اعتقل بسبب تسريحة شعره الحديثة!


ثار السوريون ضد نظام الاستبداد لأنه يعتقلهم ويذلهم ويصادر حريتهم، ولكن هم اليوم يعتقلون على يد جبهة النصرة وفصائل أخرى أيضا، الأمر الذي يفتح الجرح السوري على تراجيديا لا معقولة. هنا شهادة شخصية عمّا يجري في معتقلات جبهة النصرة

11 كانون الأول 2018

(رسم تعبيري عما يعانيه المعتقلون السوريون في كافة السجون، سواء كانت معتقلات النظام أو معتقلات الفصائل الجهادية الأخرى/ خاص حكاية ما انحكت)

(ننشر هذا النص مغفلا من الاسم حماية لصاحبه الذي لا زال يعيش في مناطق سيطرة جبهة النصرة)

(إدلب) كسر قفل الباب وفتح بقوة، كنت أسمع أصوات أقدامهم وهي تصعد الدرج لتصل غرفتي. كنت أخاله حلما لكنني أيقنت بأنه حقيقة حين راح أحدهم ينكزني بمقدمة رشاشه قائلا لي: "قوم ولاه".

فتحت عيني وإذا بأكثر من عشرة مسلحين وملثمين يحيطون بي ويأمرونني بالذهاب معهم، حاول أبي وأمي معرفة السبب، كان الخوف ينتابهم من هؤلاء بشكل كبير، فقد أساؤوا معاملة جميع أفراد أسرتي بين ضرب وصراخ وألفاظ بذيئة، وتكسير للأثاث.

لازلت أذكر نعتهم لي ولعائلتي بالكفر والضلالة، حينها فقط علمت بأنهم يتبعون لتنظيم جبهة النصرة. آثرت الإسراع والذهاب معهم قبل أن يتمادوا أكثر على أبي وأمي وإخوتي، وقبل أن يبدؤوا تفتيش منزلي والإطلاع على تلفوني واللابتوب حيث أخزّن الكثير من المقالات والتحقيقات الصحفية ضدهم.

مضيت معهم، وضعوني بسيارتهم معصوب العينين، وتم إقتيادي لسجن العقاب، أحد أبشع سجونهم في المنطقة، وكان ذلك بتاريخ 27 آب 2018 في تمام الساعة الثانية ليلا.

هناك في السكون المريب والظلام الحالك والمكان الضيق والرائحة النتنة راحت الأفكار تدور في رأسي، مخاوف عديدة  وأسئلة كثيرة راودتني: ترى ما هي تهمتي؟ ما الذي فعلته؟ وما الذي سيفعلونه بي؟ ماذا سيكون مصيري على يد أولئك الذين لا يؤمن جانبهم؟

راعني كم نحن طاعنون في البؤس، كم كانوا يستهينون بنا ويتحكمون بتصرفاتنا، أي حرية وصلنا إليها بعد أن بتنا ألعوبة بيد هؤلاء الحمقى؟

لم أستطع التمييز إن كان ضوء النهار قد ظهر أم لا، لم أستطع معرفة أين أنا، فقد تم وصولي إلى هذا المكان بعد مضي حوالي  نصف ساعة وأنا في السيارة، ولأنني كنت معصوب العينين ما كنت لأعرف أين أنا. امتدت الساعات وأنا على تلك الصورة، بدأت أشعر بالضيق والجوع والعطش، رحت أطرق على باب الزنزانة المنفردة، مستدعيا أحدهم ليساعدني ويفتح الباب فأقضي حاجتي على الأقل، لكنني لم أجد مجيبا، لحظات لا يمكن وصفها، وكأنني فيما يشبه القبر، وقد دفنت فيه حيا، مرّت علي الساعات وكأنها سنوات، وأصبح كل ما آمله هناك هو مجرد أن يسمح لي بقضاء حاجتي قبل أن أضطر للتبول بذات المكان الضيق الذي أحتجز فيه.

بعد مضي ما يقارب اليوم الكامل، جاء أحدهم ليرمي لي كسرة خبز من فتحة الباب الصغيرة، رجوته أن يفتح لي الباب لبرهة حتى أتمكن من الذهاب إلى الحمام فقد كنت أشعر بأن مثانتي سوف تنفجر من كثرة الضغط عليها واحتباس البول.

لم يجبني إلا بكلمة "اخرس". قلت له أريد أن أتوضأ وأصلي على الأقل، وعندها سمح لي بالخروج لبعض الوقت، وقال لي: "معك دقيقتين فقط أنا أنتظرك على باب الحمام".

(رسم للفنان فارس خاشوق، وهو ينشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للفنان)

وفعلا فتح لي الباب لأمضي وسط ممر ضيق ومظلم، في نهايته نهرني قائلا: "هيا بسرعة". كان ملثما وضخما ويرتدي ملابس عسكرية بالكاد كنت أراه وسط الظلام .

حاولت الإسراع وتوضأت من أجل الصلاة، فأعادني إلى مكاني قائلا لي: "إياك أن تصدر ضجيجا مرة أخرى، وإلا سيكون لنا معك كلام آخر". قلت له: "لما أنا هنا؟ وماذا تريدون مني؟ فأنا لم أفعل شيء!". أجابني: "لا تقلق ستعلم لاحقا بكل شيء".

مضى يوم آخر على تلك الحالة، لم أكن لأعلم هل أنا في الليل أم النهار، وكأنني في قبر حقيقي، شعرت بأنّ الأكسجين سوف ينفذ من ذلك المكان الضيق ليتم أخيرا استدعائي ومثولي أمام ما يسمونه المحقّق.

كان يجلس أمام المكتب، لحيته طويلة وشعره أشعث ومنظره يوحي بالبساطة، طلب مني الجلوس فجلست، قال لي:

- ما هذا الذي فعلته؟

- لم أفعل شيء

قاطعني وهو يصرخ: تخرج متظاهرا ومطالبا بمعتقلي السويداء أولئك الدروز الكفرة وتقول بأنك لم تفعل شيء. يكفي أننا نتغاضى عن عملك الإعلامي مع قنوات ومجلات الكفر، لتقوم مؤخرا بالتمادي والتظاهر مطالبا بمختطفي السويداء.

قلت له: أنني لا أنظر إلى دينهم بل أنظر لكونهم مدنيين سوريين أبرياء.

أعلم بأن حكمهم واستبدادهم سيزول ذات يوم، كما زال حكم الكثير من المتسلطين من قبلهم، نحن شعب عانى ولا يزال يعاني في طلب حريته، فاللحرية ثمن غالٍ

وعندها أشار للمسلح الذي يقف بقربي، ففاجئني بلكمة على وجهي. كم آلمتني من الداخل لأنها مست كبريائي في الصميم، ساد الصمت ليقطعه المحقق: "تبا لك ولأفكارك التافهة خذوه ".

هذه المرة لم يعيدوني إلى نفس الزنزانة الفردية، وإنما اقتادوني إلى إحدى الغرف، حيث كان يتعرض المعتقلون للتعذيب، للشبح وللجلد، وهناك نلت ما نلته من الإهانة والضرب. كانوا ينعتون المعتقلين بالكفرة وأصحاب الضلالة، وأهون وسائلهم في التعذيب كان الجلد، ربما هذا ما أعتقده كوني أجد الشبح معلّقا لساعات وسط الغرفة هو أمر بالغ الصعوبة، ولا يمكن وصفه، إذ سيغدو الشخص يشعر بالألم، وكأنما يديه قد بترت  وجسده قد تكسر. ربما هذا ما أحسست به أنا على الأقل بعد مدة شبح تجاوزت الثلاثة ساعات، ومن وسائل التعذيب هناك كانت الصعق بالكهرباء والخنق بالماء، وأحمد الله أنني نجوت منها.

نقلوني بعد أكثر من ثلاث ساعات إلى زنزانة أخرى، أيضا هي الأخرى مظلمة وضيقة ونتنة. كنت أشعر بوجود أحدهم على مقربة مني، وبعد مغادرة السجان رحت أنادي: "هل من أحد هنا"؟

وفعلا أجابني أحدهم بأن هنالك الكثيرون ممن هم محتجزون في زنازين صغيرة، كنا لا نستطيع أن نرى بعضنا بسبب العتمة الشديدة غير أنّ حديثنا مع بعضنا كان يؤنسنا بعض الشيء، وإن بدا اليأس طاغيا على حديثنا ونقاشاتنا.

(رسم يعبر عن وقوع السوريين بين فخي الاستبداد والتطرف / خاص حكاية ما انحكت)

فوجئت بعدد من أصدقائي ممن خرجوا بذات المظاهرة  هناك في السجن، وبدا لي أن كل من نسّق للمظاهرة تم اعتقاله.

سألت المسجونين هناك: كم لكم من الوقت على هذه الحال؟ أجابني أحدهم شهر والآخر ١٥ يوم، وآخر لأكثر من ثلاثة أشهر، قلت لنفسي: "يا إلهي أنا لا أحتمل هذا المكان ليوم واحد فكيف سوف أحتمل لثلاثة أشهر، ولربما أكثر!". هذا السؤال راح يطرق فكري كل دقيقة.

سألتهم عن التهم فكانت الأجوبة مختلفة، بعضهم لأنه تفوّه بضعة كلمات ضدهم، والآخر قصدهم بإحدى منشوراته الساخرة، والبعض امتنعوا عن الذهاب إلى الجامع وإغلاق محالهم التجارية في أوقات الصلاة، وآخرون بسبب امتناعهم عن دفع الأتاوات والضرائب لهم. أما أكثر ما كان يدعو للضحك في تلك الأوقات المؤلمة هو سجن أحدهم بسبب تسريحة شعره الحديثة! بالفعل جل البلية ما يضحك، راعني كم نحن طاعنون في البؤس، كم كانوا يستهينون بنا ويتحكمون بتصرفاتنا، أي حرية وصلنا إليها بعد أن بتنا ألعوبة بيد هؤلاء الحمقى؟

كنت أعلم بأن حكمهم واستبدادهم سيزول ذات يوم، كما زال حكم الكثير من المتسلطين من قبلهم، نحن شعب عانى ولا يزال يعاني في طلب حريته، فاللحرية ثمن غالٍ .

تهديد المحقق لي جعلني أكف عن ممارسة عملي الإعلامي بشكل علني، ولذا رحت أتابعه سرا وبمنتهى الحيطة والحذر ضمن منطقتي التي خلت يوما ما أنها محرّرة، لأكتشف لاحقا حقيقة أخرى مغايرة تماما

في أوقات السجن رحت أضع اللوم على كل فصيل، منظمات، أحزاب تتعامل مع هؤلاء، ما يسمح لهم في التمادي أكثر في ظلمنا وألمنا، وكأن حكم الأسد وحلفائه وحممه فوق رؤوسنا الذي لم نسلم منه إلا مؤخرا، لم يعد يكفينا حتى يأتي هؤلاء ويفعلوا ما عجز عنه الأسد في مناطقنا من ظلم واستبداد وإرهاب واعتقالات عشوائية.

أكثر من شهر قضيته في تلك الزنزانة الحقيرة، صحيح بأنني لم أتعرّض للتعذيب بشكل مستمر في تلك المدة، ولكن مجرّد بقائي في تلك الزنزانة كان كفيلا بتلقي أقسّى أنواع العذاب الجسدي والنفسي.

قبل أن يسمحوا لي بالمغادرة أمرني المحقق بأن أكف عن عملي الصحفي، وكل نشاط يتعلق بالصحافة والإعلام، هدّدني بأنني إن لم أنصاع لأوامره فسوف أواجه عقابا من نوع مختلف هذه المرة، حيث قال: "نحن لم نتعرض لك بعد، فبقاءك لدينا هذه المدة هو رسالة أرجو أن تكون قد فهمتها قبل أن تضطرنا لنستعمل معك نوعا مختلفا تماما، نوعا لا أعتقد أنك تستطيع تحمله هذا إن بقيت على قيد الحياة".

تهديد المحقق لي جعلني أكف عن ممارسة عملي الإعلامي بشكل علني، ولذا رحت أتابعه سرا وبمنتهى الحيطة والحذر ضمن منطقتي التي خلت يوما ما أنها محرّرة، لأكتشف لاحقا حقيقة أخرى مغايرة تماما. ولا يسعني في هذا الموقف إلا أن أستشهد بالمثل الشعبي القائل: "من تحت الدلف لتحت المزراب ".

 

مقالات متعلقة

قضية في محكمة إسبانية: اختبار التحديات التي تواجه نطاق الاختصاص الدولي في سوريا

15 تشرين الثاني 2017
ما مصير المحاكم الدولية التي يرفعها نشطاء حقوقيون سوريون ومحامون دوليون ضد مجرمي الحرب السورية؟ وما إمكانية تحقيق العدالة؟ تسلط حكاية ما انحكت الضوء في هذا التحقيق على إحدى القضايا...
ناجية من الاعتقال.. لم تنجو من المجتمع

29 أيلول 2018
إنّ استغلال أجهزة المخابرات السورية لمفهوم الشرف في قضية اعتقال النساء، بشكل واعي ومقصود، دفع نسبة كبيرة من الأهالي، بشكل غير واعي وغير مقصود، للتعامل مع بناتهم ونسائهم على أساس...
بين الاعتقال وحكم المجتمع... خسرت حلمها

03 كانون الثاني 2017
"نعم إنها نظرة المجتمع المحافظ للفتاة المعتقلة، سوف ينسجون عنها القصص والأقاويل التي ستؤلم أهلها أكثر من ألمهم باعتقالها" هذه الأفكار التي تجول في مخيلة هناء (كما قالت لنا) يقاطعها...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد