رهاب الصباح


الطبيب الذي عانى ما عاناه في سورية، لا يزال غير قادر على التعامل مع الصباح بشكل طبيعي، رغم أنه أصبح في بلاد تبعد آلاف الأميال عن سجون بلاده، فما هو السبب؟

29 تشرين الثاني 2018

(لوحة رسمت خصيصا لهذه الحكاية/ خاص حكاية ما انحكت)
أليس الشامي

كاتبة سورية (الاسم مستعار)

استيقظ همام، الذي احتفل بعيد ميلاده التاسع والعشرين منذ عدة أيام، مذعوراً على صوت جرس الباب، وهو يرن في تمام الساعة السادسة صباحاً. نهض من السرير في أقل من ثانية وكأنّ عقرباً لسعه، نظر إلى الساعة، ركض حافياً إلى الباب كي لا يصدر خفه صوتاً، كاد قلبه ينفجر من سرعة نبضه، كانت ساقاه ترتجفان، ومعدته منقبضة، وأنفاسه متقطعة.

نظر من العين الساحرة، فرأى جاره الباكستاني بثياب النوم، استغرق الأمر ثوان قليلة حتى يستوعب الأمر، إنه في أميركا، في نيويورك تحديداً، ولم يعد في سوريا.

جرس الباب في ساعات الصباح الباكرة هنا، لا يعني أنّ هناك دورية أمن تريد إلقاء القبض عليه، إنه مجرّد جار منزعج من أمر ما، أو لديه استفسار عاجل. شعر همام بدوار خفيف، وقد بدأ مثبط الأدرينالين يعمل في دمه، وشعر برغبة شديدة في النوم. تمالك نفسه، وفتح الباب والعرق يخرج من كلّ مسامه. كان الجار الباكستاني يسأله بالإنكليزية المكسّرة فيما إذا كان يملك مفتاح عزقات لأن خاتم زوجته وقع وراء أحد الرفوف في المطبخ ولا تستطيع الوصول إليه. نظر همام إلى الجار السمج مترنحاً ثم توّجه إلى المطبخ وعاد وفي يده مفتاح انكليزي، أخذه الجار شاكراً وعاد إلى شقته.

انسحب همام إلى غرفة النوم، واستلقى إلى جانب زوجته هدى، حاول أن يعود إلى النوم لكنه لم يستطع. من بين كل الآثار اللعينة لاعتقال همام الذي دام خمسة أشهر عام 2012، كان رعبه من الزيارات الصباحية المفاجئة، هو أكثر تلك الآثار رسوخاً في نفسه. لقد شفي من الجَرب خلال شهرين، وشفي من جروح الكابل الرباعي وآثار حروق الكهرباء بشكل كامل تقريبا خلال ستة أشهر، ولم يبق منها سوى أثر بسيط في فخذه الأيسر. لا يزال كتفه يؤلمه أحياناً بعد أن أصيب بأذى دائم في أوتاره بسبب شبحه، أو تعليقه لساعات طويلة من معصميه وشدّه إلى الأعلى. كذلك استطاع أن يتجاوز إلى حد كبير المحنة النفسية التي مرّ بها أثناء وبعد اعتقاله، بسبب هول ما رآه في فرع المخابرات الجوية من تعذيب حتى الموت ومن هدر لقيمة الإنسان، ومن الشرّ الذي يمكن أن تفرزه النفس البشرية عندما تتعرّض إلى كل ذلك الكم من العنف والإذلال والوحشية.

كان همام طبيباً في إحدى المشافي العامة، وفي الوقت نفسه كان يعالج المصابين في المناطق الثائرة، من المدنيين والمسلحين. كان الشاب دائما عاطفياً ومندفعاً ومهتماً بالشأن العام ومتطوعاً في عدة جمعيات ومنظمات خيرية ومدنية، وفي بداية عام 2011 انخرط بقوة في الحراك الثوري، كمتظاهر وكطبيب. حاول المساعدة بالطرق التقليدية وعن طريق منظمات مرخصة. ولكن القيود التي كانت تفرض على عمل تلك المنظمات والتدخلات الأمنية لم ترض رغبته في أن يقدم مساعدة حقيقية للناس، فانخرط في تجمعات ثورية سرية تعمل في النشاط المدني والإغاثة والخدمات الطبية.

