(ريف إدلب)، شعر سعد الدين الخطيب (52عاما) بالحرية لأوّل مرة في حياته، وذلك مع انطلاق الثورة السورية في 15 آذار/ مارس2011، فكان من أوائل المتظاهرين السلميين الذين طالبوا بالحرية وإسقاط نظام الأسد الذي استبد بحكم البلاد لأكثر من أربعة عقود.
سعد الدين الخطيب من مدينة كفرنبل، واحد من مئات الأفراد المنضمين لحزب الإخوان المسلمين في سوريا، والذي تعرّض للسجن والتعذيب لسنوات عديدة في سجن تدمر.
اليوم، وبعد حوالى سنتين منذ خروج إدلب وريفها عن سيطرة النظام بشكل كامل، لم تتشكل حياة سياسية جديدة في المدينة ولا أريافها، نظراً لحالة الحرب السائدة ولكثرة التنظيمات الجهادية على الأرض، فعدا حزب الإخوان المسلمين المقموع سابقاً، والذي عاد لنشاطه الحزبي بالاجتماعات السياسية والنشاطات الإغاثية، تكاد تكون الحياة السياسية صفراً.
الإخوان على الأرض!
سعد الدين، يعمل اليوم ضمن المجال الإغاثي لجماعة الإخوان في مدينة إدلب وريفها، يقول لحكاية ما انحكت: "إنّ معظم أعضاء الحزب يعيشون في المنفى الذي فرضه عليهم النظام ومازالوا هناك أثناء الثورة، غير أنّهم يمدوننا نحن في الداخل السوري بمساعدات مادية وإغاثية ليس فقط لأعضاء الحزب، وإنّما أيضا شمل دعمهم النازحين والفقراء والمحتاجين وبعض الفصائل العسكرية"، وقد تحفظ الخطيب عن ذكر أسماء هذه الفصائل، غير أنّه أكد بأنّها ليست تابعة للنصرة أو داعش.
ويشير الى أنّ الحزب يعقد اجتماعات حزبية بين الحين والآخر، كما وقد أسّس العديد من الجمعيات لتكون صلة وصل بين إخوان الخارج والداخل، ومن هذه الجمعيات جمعية الوفاء، أنصار المظلومين، رابطة أحرار سجن تدمر وغيرها. هذه الجمعيات تعنى بشؤون الإخوان في الداخل، وكذلك تقدّم مساعدات إغاثية ومشاريع تنموية وخدمية لرفع بعض الأعباء عن المتضرّرين في الداخل السوري "المحرّر".
يعمل حزب الاخوان على ضمّ أعضاء جدد إليه، ولكن بشروط ومعايير، أهمها أنّ يكون المنضم مثقف أو ناشط ثوري أو مدني أو إعلامي، أي كل ما يمكن أن يكون فاعلاً فقط (وفق قول سعد الدين)، وكذلك فإنّ المجال مفتوح أمام جميع المحرّرين من سجن تدمر لضمّهم للحزب بحسب نبيه العثمان ( 69عاما)، المدير التنفيذي في جمعية أنصار المظلومين.
وفيما يتعلّق بدور حزب الإخوان بالثورة السورية من الناحية السياسية، فهو كان أحد أقطاب المجلس الوطني السوري، الذي بقي أهم مجموعة معارضة في المنفى إلى أن انضم في نوفمبر 2012 إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.
غير أنّ جماعة الإخوان المسلمين تبقى مجرّد حزب واحد فقط بين العديد من الأحزاب السورية، صحيح أنّها لاعب سياسي منضبط وفعال غير أنها تفتقر للقوة البشرية والسلطة داخل سوريا، السلطة التي باتت بيد الفصائل الإسلامية المقاتلة التي يتجنّب حزب الإخوان الاصطدام معها في أيّ مجال كان، لأن هذا ليس من أولويات الإخوان الأن، بل "التركيز على إسقاط النظام"، وفق قول سعد الدين الخطيب.
أما بما يتعلّق بأن يكون لحزب الإخوان جيشاً خاصاً به، فالأمر حوله مؤكد لدى العديد من الباحثين، وتأتي إشارات متضاربة عنه من داخل تيار الإخوان، إذ قال القيادي في تنظيم الإخوان، منهل الدروبي، أنهم أنشؤوا كتائب مسلحة (الإخوان المسلمون لـ "الشرق الأوسط": أنشأنا كتائب مسلحة للدفاع عن النفس وعن المظلومين"، بولا أسطيح، الشرق الأوسط، 5/8/2012 العدد 12304)، في حين نفى المراقب العام للإخوان (آنذاك)، رياض الشقفة، الأمر ("الشقفة: ليس هناك تنظيم مسلح لإخوان سوريا"، حوار مع المراقب العام للإخوان في سوريا محمد رياض الشقفة أجراه أحمد دعدوش، الجزيرة نت، الأربعاء 10/4/2013).
أين اليسار والقوميون؟
ويبقى السؤال: أين التيارات اليسارية والقومية الأخرى في سوريا اليوم؟ وماذا عن أنصار حزب البعث؟ أين اختفوا؟ أم أنّ زوال الاستبداد ساهم بزوال كذب وزيف الانتماء للبعث؟
أسئلة يجيب عنها الكاتب الصحفي والناشط السياسي، منهل باريش (37 عاما)، والذي كان عضواً في حزب الشعب الديمقراطي المعارض (الحزب الشيوعي - المكتب السياسي سابقا)، فيقول لحكاية ما انحكت "أساسا لم يكن هناك تيارات بالمعنى السياسي، وإنما هم أشخاص وجماعات صغيرة لم تستطع أن تخلق قاعدة عريضة وواسعة في سوريا.. نحن نتحدث عن معارضين سياسيين، وليس معارضة، إنّها حال مئات وآلاف الأشخاص الذين لم يستطيعوا إيجاد حالة موّحدة مع بعضهم باستثناء جبهة إعلان دمشق (التي كانت تشمل قوميين ويساريين) الذي قام النظام أيضا بالقضاء عليها باعتقال أعضائها والتخلّص منهم مما أفضى لتعطيل العمل بهذا التكتل".
باختصار، فإنّه وفي ظلّ صراع مسلح يجمع بين الصراع الطائفي وحرب نظام ضد الشعب وصراعات إقليمية ودولية، لا يعتقد الباريش بأنّ هناك فرصة لتيار يساري أن يكون فاعلاً على الأقل في المدى المنظور، فالنشاط السياسي حتى بالحدود الديمقراطية يعاني القمع والملاحقة في المناطق التي رحل عنها النظام بنفس الدرجة التي يعانيها في مناطق النظام.
أما عن أنصار حزب البعث اليوم، والذين كانوا سابقا يمسكون بكل مفاصل البلاد في كل مكان، فإنهم تواروا عن الأنظار أو لزموا بيوتهم، فـ "الانضمام لحزب البعث كان يشكل سابقا دعما للأعضاء من حيث أفضليتهم بشتى أنواع الوظائف الحكومية المدنية والعسكرية، فهم كانوا يتمتعون بكلمة مسموعة داخل منشآت ومؤسسات الدولة" وفق قول محمد البيوش (50 عام) الذي كان ضابط شرطة وعضوا عاملا في حزب البعث، ويقيم اليوم في مدينة كفر نبل بعد تقاعده، معتزلا الناس ومحاولا الابتعاد عنهم والنأي بنفسه عن كل ما يحدث، فلا يعلن تأييده للثورة ولا للأسد ونظامه.
ويشير منهل باريش إلى أنّ قسم من أعضاء الحزب انقلب عليه، فهو بالأساس "حزب مصلحة وحزب نفعي، فالمنتفعين والمرتزقين الأكثر تحوّلوا إلى شبيحة للنظام، وهذا يعكس بأنّه لم يكن حزباً بالمعنى السياسي، وإنما الانضمام إليه كان بدافع الخوف من السلطة"، ولهذا من الطبيعي (والقول لباريش) أن تكشف الثورة زيف الانتماء لحزب البعث، وبأنّ وجود أكثر من ثلاث أو أربعة ملايين منتمين للحزب هو مدعاة للسخرية.
هذا ما يوافق عليه الناشط الثوري وعضو منظمة اتحاد المكاتب الثورية في كفرنبل أحمد جلل (38 عاما)، فيقول لحكاية ما انحكت "لا يوجد بعثيين حقيقيين أي مؤمنين بحزب البعث فجميعهم تبرّؤوا من البعث حتى مؤيدي النظام الذين ظهر ولاءهم لبشار وليس لحزب البعث، فمع انطلاق الثورة لم يعد هنالك وجود لحزب البعث".
ونظراً لعدم وجود أحزاب سياسية في إدلب بالرغم من عدم وجود قوات الأسد بها اليوم، يوضح الجلل بأنّ الأحزاب السياسية تظهر نتيجة لتداول السلطة، والسلطة في المناطق المحرّرة تدار من قبل فصائل مقاتلة بطريقة تشبه نظام الطوارئ بسبب الحرب الدائرة في المنطقة، فهي بيئة غير "مناسبة لنشوء أيّ أحزاب سياسية، ناهيك عن الاستقطاب الفصائلي الذي طال معظم الشرائح، فبين مؤيد ومعارض للفصيل تشكّل نوع من التيارات السياسية المتصارعة على السلطة، وأحيانا بالسلاح".
من يمسك الأرض؟
إنّ الفصائل العسكرية والتنظيمات الإسلامية هي من تتصدّر قائمة فرض السيطرة وضمّ المنتسبين إليها في ظلّ الثورة على حساب تشكيل الأحزاب السياسية التي لم يسعى أيّ كان إلى تشكيلها في الشمال المحرّر خوفاً من اصطدامها مع فصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات الجهادية. هذا ما يعبّر عنه أبو أمجد (40عاما/مستعار)، وهو أحد أعضاء المجلس المحلي في كفرنبل، والذي يتحدّث عن التشرذم القائم، فيقول لحكاية ما انحكت: "إنّ الشمال السوري لا سيما إدلب وريفها تعجّ بالانتماءات المتعدّدة، والتي طالت حتى أفراد الأسرة الواحدة"، ويوّضح بأنّ هنالك فصائل متعدّدة للمعارضة المسلحة ومنها فرسان الحق وأحرار الشام وغيرها، كما أنّ هنالك تنظيم جبهة النصرة الذي يعتبر الفصيل الأقوى حالياً، بالإضافة لذلك "لايزال هنالك موالين وأتباع لكلّ من داعش ولنظام الأسد ولو لم يعلنوا عن ذلك"، وبرأي أبو أمجد فإنّ انتماء الشباب لهذه التنظيمات والفصائل، سواء للحصول على دعم مادي أو رغبة في الجهاد أو لاقتناعهم بقضية كلّ فصيل منهم بالحرية وإسقاط النظام، وأيضا نتيجة هجرة العقول إلى دول اللجوء، هو ما ساهم بعدم تشكيل أحزاب سياسية جديدة في ريف إدلب على الرغم من تحريرها من نظام الأسد بشكل كامل منذ نهاية عام 2014.
الشاب عمران الحموي (28عاما) أحد المنتسبين لتنظيم جبهة النصرة منذ عامين، وهو مقتنع تماماً بأنّه التنظيم "الأكثر صدقا ومن يجاهد بأمانة ودون أهواء سياسية أو مادية وهمه الوحيد هو الدفاع عن الشعب السوري المضطهد والمظلوم"، كما يقول لحكاية ما انحكت.
من جهة أخرى، يشكو سعيد الحبش (56عاما/مستعار) من مدينة كفرنبل، من قيام النصرة بمصادرة منزله بحجة أنّ ابنه لا يزال يخدم في جيش النظام، فيقول لحكاية ما انحكت "ما ذنبنا نحن الأهل لنأخذ بجرائر أبنائنا، فقد انقسم الأبناء بانتماءاتهم بحسب القوى الحاكمة على الأرض دون موافقة منا نحن الأهل ودون استشارتنا حتى".
من جهتها، تعتبر الجبهة على لسان الحموي بأنّ "مصادرة منازل هؤلاء أمر طبيعي، لكي يعرفوا بأنهم ببقائهم منتمين لنظام الأسد ومساعدته في قتل أبناء بلدهم، حكموا على أهلهم وأنفسهم بأن لا يبقى لهم موضع شبر في المناطق المحررة"، الأمر الذي يوّضح مدى هيمنة هذه الفصائل على الأرض، ومدى عقم "السياسة" التي تنفذها، ما يعطي فكرة واضحة عن وعورة العمل السياسي في ظلّ وضع كهذا.
وأمام ما يحدث من تشرذمات وتعدّد للقوى الحاكمة على الأرض، فإن إمكانية نشوء أحزاب سياسية جديدة يبقى احتمالاً ضعيفاً، وكذلك فإن حزب الإخوان الوحيد الذي لا يزال قائماً، هو أبعد ما يكون عن كونه القوة المهيمنة التي يتصوّرها البعض، ولكن نظراً لمهارة هذا الحزب السياسية التي أثبتت جدواها وقدرتها على التكيّف مع الظروف المتغيّرة يبقى هناك احتمال بأن يبقى طرفاً فاعلاً في السياسة السورية لسنوات مقبلة.
(الصورة الرئيسية: غرافيتي في مدينة كفر نبل ضمن حملة "عيش" بتاريخ 18/1/2014. المصدر: الصفحة الرسمية للحملة على الفيسبوك، والصورة تستخدم بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة للحملة)
(تصحيح: في النسخة الأصلية تم ذكر وفق قول عبد الرحمن. والصحيح: وفق قول: سعد الدين الخطيب. وتم التصحيح بتاريخ 25/5/2017)