أن تولد فكرة داخل السجن وتجد طريقها إلى التطبيق لا يبدو أمرا مألوفا رغم أنه حصل مرارا في تاريخ الشعوب التي ناضلت لانتزاع حريتها من براثن الاستبداد. ولكن أن تتحول الفكرة إلى ورشة عمل وأمل في آن، رغم أن قسما من أصحابها مازالوا معتقلين! وأن تستمد تلك المجموعة آليات عملها من أفكار المعتقلين وأفراحهم وضحكاتهم المهرّبة من براثن السجان (هل قلنا أفراح وضحكات؟!) وآمالهم ورسائلهم وأشواقهم وأناتهم وجوعهم الدائم للحرية، لتتحوّل إلى رسائل إبداعية وأفلام قصيرة وصور وبوسترات تنقل صوت المعتقلين من جوف الصمت المستبد لتكسر إرادة السجن وتشرح أحوالهم لتبث عزيمة وقوة فيمن هم في الخارج، دافعة الثورة إلى الأمام ومواجهة التحدي.. فقد يكون هذا أحد إعجازات الثورة/ الانتفاضة السورية، حيث المعتقل يقاوم وهو راقد في برازخ الظلام، ليغدو "صوت المعتقلين" فاتحا "أفقا جديدا"، فما هي الحكاية؟ ومن هؤلاء؟ وكيف يهرّبون رسائلهم/حكاياتهم، لتتحول فيما بعد إلى مقاومة إبداعية ومدنية، وهم الراسخون في زنازين لا تصلها الشمس؟
مجموعة من المعتقلين "الذين يرفضون أن يكون اعتقالهم عائقا أمام نشاطهم وتفاعلهم مع مجتمعهم، ومعتقلون سابقون اختبروا معاني الاعتقال ويحاولون أن ينقلوا معاناة وتفاصيل حياة من تركوا من أصدقاء وزملاء في تجربة الاعتقال". هكذا تقدّم مجموعة "صوت المعتقلين" نفسها خلال حوار مع "سيريا أنتولد Syria untold"، حيث يسعى المعتقلون المغيبّون في السجون والمعتقلون السابقون لأن "يوصلوا صوت المعتقلين الذي يحاول من يعتقلهم إسكاته إلى قلب كل إنسان" ساعين لأن يبقوا "ناشطين وفاعلين في مجتمعهم بالرغم من قيود السجان. كما أنهم يسعون باستخدام كل الوسائل المتاحة أن يعيدوا وصل جسور التواصل بين المعتقلين ومجتمعهم والتي تحاول الجهات التي تعتقلهم إلغائها".
الفكرة ولدت في "أحد المعتقلات السورية بين مجموعة من المعتقلين الأصدقاء" لتنتشر وتتحول إلى طموح للتعبير عن همومهم ومطالبهم، خاصة أنهم "يمتلكون الفكر والصوت ليعبروا عن مطالبهم ولهم رأيهم في قضايا مجتمعهم ويرون أنهم لا يحتاجون لمن يتكلم عنهم ، بل هم بحاجة من يدعمهم ويساندهم ويكون معهم صدى صادقا مخلصا لصوتهم وعدالة قضيتهم".
ومع خروج بعض هؤلاء المعتقلين عملوا بجنون لوضع مشروعهم في دائرة الضوء والفعل، إيمانا منهم بمشروعهم ووفاءا لأصدقاء قاسموهم "بيت الضيق" ولحظات الفرح والجوع، أصدقاء لا يزالون هناك في الصمت الثقيل يصنعون حريتنا، لتكبر المجموعة يوما بعد يوم، جامعة بين المعتقلين المحررين وفخورة بكون "أعضائها من المعتقلين الراغبين بالانضمام" بعد خروجهم.
نشاطات المجموعة تعتمد على تحويل أفكار المعتقلين وأحزانهم وهواجسهم وأناتهم إلى مادة حيّة، بعيدا عن الرقم، حيث يعمد المعتقل الخارج للتو إلى رواية حكايته الشخصية و نقل رسائل من تبقوا هناك، ليصار إلى تحويلها إلى "رسائل ومقالات" تنشر على صفحتهم على الفيسبوك مدعمة بصور وبوسترات تؤنسن الحالة بعيدا عن التوثيق الممل دون أن تلغيه طبعا، بل تعمل على توثيقه عبر حكاية وصورة، فعلى أحد البوسترات نقرأ "الأم المعتقلة : مريم غندور. دمشق – القابون. تاريخ الاعتقال : منذ حوالي 8 أشهر.الجهة التي قامت بالاعتقال : المخابرات الجوية.مكان الاعتقال حاليا : المخابرات الجوية – فرع التحقيق (مطار المزة العسكري) أم لـ 8 أولاد ، منهم شهيدين. تعاني من ظروف اعتقال قاسية ، يزيدها ألما حزنها على أولادها .طوبى لكِ أمي الحرة الصامدة الصابرة ..نحن واحبائك بانتظارك ..حريتك حياة لنا".
هنا يعمل الفريق على التوثيق "بطريقة تكشف الوجوه الأخرى للاعتقال بعيدا عن الصورة النمطية لدى المجتمع السوري للاعتقال والتي هي التعذيب والإجرام والتي لا ننكر وجودها .. ولكن يبقى هذا الوجه مغطى إعلاميا لأن قضية المعتقل تختصر أو تصل للإعلام حين يتحول لشهيد تحت التعذيب. أما المعتقل الصامد أو المعتقل السابق فقلما تجد قصص صمودهم وبطولاتهم مكانها في الإعلام ، ..هناك حياة يعيشها المعتقلون والمعتقلات بتفاصيلها الحزينة والمفرحة ، وهذا ما استطعنا وسنستمر في الإضاءة عليه" في "حلقات صوتية لرسائل حقيقة من المعتقلين" ضمن مشروع صامدون الذي كان لنا في "سيريا أنتولد Syria untold" وقفة خاصة معه.
https://www.youtube.com/watch?v=Hh9jbW43di8
"بيت الضيق"، عنوان لأحد رسائل المعتقلين، وهو يرمز للزنزانة التي لا تتسع لنزلائها، مما يدفعهم للشجار يوميا وسط لؤم وشماتة السجان، فقرر أحدهم أن ينام واقفا ليفسح المجال للعجائز والعائدين من التحقيق وهم بحالة يرثى لها كي يناموا، حيث بقي لمدة سبعة وعشرين يوما ينام واقفا، إلى أن بدأ آخرون يفعلون مثله، لتولد فكرة أن يتناوب كل اثنان على المساحة الضيقة التي تجمعهما، ولتحل مسألة "بيت الضيق" الذي تحوّل إلى بيت عائلة يضمهم، فلولا هذا الذي تبرّع وضحى بالنوم وافقا لما حلّت المشكلة. دائما هناك من يضحي أولا ليحيا الآخرون..
تلك واحدة من رسائل كثيرة، ينقلها "صوت المعتقلين" الذي لم يكتفي بذلك، بل عمد إلى "تقديم مجموعة من النصائح والإرشادات لأهالي المعتقلين والتوعية الحقوقية والقانونية" إضافة إلى "نشاطات على الأرض من خلال زيارة أهالي المعتقلين والتواصل معهم والتواصل مع المعتقلين المحررين حديثاً، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم"، وذلك كله بهدف "الوصول إلى سوريا دون اعتقالات تعسفية واعتقالات بناء على الرأي، وجعل قضية المعتقلين السوريين قضية عالمية"، وبانتظار تحقيق ذلك تم تحقيق بعض الأهداف المرحلية كأن "نكون مصدر ثقة في مجال دعمنا لأهالي المعتقلين وذويهم وتوعيتهم ، كما أننا نحقق مزيدا من التأييد والدعم لصالح المعتقلين من خلال نشر رسائلهم المسربة من السجون" ساعين لكسر كل العوائق المتمثلة بـ "تراجع ترتيب قضية المعتقلين أمام أولويات المجتمع السوري".
حين كانت الفكرة لم تزل جنينا، كان حلم المعتقلين وهم "داخل المعتقلات والسجون إيصال صوتنا الحر للعالم أجمع، لنعلنها لكل العالم أننا لن نركع. علّو الصوت .. علّو الصوت .. علّو علّو الصوت .. يا منعيش بكرامة يا أما بنموت".
هاهو صوتهم اليوم يجول العالم في رسائل صوتية (صامدون)، بوسترات، رسائل مكتوبة، أخبار صمود.. ليقول: لم ولن نهزم. ولنكون أمام "معتقلين" لم يكسروا السجان والاستبداد فحسب، بل ألغوا أي معنى للاعتقال الذي أراده المستبد قيدا وصمتا وسرا، فحوّلوه: ضوءا وأمل لنا نحن القابعون خارج المعتقل ولكن في جوف الاستبداد والخوف.