ماذا يريد السوريون من المحاكمات خارج سورية؟ (2 من 2)


بيروقراطية القتل المنظمة لنظام الأسد قيد التحقيق في عدة محاكم أوروبية اليوم. في القسم الأول، من لقائنا مع المحامي المتخصص بقضايا حقوق الإنسان والحاصل على عدة جوائز، الاستاذ أنور البني، تناول الأسس القانونية لهذه المحاكمات. ننظر هنا في الجزء الثاني بقرب أكثر الى أهم القضايا المرفوعة حاليا في إسبانيا وفرنسا وألمانيا. كما نتعرف أكثر على موقف الأستاذ البني من أهمية ومحدودية دور هذه الإجراءات في حماية العدالة والسلم في سوريا.

05 أيلول 2018

(المحامي والناشط الحقوقي أنور البني في برلين/ تصوير مايا أبيض/ خاص حكاية ما انحكت)
مايا أبيض

صحفية وسينمائية ومدربة سورية، مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإعلامية.

(برلين)، شهد تموز ٢٠١٨ إصداراً منظماً من قبل سلطات نظام الأسد لشهادات وفاة لآلاف المعتقلين المختفيين قسريا منذ سنين. ذكرت معظم الشهادات الصادرة أنَ سبب الوفاة هو "السكتة القلبية" أو حالات صحية أخرى. لم يتم تسليم أي رفات أو جثامين للعائلات المكلومة بعد سنين من البحث عن أبنائها.

بيروقراطية القتل المنظمة لنظام الأسد قيد التحقيق في عدة محاكم أوروبية اليوم. في قسمه الأول، من لقائنا مع المحامي المتخصص بقضايا حقوق الإنسان والحاصل على عدة جوائز، الاستاذ أنور البني، تناول الأسس القانونية لهذه المحاكمات.

ننظر هنا في القسم الثاني من هذا الحوار، بقرب أكثر الى أهم القضايا المرفوعة حاليا في إسبانيا وفرنسا وألمانيا. كما نتعرف أكثر على موقف الأستاذ البني من أهمية ومحدودية دور هذه الإجراءات في حماية العدالة والسلم في سوريا.

إسبانيا، قضية صلاحية محلية

بعد السبق القضائي الذي حققته إسبانيا في قضية الدكتاتور التشيلي السابق بينوشيه عام ١٩٩٨، رفعت عدّة دعاوى أخرى أمام القضاء الإسباني، بناء على الصلاحية الدولية الممنوحة له في القانون الإسباني. كان لبعضها تبعات سلبية، سياسيا واقتصاديا وديبلوماسيا، على الحكومة الاسبانية، مثل القضية التي رفعت ضد رئيس صيني سابق تتهمه بالمسؤولية عن المجازر التي ارتكبتها الصين في التيبت. كان لهذه القضية تداعيات سلبية على العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية مع مدريد. أدى ذلك لتعديل تشريعي على قانون الصلاحيات القضائية في إسبانيا عام ٢٠١٤، ما طبّق محدّدات جسيمة على الصلاحية الدولية للمحاكم الاسبانية.

إلا أن القضية "السورية" في إسبانيا رُفعت الدعوى فيها من قبل مواطنة إسبانية وفق الصلاحيات المحلية للقضاء. بدأت القضية عندما رأت السيدة ح، وهي مواطنة إسبانية ذات أصول سورية، صور شقيقها المغيّب قسرياً ضمن آلاف الصور المسرّبة من قبل المصوّر الجنائي المنشق عن النظام، المعروف باسم سيزر.

تضمن ملف سيزر صورا أخذت لآلاف الجثامين للضحايا الذين قتلوا في معتقلات النظام، تحت التعذيب أو نتيجة ظروف الاعتقال اللإنسانية في المعتقلات. نشرت الصور عام ٢٠١٥ لتكون المصدر الوحيد للمعلومات لأعداد هائلة من السوريين الذين فقدوا أثر أقربائهم ورفاقهم.

كان قد مرّ على اختفاء أخ السيدة ح عامان، دون ورود أي خبر عنه. بعد تحمّل فترة القلق وتبعات غيابه على أسرته، كان على العائلة بعد ذلك، مثل ملايين السوريين، أن تبحث في آلاف الصور المروعة لجثامين متضرّرة بعنف شديد، واحدة تلو الأخرى، بحثا عن شبه كاف بابنهم المغيّب.

تقدمت السيدة ح. بالدعوى ضد السلطات السورية عبر التمثيل القانوني من قبل منظمة غورنيكا ٣٧، عن الجريمة المرتكبة بحق أخيها والمعاناة الشديدة التي سببتها لها، بصفتها مواطنة إسبانية يحق لها الجوء للقضاء الإسباني.

في البداية "وافق القاضي فيلاسكو على القضية وفتح التحقيق". يقول السيد كادمان من منظمة غورنيكا ٣٧ لحكاية ما انحكت. "بعد ذلك قامت الدولة، بأمر من المدعي العام، برفع استئناف ضد القرار حول صلاحية المحكمة بالنظر في القضية".

من بين كل القضايا المرفوعة في أوروبا، كان قرار المدعي العام الألماني بإصدار مذكرة توقيف بحق جميل حسن هو الأول من نوعه ضد مسؤول سوري عالي الرتبة

كانت حجة المدّعي العام أنّ السيدة ح ليست الضحية المباشرة للجريمة، وإنّما المختفي هو فقط من يعتبر كذلك. وفي حين أنّ التساؤل حول الصلاحية المحلية للقضاء تجاه الضحايا غير المباشرين قد يكون قابلا للنقاش، إلا أنّ القضايا التي تطالب بالتعويض هي في طبيعتها قضايا ترفع من قبل أسر الضحية المباشرة، مما يجعل من حق الضحايا غير المباشرين الادعاء أمام القضاء  ضمن الصلاحية المحلية له. هذا الحق، وهو الحق في التقاضي، يضمنه الدستور الإسباني لكافة المواطنين.

"للأسف، نجح استئنافهم، لذلك قمنا برفع استئناف أخر للمحكمة العليا حول موضوع الصلاحية. ننتظر منذ خريف ٢٠١٧ قرارها. من الممكن أن تصل مدة الانتظار لدى المحكمة العليا أشهر عديدة حتى تتوصل لقرار، ومن الواضح أنّها قضية معقدة، لذلك فهي للأسف تستغرق وقتا طويلا". يقول السيد كادمان.

في فرنسا: صلاحية واضحة دون تقدم يلحظ

في عام ٢٠١٣، تم أخذ باتريك الدباغ، الفرنسي السوري البالغ من العمر ٢٠ سنة من منزل والديه في دمشق من قبل مجموعة من الرجال ادّعوا أنّهم من مخابرات فرع الأمن الجوي. لم يعط الرجال الخمسة (اثنان منهم بالزي العسكري) أي سبب للاعتقال، ولم يكن بحوزتهم أي مذكرة توقيف.

عادوا في اليوم التالي لأخذ والده مازن الدباغ، وهو أيضا مزدوج الجنسية، ومشرف في المدرسة الفرنسية بدمشق. السبب الذي ذكروه للاعتقال هو "كي يلقنوه درسا في كيفية تربية ابنه" لأنه قام بذلك بصورة سيئة حسب رأي مجموعة الجنود التي رافقت الرجال هذه المرة. لم يتمكن أحد من التواصل مع أي منهما منذ ذلك الحين.

في بدايات الشهر الماضي، أب ٢٠١٨، تلقت السيدة الدباغ تبليغا من قبل سلطات النظام بأن زوجها وابنها قد قضيا خلال اعتقالهما بسبب "أزمة قلبية"، الأب عام ٢٠١٧، والابن عام ٢٠١٤.

رفع عبيدة الدباغ، أخ مازن، قضية في فرنسا ضد المخابرات الجوية بتهمة الإخفاء القسري لمواطنين فرنسيين، وذلك بمساعدة الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان (FIDH ) وعصبة حقوق الانسان (LDH). رغم الصلاحية المحلية الواضحة التي تتمتع بها المحكمة في هذه القضية، إلا أنّ تطورا ملحوظا لم يطرأ على تداعيات التحقيق منذ عامين.

تم فتح تحقيق أوسع في فرنسا بعد تسريب ملفات قيصر عام ٢٠١٤، باعتبار صور قيصر دليلاً على انتهاك ممنهج وواسع النطاق لحقوق الإنسان، وقامت محكمة فرنسية متخصصة في قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بفتح تحقيق عام ٢٠١٥. هنا أيضاً، لم يتم التوصل لتطورات هامة لأسباب تتعلق بمحدودية الصلاحيات القضائية في فرنسا، والتي تتطلب أن يكون هناك متهم أو ضحية مقيم في فرنسا أو حاملا لجنسيتها.

من القضايا الهامة المرفوعة حاليا ضد النظام السوري في فرنسا قضية الاعتداء على المركز الإعلامي في بابا عمر بمدينة حمص، وهو الاعتداء الذي تمّ فيه استهداف وقتل المصور الصحفي الفرنسي ريمي أوشليك عام ٢٠١٢ خلال الهجوم الذي نفذته قوات النظام على المركز الإعلامي. قتل المصوّر مع الصحفية الأميركية ماري كولفن فور وقوع الهجوم، بينما أصيب ثلاثة صحفيين آخرين وهم وائل العمر (سوري)، إيديت بوفير (فرنسية) وبول كونروي (بريطاني). قامت المجموعة مع عائلاتهم برفع قضية ضد المسؤولين عن تخطيط وتنفيذ الهجوم من طرف النظام السوري.

القضية الوحيدة المتعلقة بسوريا التي أحرزت تقدما في القضاء الفرنسي ركزت على شركة عاملة في سوريا وليس على مجرمين سوريين، وذلك نتيجة ارتباط القضية بتنظيم داعش. في قضية لافارج اتهمت شركة الإسمنت العالمية بالتداول التجاري مع تنظيم الدولة الإسلامية في شمال شرقي سوريا وتعريض حياة موظفيها السوريين للخطر جراء ذلك.

القضية الوحيدة المتعلقة بسوريا التي أحرزت تقدما في القضاء الفرنسي ركزت على شركة عاملة في سوريا وليس على مجرمين سوريين، وذلك نتيجة ارتباط القضية بتنظيم داعش. في قضية لافارج اتهمت شركة الإسمنت العالمية بالتداول التجاري مع تنظيم الدولة الإسلامية في شمال شرقي سوريا وتعريض حياة موظفيها السوريين للخطر جراء ذلك

الشركة الفرنسية، عبر فرعها المحلي، قامت بإجلاء موظفيها الأجانب وأبقت موظفيها السوريين في العمل في مناطق واقعة تحت سيطرة تنظيم داعش. لم يعرّضهم ذلك لخطر الموت فحسب، بل تضمن أيضاً تعاوناً مادياً مع المجموعة الإرهابية لقاء الحفاظ على عمل الشركة جاريا.

بحلول نهاية عام ٢٠١٧، تمت إدانة ستة مدراء في مناصب الشركة العليا بتهم تمويل الإرهاب وتعريض حياة الناس للخطر. في حزيران ٢٠١٨، تمّ توجيه الاتهام للشركة بحد ذاتها بالاشتراك بجرائم ضد الإنسانية، تمويل الارهاب، وتعريض حياة موظفيها للخطر.

في ألمانيا: إصدار أول مذكرة توقيف

بينما يبدو أنّ معظم الدول الأخرى تتجه نحو الحد من تطبيق مبدأ الصلاحية الدولية في مقاضاة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في السنوات القليلة الماضية، توّفر القوانين الألمانية أحد أكثر التفسيرات مرونة للصلاحية الدولية. أتاح ذلك إمكانية إجراء فتح تحقيق ممنهج لجرائم التعذيب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من قبل مسؤولين في نظام الأسد. ليس فقط على صعيد حالات منفردة لضحية محددة ضمن حادثة بعينها، وإنما بصورة جمعية كأدلة على ممارسة جرائم ممنهجة.

رفعت مجموعة صغيرة ممن نجوا من التعذيب في معتقلات النظام قضية ضد "أفرع الموت" الأمنية الثلاثة، وذلك بمساعدة المركز السوري للبحوث والدراسات ( SCRS) والمركز السوري لحرية الإعلام والتعبير ( SCM) والمركز الأوروبي لحقوق الانسان والحقوق الدستورية (ECCHR). الناجون هم رجال ونساء سوريون تم احتجازهم بصورة غير قانونية في أقبية أمن النظام السوري بعد عام ٢٠١١، وتمكنوا بعد إطلاق سراحهم من الوصول إلى ألمانيا حيث يقيمون حاليا. بالإضافة إلى شهاداتهم كناجين وشهود عيان، اعتمدت القضية على أدلة فوتوغرافية من ملف سيزر لإثبات وتوضيح حجم آلة القتل لدى نظام الأسد.

بعد لقائنا مع الإستاذ أنور، أصدر المدعي العام الفيدرالي الأول بيتر فرانك مذكرة توقيف في حزيران الماضي ٢٠١٨ بحق جميل حسن، رئيس فرع المخابرات الجوية بتهمة ارتكابه جرائم ضد الإنسانية. حسن البالغ من العمر ٦٥ يشتهر بقمعه الوحشي للمعتقلين ودعمه لاستخدام المجازر كحل سياسي.

انتشر خبر مذكرة التوقيف بسرعة على نطاق واسع بين السوريين في كل مكان، باعتباره خطوة أولى في طريق طويل ومؤلم، رغم أنّ الرجل يخضع لعقوبات أميركية وأوروبية منذ سنين وقدرته على الحركة والسفر محدودتان جداً من قبل إصدار المذكرة.

حول هذه النقطة، علق السيد كادمان من منظمة غورنيكا٣٧ قائلا: "الرأي الذي يتخذه عديد القضاة الأوروبيين دوما، هو أنه من الصعوبة بمكان جلب أي من هؤلاء المتهمين للمثول أمام المحكمة. إلا أنّ ما نراه هو أن اثنين من المتهمين في القضية المرفوعة في إسبانيا، وعلى الأقل أحد المتهمين في القضية المرفوعة في بريطانيا، يقومون بالسفر فعلا في أوروبا الآن. رأينا علي مملوك في إيطاليا منذ فترة، وفي ألمانيا العام المنصرم لحضور اجتماعات…".

أحد الأمثلة على فرص الاعتقال لدى السفر هذه، هو نشاط تم العام الماضي في جامعة كايمبردج في بريطانيا، إذ دعي للتحدث فيه سفير لدى النظام السوري ووزير سابق: "بالطبع استنكرت الجالية السورية في بريطانيا السماح لهؤلاء بالسفر الى المملكة المتحدة والتحدث أمام حشد عام. بينما كان رأيي أنه من الأفضل لو تركوا ليأتوا. نحن نريدهم أن يأتوا كي نقوم بالقبض عليهم".

توجد أيضا قضايا معتمدة على الصلاحية الدولية قيد التحقيق أو مرفوعة لدى محاكم في السويد والنمسا وبريطانيا. من بين كل القضايا المرفوعة في أوروبا، كان قرار المدعي العام الألماني بإصدار مذكرة توقيف بحق جميل حسن هو الأول من نوعه ضد مسؤول سوري عالي الرتبة. الطبيعة المنهجية للدعوى تعني أنه قد يتبع بأسماء أخرى لرجالات النظام سيئي السيرة.

في حين أنّ الأستاذ البني يرى تقدماً في هذه القضايا، ويكرّس جهده للمساهمة في رفع قضايا وتمهيد الطريق لإصدار مذكرات توقيف دولية لتتم المحاكمات في أوروبا، إلا أنه يؤمن أنّ العدالة في سوريا من غير الممكن تحقيقها في الخارج.

الهدف، برأيه، هو أبعد من أيّة قضية قيد المحاكمة، لأن بناء السلم المستدام يحتاج أن يشعر السوريون بتمكنهم من أدوات تحقيق العدالة، ليعيدوا بنائها كمنظومة متكاملة تحمي عيشهم المشترك في سوريا.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد