لم يكد أهالي مدينة الرقة يتخلصون من النظام الدكتاتوري حتى وقعوا بين براثن "داعش" التي غدرت بهم، ففي الوقت الذي كان فيه النشطاء يبنون حريتهم على مقاس أحلامهم بعد رحيل النظام محوّلين المدينة إلى ورشة عمل، تمكن التنظيم الذي أوهم الناشطين أنه جزء من الثورة في البداية من الفتك بهم وزجهم في السجون من جديد، ليجد الناشطون أنفسهم بمواجهة سلطة دينية استبدادية بعد أن تمكنوا من طرد سلطة الاستبداد التي تدعي العلمانية، الأمر الذي حوّل ساحات الرقة وشوارعها إلى ساحة صراع لا يزال مفتوحا بين "داعش" وهؤلاء الناشطين الذين لا يكفون عن الأمل رغم كل الألم، وهو ألم متعدد الوجوه: ألم لتكّسر حلمهم الذي كادوا يلامسوه بأيديهم بجعل الرقة صورة عن سوريا التي يشتهون، فحوّلها التنظيم إلى أسوأ مثال عبر فرض أجندته الدينية وإشاعة مناخات الخوف والقتل والدمار، وألم لتوّزع رفاق دربهم نحو الحرية بين سجون التنظيم و النظام في آن، وألم لقيام التنظيم بإعدام عدد لا بأس به من رفاق دربهم، كان آخرهم اثنا عشر ناشطا بينهم الإعلامي "المعتز بالله إبراهيم"، كجزء من رد التنظيم على حملة "الرقة تذبح بصمت" التي أعلنها الناشطون مؤخرا بوجه التنظيم والعالم، كجزء من حراكهم الدائم لاستعادة ثورتهم وأهدافها "ما استطعنا لذلك سبيلا"، فما هي الحكاية؟ ومن هؤلاء؟ ولم يدفعون أرواحهم ثمنا لفكرة الحرية للمرة الثانية، وكأن القدر يأبى إعطاءهم حريتهم فيصرون على بلوغها بعناد؟
بعد تكاثر الجرائم التي ارتكبها داعش وبعد تخلي أغلب ( وليس كل) الفصائل العسكرية المحسوبة على المعارضة عن الرقة، وتركها بين براثن التنظيم وسط صمت دولي وعالمي على ما يحدث من مجازر، أدرك الناشطون أنه "ماحك جلدك إلا ظفرك"، رغم أنهم لم يتوقفوا يوما عن المقاومة. إلا أن غدر التنظيم الذي أوهمهم في البداية أنه جزء من المعارضة تمكن من مباغتتهم واعتقالهم وقتل العديد منهم فتشظى نشاطهم المدني إذ اضطر أغلبهم للهرب، ليعودوا اليوم ويقرروا العودة والمقاومة من جديد عبر حملة "الرقة تذبح بصمت" التي أطلقت بتاريخ 16/4/2014، بهدف إيصال "صوت الرقة الحقيقي ومعاناة هذا الشعب الذي يمارس بحقه أبشع الجرائم التي يقشعر لها الأبدان"، وردا على "تخلّي الفصائل العسكرية والسياسية عن الرقة وأهلها"، لنكون أمام "السبب الرئيسي في قيام الحملة"، وفق ما يقول أحد ناشطي الحملة لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
تم منح مهمة الترويج الإعلامي في الحملة لناشطين مهجرين قسرا خارج المدينة لسهولة تحركهم حيث كانت صفحتهم على الفيسبوك منبرهم الرسمي، في حين تولّى الناشطون الذين بقوا في المدينة سرا مهام البخ على الجدران وتوزيع المنشورات المناهضة للتنظيم، والحاملة رسالة توعية للسكان حول مخاطر التنظيم وإجرامه، خاصة أن التنظيم يتستر بالدين ويتغلغل بين "صفوف الشباب المراهقين الذين استمالتهم ( داعش) تحت الغطاء الديني الإسلامي، والإغراءات"، إضافة إلى قيام الناشطين في الخارج بالتواصل مع المنظمات الإعلامية والإغاثية و الطبية لشرح معاناة المدينة عن طريق الحملة.
ولكن الحملة تحولت إلى صراع شرس بين الناشطين والتنظيم الذي استعرض قوته بمواجهة الحملة، حيث اعتقل أكثر من 50 شاب من المدينة بتهمة التواصل مع الحملة (تم إطلاق سراح بعضهم ولا يزال بعضهم في أقبية التنظيم)، وخرج "أكبر رتل لتنظيم البغدادي، متسلحا بأسلحته الثقيلة والمتوسطة والخفيفة وإخراج جميع معسكراته التدريبية القريبة من المدينة لتجوب أنحاء المدينة لإيصال رسالة مفادها أن من يشارك في الإضراب سيكون عقابه الموت"، لينفذ التهديد ويعدم 12 شاب منهم الناشط الإعلامي "المعتز بالله إبراهيم"، وهو الأمر الذي زرع الخوف في نفوس أهالي المدينة، حيث كان العامل الاجتماعي وخوف الناس عائقا أمام الترويج للحملة في المدينة.
إلا أن ذلك لم يرهب الناشطون وإن كان أثر على حملتهم، حيث واجهوا التحدي بمثله، فوّزعوا البرشورات والبوسترات في شوارع المدينة وكتبوا على الجدران واللافتات عبارات تطالب بإخراج "البغدادي وعصابته" من المدينة، إضافة إلى قيام الناشطين في المدن الأخرى ( الصالحية، دمشق، حمورية..) والخارج بالمشاركة في الحملة عبر رفع لافتات مماثلة في مرسين و غيرها، إضافة إلى تصميم الحملة لبوسترات تحمل وجوه كل من اعتقلهم التنظيم من الأب باولوا وحتى المصور محمد نور مطر وغيره.
أن يضع الناشطون أرواحهم على الأكف وهم يواجهون تنظيم الموت، يأتي بهدف إيصال رسالة للتنظيم وغيره من التنظيمات العسكرية والسياسية بأن ما خرج لأجله السوريين لم يمت "حتى ولو سعت بعض التنظيمات لاغتيال أو اختطاف رموز الثورة في محافظة الرقة وهذا ما عمدت إليه داعش لطمس معالم الثورة في الرقة"، مؤكدين تمسكهم بثورتهم "ما استطعنا إلى ذلك سبيلا"، ومعتبرين حملتهم "انطلاقة ثورة أخرى" تدعم ( إلى جانب الرقة) صمود بقية المحافظات "الواقعة تحت ظلم النظام وظلم داعش، حتى نبلغ هدفنا في إحياء الثورة التي يحاول تنظيم داعش إلى جنب النظام إخمادها" كما يقولون لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
موّل الناشطون حملتهم من جيوبهم الشخصية، ساعين لأن لا "يكون هناك أي شروط تفرض علينا من قبل أي جهة كانت"، رافضين أي تمويل مشروط و أية قيود يسعى الممولون لفرضها عليهم. ولهذا ربما اكتفت الحملة بنشطائها، إذ لم تشارك مجموعات أخرى فيها بشكل مباشر، في حين اقتصر "عمل بعض المجموعات على تضامنهم مع الحملة ومنها مجموعات عسكرية وسياسية وإعلامية".
تكاد تختصر الرقة اليوم مأزق الثورة السورية بامتياز، فهي واقعة بين نيران الاستبداد من جهة ونيران "داعش" التي حوّلت حلمهم بالحرية إلى رماد يصّر الناشطون على إطلاق عنقاء حريتهم منه، مؤمنين بأن ما يقوموا به الآن ليس إلا ثورة أخرى تكمل درب ما بدؤوه، وشعارهم " لا يضيع حق ورائه مطالب" و "كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل".