كـأن القدر يواصل لعبته مع السوريين الذين ضاقت عليهم كل مساحة سورية عن التظاهر السلمي والاعتصام جراء القمع والملاحقة من قبل النظام وأطياف إسلاموية ( داعش، النصرة، كتائب إسلامية متشددة..) وإثنية كثيرة (حزب الاتحاد الديمقراطي..) تعمل على وراثة الاستبداد، فباتوا يتظاهرون ويعتصمون في المعتقلات، محوّلين باحاتها الضيّقة وساحات تنفسها إلى ساحات تظاهر استعصت عليها ساحات الوطن الكبرى!
"بدنا نطلع بدنا نطلع"، و "نحنا سوريين" هي عبارات بحت بها حناجر المعتقلين في سجن حمص المركزي بعد أن بدؤوا إضرابا مفتوحا عن الطعام حتى يفرج عنهم و تفتح أبواب الحرية لهم، من تاريخ 27/12/2014، ولا يزال مستمرا حتى كتابة هذه السطور.
أصوات مبحوحة ووجوه متعبة هي ما نراه في الفيديوهات التي تمكن الناشطون من تسريبها من داخل السجن، حيث نرى المعتقلين وهم يرفعون أصواتهم ويغطون وجوههم بلافتات كتب عليها "بدنا نطلع" في حين كوّمت أمامهم الأطعمة ( ربطات خبز وأواني ممتلئة بالطعام) التي يرفضون تناولها إلى حين إطلاق سراحهم والاستجابة لمطالبهم.
لم يتوقف الأمر هنا، بل ثمّة صوّر مسربة لجدران علّق عليها شعارات المحتجين و مطالبهم: "حتى تفتح لنا الأبواب"، "لا نريد دواء"، " الإفراج عنا.. فقط مطلبنا. مطالبنا مفتوحة وبطرق سلمية ومشروعة"، " أنا محكوم 31 سنة بسبب تظاهر عام 2011"، "موقوف منذ عام 2011 دون سبب"، "لسنا بحاجة محاكمات. نحن أبرياء"، نريد أن نكون بين أهلنا. هذا حقنا"، "موجه لي قرار الاتهام ومجرّم دون لقاء القاضي"، نريد حريتنا"...
هذه الشعارات البسيطة المعلقة على حائط بسيط تختصر ببساطة حكاية السوريين مع حريتهم وثورتهم، فهي تحكي أو تذكر دون قصد بالأسباب التي ثار ضدها ولأجلها السوريون، مبيّنة الجوهر الاستبدادي للنظام، الذي يعتقل الناس دون سبب، ويتركهم في السجون عقودا دون أدنى إحساس بمسؤولية أو وخزة ضمير ( هل قلنا ضمير؟!)، حيث قضى معتقلو الثمانيات في سوريا عقودا دون محاكمات، وهو ما يحصل اليوم لمعتقلي الثورة الحالية، حيث تعبر اللافتات وحدها عن وضعهم، إذ مضى سنوات على اعتقالهم دون رؤية القاضي، في ظل أوضاع إنسانية سيئة: طعام سيء، لا رعاية صحية، سوء تدفئة، عدم وجود مرافق جيدة..، الأمر الذي يعني أن جوهر الاستبداد هو هو، وأن جذور الثورة لا تزال كامنة، رغم ما غرقت به من متاهات.
اللافتات المرفوعة تخلق حالة حنين لأيام الثورة الأولى، فعبارة "بطرق سلمية ومشروعة" تكفي للتعبير عما يجول بدواخل السوريين من توق للحرية ولأيام السلمية الأولى. وكأن المعتصمين بالسجن يطالبون بأن نعود لزمن السلمية وشعاراته التي أضاعها السوريون في حمى السلاح والعسكرة، فلافتة "إضراب إضراب حتى تفتح الأبواب" تذكر بإضرابي العزة والكرامة، والإضراب عن الطعام يذكر بإضرابات كثيرة أعلنها السوريون ولا يزالون، و "لا نريد دواء" تذكر بلافتات كثيرة شهدتها الثورة تركز على الكرامة منها لافتة رفعت في مخيم اليرموك تقول "مخيم اليرموك شبعان كرامة يا عرصات" ردا على سياسة التجويع والتركيع التي انتهجها النظام.
الاعتصام في سجن حمص المركزي الذي يضم اليوم حوالي 2000 من معتقلي الثورة، ليس الأول من نوعه، إذ أقدم السجناء في عام 2012 على تنفيذ استعصاء ردا على المعاملة السيئة التي يتعرضون لها، علما أن عدد سجناء السجن القديم ما بين 3000 –5000 بينهم أكثر من 800 كبير في السن، و100 امرأة.
يأتي الاعتصام اليوم ليذكر السوريين والعالم بقضايا المعتقلين مجددا، وكأن لافتاتهم هذه موّجهة لنا قبل أن تكون موّجهة للسجان، مطالبة بألا ننساهم، ومذكرين بأن حريتهم التي فقدوها كانت قربانا لحريتنا التي نشتهي.
"بدنا حريتنا" و "بدنا نطلع" صرخات أحرار أبوا إلا أن يغلقوا عام 2014 على نداء الحرية الذي خرج لأجله السوريون، فبات مطلبهم اليوم أن يخرجوا هم للحرية. أي قدر غريب هذا؟
والأغرب أن ساحات السجن باتت أكثر حرية للتظاهر في حين ضاقت كل الساحات الأخرى، بما فيها تلك التي انحسرت عنها سيطرة النظام.