبقات المتعلمة والمثقفة، والتي احتكت مع أبناء المدن السورية الأخرى تكترث لــ "أحاديث الصِّبحيات" التي يتناقلها بعض "الكبار"، أولئك الذين انغلقوا أو أغلق عليهم داخل بوتقة الطائفة والمنطقة، لكننا كنا نسمع من بعض هؤلاء الكبار أحاديث عن السنّة والعلويين والدروز لا تشبه إلا ما يمكن أن يقرأه المرء في "ألف ليلة وليلة". وأتذكّر، من ضمن ما أتذكره، أن أول مثل شعبي "سلموني" كان يتم استحضاره في لحظات الظلم الكبير الذي قد يلحق بأحدهم هو: "مثل قتلة النصيري بالسوق".

والحال، أنني لا أعرف حتى الآن مصدر وحكاية هذا المثل، ولا موقع ذلك السوق الذي تعرض فيه "النصيري" آنف الذكر إلى تلك "العلقة" الساخنة. هل هو سوق السلَمية؟ سوق حماه؟ سوق الحميدية!! السوق متغير وحمّال أوجه هنا على كل حال، ويحتمل تأويلات مكانية متعددة، لكنّ الثابت أن شخصاً من العلويين قد تعرض لاعتداء جسدي فظيع، لدرجة أن هذا الاعتداء حوّله إلى مضرب مثل وإلى ما يشبه "التشفي" منه، رغم استحضار هذا المثل القديم للتخفيف عن شخص تعرّض للظلم حديثاً.

(رسم يعبّر عن نظرة الطوائف إلى بعضها البعض، وهو من تصميم كوميك لأجل سورية، خاص حكاية ما انحكت)

يكمل إسماعيليون وسنّة وغيرهم درب التندر والسخرية من العلويين، كأن تسمع مثلاً مقولة "سِلق بلبن"، وهي أكلة ريفية يتم طبخها حتى في الأرياف غير العلوية، لكنها لازمت العلويين عموماً لدى السخرية منهم ومن بيئتهم. هناك أيضا مقولة "شعيبية وكازوزة" كدلالة على علوي فقير ينزل من القرية إلى المدينة، وتكون الشعيبية والكازوزة "نموذجين للرفاهية" لديه. وهلمجرا من مهازل وعبارات وكلمات.

هذه النظرة لدى "اسماعيليين" و"سنّة" تجاه "العلويين"، تتزامن معها نظرة تجاه الاسماعيليين أنفسهم كــ "كل"، ضمن ما هو معروف عن تلك الرواية التي تقول بأن الإسماعيليين هم "طائفة تعبد الفرْج"، أي "فرج المرأة". وهي منتشرة في صفوف فئات ريفية مهمشة "سنّية" تعتمد على الأحاديث الأهلية المنقولة والمتواترة حول الآخر المختلف بالطائفة أو بالدين، وهو هنا: "الإسماعيليون".

"عبادة الفرج" كتهمة تتخذ بعدين اثنين. فهي من جهة تنكر عليهم "عبادة الله" كمسلمين، وهي من جهة ثانية تحقّر المعتقد الإسماعيلي إلى مستوى "عبادة الفرج"، بحيث يكون الكفر أو الإلحاد أو الشرك بالله "تهمة" لطيفة جداً قياساً بالعبادة المذكورة أعلاه. وليس أبلغ من الرد على هذا النوع من الاتهامات مما يتناقله بعض الناشطين والشباب من أبناء السلَمية، من سخرية للشاعر الراحل علي الجندي، عندما سُئل على هامش أحد الحوارات الصحفية معه ومن باب المزاح: هل صحيح أن الاسماعيليين يعبدون الفرْج؟ فكان جواب الجندي: "بصراحة لا أعرف إن كانت الطائفة الكريمة تعبده. لكنني شخصياً أعبده".

هناك مقولة "شعيبية وكازوزة" كدلالة على علوي فقير ينزل من القرية إلى المدينة، وتكون الشعيبية والكازوزة "نموذجين للرفاهية" لديه. وهلمجرا من مهازل وعبارات وكلمات.

واستطراداً، وفي "الحقل" الإسماعيلي، فإن ثمة تحقيراً آخر يسوقه علَويون تجاههم، وخصوصاً ممن بلغوا من الكبر عتياً، وهو مصطلح "كلب الفيّ". و"كلب الفيّ" هي تهمة تطال الإسماعيلي بناء على نظرة تقول بكسله وبلادته، فهو "بيقعد بالفيّ وبيرخي بيضاتو وبيتفرج ع الرايح والجاي، وإذا اشتغل ضربتين بيرتاح 3 ساعات، بينما ابن القرية نشيط وبيفيق بكّير ع الشغل". هذا مع العلم أن الكثير من الإسماعيليين هم من أبناء القرى والفلاحين أيضاً.

نفس الأسلوب يتم استعماله من قبل أبناء طوائف متعددة تجاه "المرشدية" مثلاً، وما حِيك حولهم من اجتماعهم في ليلة خاصة لممارسة الجنس بين رجالهم ونسائهم وبشكل بعيد عن أي فعل إنساني وهلمجرا. الجنس كان ولا يزال بوابة ومدخلاً لخلق الكثير من الخرافات في "حرب المرويات" الطائفية هذه.

السنّة في عرف الفئات الأكثر جهلاً وتخلفاً أيضاً من أبناء الطوائف الأخرى هم "بكريّون". والــ "بكريّة" هنا ليست دلالة على الانتساب إلى قبيلة بكر ولا إلى أي قبيلة عربية أخرى. هي بكل بساطة "تهمة" تساق ضد السنّة الذين يعتقدون بخلافة أبي بكر ضداً على خلافة علي، والتي يراها العلويون والإسماعيليون حقاً لهذا الأخير. وفي ذات الإطار وحول الموقف من رموز السنّة من قبل أنصار علي بن أبي طالب، لا بد من المرور بــ "عيشة الحمرا"، وهي استحضار لما يتم تداوله من أن النبي محمد قد وصف عائشة بنت أبي بكر بــ "الحميراء"، وتحول هذا الوصف لدى بعض مناهضي عائشة، المتخندقون اليوم في خندق علي بن أبي طالب، إلى وصف يطال كل امرأة يرونها "سفيهة"، تحت مسمّى "عيشة الحمرا".

(رسم يعبّر عن نظرة الطوائف إلى بعضها البعض، وهو من تصميم كوميك لأجل سورية، خاص حكاية ما انحكت)

يمكن الاستفاضة والبحث كثيراً في هذا الموضوع، ولا يتسع له مقال وعجالة كهذه. بقيت تلك الملاسنات محصورة في نطاق ضيق جداً، ولم تتمدد إلى نطاقات واسعة. إلا أنّها تحمل دلالة على ما يمكن أن يكون عليه الحال في بيئات مفقرة سياسياً، في مجتمعات تستدعي الموروث التاريخي لديها لتتحول إلى احتراب في لحظات تاريخية كلحظة الثورة السورية، وإن بلغة غير التي سبق ذكرها. لقد تحول الصراع السوري اليوم إلى حرب عسكرية واقتتال مذهبي أو قومي في جوانب كثيرة منه. وجرى استلهام موروث تاريخي، سني شيعي مع دخول إيران على خط الصراع لصالح النظام، وأسلمة الصراع في سوريا وتطييفه. وإذا كان الموروث التاريخي متحولاً وقابلاً للتجاوز بفعل سياسي تراكمي وفي ظل نظم حديثة وإصلاحية، أو قابلاً للتكريس بفعل أنظمة طائفية تمييزية، فإن نظاماً كالنظام السوري لن يفضي إلا إلى نتائج كالتي نعيش اليوم وجهها الأهلي والطائفي الأبشع. أليس "سوق السنّة" مثالاً على ذلك!

كنت أقول في البداية بانتمائي إلى أقلية لا دينية منبوذة من كل من يعرّف نفسه بالطائفة فقط، وما أكثر هؤلاء. لكن، وبعد قراءتي لما كتبت أعلاه، ولما كان من الممكن أن أكتبه وأسرده في هذا الملف، يبدو أنه بات لزاماً عليّ تغيير انتمائي ذاك في خاتمة هذا المقال. لا يزال الوقت مبكراً جداً على الحديث والسجال في مسألة "حرية الاعتقاد وحرية عدم الاعتقاد" ضمن الإطار الدستوري. إذاً، يكفيني القول: أنا أنحدر من عائلة فلاحية قروية. ربما لا أكون شخصاً جيداً. لكنني على الأقل لست "كلب الفيّ".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد