لكل شيء في كفر نبل حكاية: اللافتة لها حكاية، وفرسان الخيمة لهم حكاية، وأول مظاهرة لها حكاية، والأمل له حكاية، شهرة القرية الوديعة التي باتت لافتاتها عنوانا للثورة ومدنيتها لها حكاية، ومحاولة جبهة النصرة مؤخرا الدخول على خط الثورة الأهم لتخريبها لها حكاية حلم يأمل جميع السورييين أن لا ينطفأ..
وأمام كثرة الحكايات القادمة من هذه القرية التي خرجت للتو من صقيع القرون القديمة التي حاول الاستبداد دفنها فيها ( كحال سوريا كلها) إلى أضواء العالم المعاصر، وهي لا تمتلك إلا قوة الحق في عالم لا يعترف إلا بالمصالح، يحتار المرء من أين يبدأ حكايته معها، وإن بدأ كيف سينهيها؟ وهي التي تتناسل حكاياتها واحدة تلو الأخرى كما لو كنت في أجواء ألف ليلة وليلة، حيث شهرذاد تروي حكاية شعب خلّد حكايته رغما عن أنف الاستبداد الذي ما استطاع لطمس الحكاية سبيلا:
لم يعد ممكنا الحديث عن الانتفاضة السورية دون التعريج على اسم "كفرنبل" او كفرمبل" كما يلفظ سكانها الاسم، إذ أضحت هذه البلدة الصغيرة عنوانا رئيسيا من عناوين الانتفاضة التي أخرجتها من حيز النسيان والموت إلى حياة أخرى أو مواجهة حاسمة وغير متكافئة مع الموت الذي توجهه قوات النظام ضدها. أوصاف كثيرة أطلقت على القرية، بدءا من "ضمير الثورة" و ليس انتهاءا بـ"عود الثورة الرنان"، دون أن تتمكن تلك الصفات من أن تحل مكان الاسم الذي بقي يحمل عذوبة ووقع خاصين به، إذ تغيرت ملحقاته ( الاسم) حسب تاريخ هذه البلدة مع النظام المستبد منذ بدأت الانتفاضة: كفر نبل الثورة، كفر نبل المحتلة، كفر نبل التحرير، دون أن تتمكن أي صفة من أن تلغي الموصوف (كفر نبل) كما يحدث في الكثير من الأحيان.
نيسان عام 2011 كان نقطة فصل في تاريخ هذه البلدة، حيث خرجت أول تظاهرة في البلدة لتبدأ بعدها الانخراط اليومي الذي لم يتوقف منذ تلك التظاهرة، ولتصبح القرية الصغيرة الوادعة والمحاطة بآثار رومانية تتقدم المشهد السوري من خلال لافتاتها التي كانت علامة تميزها، وطريقا لها نحو قلوب الثائرين السوريين، ونحو العالم لتكون المعبر الحقيقي عن ضمير الثورة السورية، وشاهدا يوميا بوجه النظام الذي أراد أن يوسم هذه الانتفاضة بالسلفية، فكان أن رد عليه ناشطو المدينة وفنانيها بلافتة تقول: "فتّحْ عينك/ ما في نقطة: سلمية، سلمية".
في الوقت الذي كان النظام وأطراف خارجية كثيرة يعملون على دفع الانتفاضة السورية نحو التسلح والحرب الأهلية، اختار أبناء القرية مواجهة ذلك بأدوات بسيطة تمثلت بقلم وكاريكاتير ورسوم تظهر على لافتات لتعبر عن رأيهم فيما يحصل، ولتكشف عن وعي مدني متقدم ساهم في لفت الانتباه إليها وإلى ما تنتجه تلك البلدة الوادعة بحق، من لافتات فرضت نفسها على العالم كله، بدءا من الشارع المحلي في سوريا، وليس انتهاءا بمحطات الإعلام التي باتت تتهافت لنقل أخبار المدينة وكتابة تقارير عنها والتعريف بها.
أكثر ما يلفت الانتباه في مدينة كفر نبل هو مستوى التعليم الموجود بها، حيث أن 65 بالمئة من الشباب بعمر الدراسة هم من حملة الشهادات الجامعية، و15 بالمئة منهم من خريجي الدراسات العليا، وهذا ما يجعلنا نفهم سر هذه اللافتات التي تمكنت من التجول في العالم كله، وتمكنت من حصد شعبيه هائلة للانتفاضة السورية.
عن تاريخ القرية كتب الكاتب والناقد السوري المعارض صبحي حديدي في مقال له : "نسب البلدة يعود إلى نابيلو بن ياكين بن منسا بن ميران بن سام بن نوح، وبالتالي فإنّ تاريخ نشوئها غير بعيد عن تواريخ الحواضر السامية العتيقة التي قامت على سفوح ووديان وهضاب جبل الزاو، أو جبل الزاوية الحالي. كذلك يتحدّث أهلها، ليس أقلّ تفاخراً أيضاً، عن الهجرات التي خرجت من كفرنبل بعد وصول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة، فبلغت جبلة على الساحل السوري، وتل كلخ في جبال حمص، والكرد في شمال شرق سورية، والبدو في سهول حماة، وتدمر في بادية الشام؛ إلى جانب تركيا في آسيا الصغرى، وقرطاجة في تونس!".
تظاهر لم يتوقف
منذ خرجت أول تظاهرة في نيسان عام 2011 وكفر نبل لم تتخلف عن نداء الانتفاضة إذ كانت تحول كل يوم جمعة إلى عرس وطني حقيقي ينتظره أهالي البلدة وينتظره أيضا متابعو الانتفاضة ومؤيديها ليرون ما ستقدم لهم كفر نبل ولافتاتها التي تميزت بروح دعابة وتحدي قل نظيرهما، عدا عن قدرتها على إضفاء نكهة خاصة للحدث.
لافتات كفر نبل: محطة عبور من المحلية نحو العالمية
كانت اللافتة الخارجة من كفر نبل والموزعة على صفحات التواصل الاجتماعي هي أول من لفت الانتباه وشد الأنظار لتلك القرية المنسية، حيث بدأت وسائل الإعلام تتهافت فيما بعد لنقل لافتاتها وبدأ الناشطون يتناقلون لافتاتها ويضعونها مكان بروفايلاتهم على الفيسبوك، فما سر هذه الحكاية؟
يقول رسّام كفرنبل أحمد جلل: "عندما خرجنا في التظاهرة الأولى، قالــت قـــناة الدنيا الموالية للنظام إنها مفبركة، ففكرت في كتابة اسم المكان وتاريخ التظاهرة لتوثيقها وتكذيب القناة، فكــانــت أول لافتة كتــبتها: كفرنبــل قــلعة الثــوّار 29 /4 /2011". وهو ما يعني أن التظاهرة جاءت ردا على تكذيب قنوات الإعلام الموالية للأخبار، ليبدأ شباب البلدة بالتفكير بكيفية مواجهة هذا الكذب الإعلامي، ولتبدأ اللافتات تخرج من تلك القرية إلى العالم"، إذ يقول الرسام: "نتعاون في جمع الخروج بالأفكار، وأحياناً جمعها من مجموعة من النشطاء، إذ يطرح كل ناشط فكرته ونعمل نحن على تطويرها، لأصوغها أنا في هيئتها النهائية، ونستقي أفكارنا من أي حدث نسمع به أو نشاهده على التلفزيون، ونتعاون أيضاً مع خطّاط متخصص يدوّن الصياغات النهائية على اللافتات، وهناك شاب يساعدنا في ترجمة اللافتات إلى الإنكليزية".
سر لافتات كفر نبل يكمن في نقدها الساخر أو الجاد أحيانا، وفي تعليقها على كل ما يحدث في العالم من أحداث تخص الانتفاضة السورية، وهو ما يعكس وعي أهالي البلدة وناشطيها الذين يتابعون كل شيء، لتأتي اللافتة معبرة عن وعي مدني صرف من جهة وتفاعل مع العالم لم يسبق أن عبر عنه أحد غيرهم في الانتفاضة السورية. مثلا حين تعرض سفراء الدول الكبرى للاعتداء في سوريا، رفع ناشطو البلدة لافتة باللغتين العربية والإنكليزية تقول: "يبدو أننا نطلب الحماية ممن هم في حاجة إلى حماية سفرائهم أولاً". وكذلك حين وجهوا نقدهم للمعارضة السورية بالقول "وصّلتينا لنص البير وقطعتي الحبلة فينا"، وهو مقطع من أغنية عاطفية شهيرة، ولافتة "كفرنبل تريد تحرير التيبت" ردا على الفيتو الصيني في مجلس الأمن الدولي، وأما اللافتة الأهم التي رفعها الناشطون، والتي تعبر عن غضبهم بشكل فاجع عن تخلي العالم كله عنهم وتركهم يواجهون الموت العاري هو قولهم: "يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن.. يسقط العالم.. يسقط كل شيء"! وهي اللافتة التي تم تناقلها بكثافة على صفحات الفيسبوك وتحدث عنها الكثير من التقارير الإخبارية.
هذا الانفتاح الإعلامي على القرية دفع الناشطون لمزيد من العمل، حيث رؤوا أن نتائج عملهم أبهرت العالم فعملوا على ترسيخ هذا الدور و قوننته وأرشفته فانتشرت صفحات على الفيسبوك مخصصة لنقل أخبار القرية ولافتاتها، وبعضها خاص باللافتات فقط مثل كفر نبل المتخصص بنشر اللوحات، وصفحة صور كفر نبل ولافتات كفر نبل على الفيسبوك، إضافة إلى صفحات أخرى مخصصة لنقل كل أخبار البلدة مثل كفر نبل المحتلة ومأداراك و كفر نبل قلعة الثوار.
كفر نبل في الإعلام
الإبداع وروح السخرية المرة اللتين تميزت بهما لافتة كفر نبل دفعت بالبلدة ونشطائها إلى مقدمة المشهد الإعلامي للانتفاضة السورية، حيث تكاثفت التقارير التي غطت نشطاء البلدة وتظاهراتها، خاصة طريقة إخراج اللافتة والتحضير لها كما نشاهد على تقارير أعدتها قنوات مثل الجديد وأورينت والجزيرة والبي بي سي العربية والانكليزية، إضافة إلى أفلام وثائقية كثيرة منها خيمة الفرسان، إضافة إلى ما كتبه مثقفون مثل صبحي حديدي ( فتّح عينك أنت في كفر نبل) ومحمد الحلبي ( كفر نبل ضمير الثورة وبوصلتها).
كفر نبل: مثال ونموذج وأسطرة
ما سبق رفع كفر نبل من مرتبة المشارك في الانتفاضة إلى مرتبة الرمز والأسطورة، بحيث باتت هي نفسها نموذج يحتذي ويتغنى به، أي أضحت نوع من "أمثولة" يتم التغني بها، حيث تم إنجاز عدد من الأغاني التي أهداها مغنوها إلى البلدة التي ألهمتهم وإلى نشطاء المدينة الذين أضحوا مثالا وقدوة للكثير من الشباب السوري، مثل "قالولي إني إنسان" و إعادة منتجة أغنية "عودك رنان" للمغنية فيروز مع لافتات كفر نبل، نسبة لتسمية القرية بعود الثورة الرنان، وأغنية كفر نبل بلد الأحرار.
مؤخرا، يمكن القول أن كفر نبل تستحق بحق كل ما قيل عنها، وتستحق أكثر كل الصفات التي وصفت بها، ولكنها تستحق أكثر ما تستحق لقب ضمير الثورة لأنها فعلا مثلت هذا الضمير وتمكنت من أن تكون منارة حرية في أشد لحظات القتامة السورية والعنف المفتوح من كل الجهات، حيث كانت لافتاتها بمثابة صمام أمان للانتفاضة وبوصلتها التي تؤشر دوما إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي ينشدها كل السوريين.