حين رافقته العناية "الإلهية"

وفي بداية عام 2012، وبسبب وشاية من أحد المخبرين في الغوطة الشرقية في سقبا، كان همام مستغرقاً في النوم بعد ليلة متعبة قضى معظمها وهو يعالج أحد المصابين بطلق ناري في أحد البيوت في برزة. كان متعباً لدرجة أنه لم ينظف علبة العدة الجراحية التي كان لا يزال دم المصاب عليها. عندما رن جرس الباب في الساعة السابعة إلا ربعاً. أفاق همام يومها دون خوف أو قلق، وفتح الباب وهو نصف مستيقظ، لينهال عليه خمسة من رجال الأمن بالضرب والركل والشتائم، ثم قلبوا كنزته التي كان يرتديها على رأسه كتقنية تطميش يتبعها الأمن عند عدم وجود كيس أسود أو طماشة عينين، سمعهم يقلبون البيت رأساً على عقب، وأدرك أنه في ورطة كبرى لأن علبة الجراحة لا تزال على الطاولة، وما عليهم إلا أن يفتحوها ليروا دماً ورصاصة مستأصلة. كان همام مسلماً ملتزماً ومؤمناً، فاستسلم لما كتبه الله، راجياً إياه ألا يتألم كثيراً قبل أن يموت، ومتمتماً بآيات قرآنية مثل (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فهم لا يبصرون) علّها تعمي بصيرة رجال الأمن، الذين ما إن انتهوا من التفتيش حتى اقتادوا همام إلى سيارة، وضعوه في المقعد الخلفي، وأمروه أن يضع رأسه بين ركبتيه. سمع همام صوت محرك السيارة يتوقف بعد وقت ما، كان بمثابة دهر بالنسبة له، مع أنه لم يتجاوز الدقائق. سحبه أحد العناصر من شعره الأملس الطويل وهو يشتم أمه وربه، ثم خضع لجلسة تحقيق أولية سريعة، تفحّص فيها الضابط المقتنيات التي أتى بها العناصر من المنزل، عرف همام بأنّ العلبة ليست من بينها. فانتابه شعور قوي بأنّ الله سيحميه ويخرجه من هذا المكان سالماً بطريقة أو بأخرى.

(لوحة تعبّر عن عذابات المعتقلين السوريين/ خاص حكاية ما انحكت)

بعدها اقتيد همام إلى غرفة بباب حديدي أسود. فتح الباب ودخل همام ليرى عشرات الشباب والرجال محشورين في غرفة لا تتجاوز ثمانية أمتار مربعة. كان بعضهم يقفون وآخرون مضجعون أو يجلسون القرفصاء. كان الجو خانقاً والرائحة لا تطاق، مع أنّ الطقس ربيعي في الخارج. تقدّم أحد الكهول، وقال لهمام: "هل تعرف أين أنت؟ أنت في فرع المخابرات الجوية، في المزة".

قرر همام أن يكون إيجابياً إلى أبعد حد. استسلم لضربات المحقّقين والجلادين، وتوّسل إليهم كي يتوقفوا لأنهم كانوا يحبون التوسّل والترّجي، وكانوا يبالغون في إيذاء الرجال الذين لا يصرخون ألماً. اعترف ببعض الأشياء التي استطاعوا إثباتها ضده، كرأيه وموقفه المعارض الذي كان واضحاً من حسابه الشخصي على فيس بوك، ولحسن حظه لم يكن لدى المخبر الذي وشى به معلومات وافية عن نوع نشاطه داخل المناطق الساخنة. كان يعلم فقط أنه طبيب، وأنه يتردّد على مناطق من الغوطة الشرقية. لذلك استطاع همام أن يناور التحقيق بشكل كبير، وكان ملتزماً بقصة أنه كان يشارك في المظاهرات فقط دون أي نشاط طبي أو إغاثي.

طوال شهرين كاملين، لم يكن التحقيق بالنسبة لهمام متعباً، ولا التعذيب والضرب الذي كان يتخلله، بقدر اللحظة التي كان يأتي فيها العنصر في الساعة السابعة صباحاً ليأخذه إلى فرع التحقيق، والذي كان في مكان ما في مطار المزة العسكري. بات همام يهلع من الصباح، ويكره ما يحمله كل يوم جديد من رعب وألم ومجهول. بات يخاف أن تسهو عينه في الليل حتى لا يستيقظ بنفس الطريقة كل صباح، وأصبح ينام بعد العودة من التحقيق، بعد مفاوضات مطوّلة مع منظمي دور النوم في المهجع لكي يبدل دوره.

فوق السجن عصة قبر

بعد أن بصم همام على بياض، انتظر شهراً كاملاً إضافياً قبل أن يتحول إلى القضاء العسكري. خلال هذا الشهر تفرّغ همام لمراقبة قسوة المعتقلين على بعضهم البعض، وشجارهم على الطعام والنوم واستعمال المرحاض، وشماتتهم به عندما قص السجان شعره، وكره بعضهم له لأنه شامي. كان شهراً قاسياً كاد يقفده ثقته بالله، وإيمانه بالثورة التي اعتقل بسبب نشاطه فيها وبالثوار الذين أسعفهم وعالجهم. وكان شهراً حاراً جداً، إلى درجة أنّ سماكة العرق على أرض المهجع بلغت عدة سنتيمترات، اضطر معها المعتقلون أن يكشطوا العرق إلى بالوعة المرحاض حتى يستطيعوا الجلوس والاستلقاء.

(لوحة تعرض جانبا من أحوال المعتقلات والسجون السورية/ خاص حكاية ما انحكت)

بعدها تحوّل همام إلى القضاء العسكري، في شهر حزيران من عام 2012، بعد أن أمضى تسعين يوماً في فرع المخابرات الجوية، ولحسن حظه لم تكن محكمة الإرهاب قد استحدثت بعد. لكنه حوّل إلى سجن عدرا المركزي، حيث أمضى شهرين، بعدها تمّ إخلاء سبيله تحت المحاكمة. عاد همام إلى البيت ليرى علبة الجراحة كما هي على الطاولة.

في كل تلك الأيام، كان همام واثقاً بأنّ الله يراقبه ويحميه مما كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير مما تعرّض إليه. وعندما استحدثت محكمة الإرهاب كان يفترض أنّ يتحول ملفه إليها، لكنه ضاع. هكذا وبكل بساطة، لم يتدخل أحد ليخفيه، لم يقم برشوة أحد ليضيعه. اختفى الملف تماما، وكأنه لم يكن.

أبواب الفرج إذ تفتح.. ولكن

لم يكن ذلك حظاً بنظر همام، بل رعاية إلهية، أرسلت له حرّاساً من الملائكة في كل لحظة من تلك التجربة القاسية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل تعرّف بعدها على شابة فأحبها وأحبته وتزوجا وعاشا لفترة من الزمن في دمشق، حصل همام خلالها على منحة للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، وتقدم بطلب تأشيرة السفر إلى السفارة الأميركية في بيروت بالتزامن مع تقلّد، دونالد ترامب، منصب الرئيس في بداية عام 2017، وإصداره قراراً برفض طلبات حاملي العديد من الجنسيات وأولها الجنسية السورية. وفي الوقت الذي رفضت فيه طلبات العديد من المتقدمين، حصل همام على التأشيرة من المقابلة الأولى مع زوجته. وسافر إلى الولايات المتحدة والتحق بالجامعة. كان كل شيء يسير على أفضل ما يمكن أن يشتهيه همام. لكن الشيء الوحيد الذي لم يتجاوزه، هو تلك الصباحات المرعبة، بدءاً من ذلك الصباح الذي أتت فيه دورية الأمن لاعتقاله، إلى الصباحات التي كانت تأتي فيها سيارة لتقله إلى جلسات التعذيب في فرع التحقيق في مطار المزة. لم ينم همام منذ ذلك الحين ليلة هانئة واحدة، لا في سجن عدرا ولا بعد أن أطلق سراحه ولا بعد أن أصبح في قارة أخرى. لم يفده في شيء أن يصلّي الفجر حاضراً ويظل مستيقظاً بعدها، ولم ينفعه أن يتناول الحبوب المنومة، أو يذهب إلى معالج نفسي. ولم يبعث على الاطمئنان في قلبه أنّ الملائكة قامت بحمايته، بل أصيب بمزيج من عقدة ذنب الناجي والخوف من أنه استهلك كل حظّه، وتحول الخوف إلى كآبة واغتراب شديدين، لم تهزمهما الصلاة ولا الدعاء، ولا جلسات العلاج الجماعية الخاصة بالرهاب التي حاول الالتزام بحضورها.

الشيء الوحيد الذي يمكن أن يزيل الرهاب والكآبة بالنسبة لهمام، هو أن يختفي فرع التحقيق، والمخابرات الجوية والعسكرية، والمخبرين، وكل رجال الأمن وكابلاتهم، والسجانين وعصيّهم، من الوجود، وكأنه كابوس تستفيق منه صباحا فينتهي. عندها فقط يعود الصباح محتملاً، حتى ولو تخلله جرس باكر بسبب جار مزعج.

 

مقالات متعلقة

الفستان

14 تشرين الثاني 2018
نظرت الخياطة وداد برضا إلى المرآة وهي ترتدي الفستان الذي ستسلمه إلى صاحبته بعد ساعات، قبل أن تخلعه وتكويه مجدداً. بين لحظة لبس الفستان وخلعه، تمر حياة وداد وماضيها على...
لم يصعد "علي" إلى الحافلة الأخيرة

09 تشرين الأول 2018
هل كان "عليّ" ضحية القدر أم ضحية أفعاله في جيش النظام السوري أم ضحية الاستبداد أم مجرد ضحية من ضحايا الحرب اللعينة التي طالت السوريين دون تمييز؟ لا يهتم أبا...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد