(اللاذقية)، فادي وشادي شقيقان تفصل بينهما عُمرياً ثلاث سنوات، كل من يراهما يظنّهما توأمين، فالعيون والفم واليدان والمهنة وطريقة الكلام متشابهة، كثيراً ما استفادا من توأمتهما في التغيّب عن المدرسة التي لم يحبانها أبداً.
يعشق شادي الكهرباء واللعب معها، ومنذ أن وصلت إلى قريتهم، ساقية الكرت، (تتبع ناحية كنسبا، قضاء الحفة)، حتى انتقالهم إلى مدينة اللاذقية أواخر ثمانينات القرن الماضي وهو مندهش من قدرات هذا الاختراع، إلى درجة أنه التحق باكراً بمصلّح أدوات كهربائية في حارتهم الجديدة (الرمل الفلسطيني، جنوب اللاذقية) لينسى مدرسته ومدرسيه، إلى أن تمكّن من التوّظف في إحدى كبرى الشركات الصناعية في الساحل السوري، ولم يكن أخوه (فادي) أقل شغفاً منه بالكهرباء، إلا أنه تعلّم تمديد كهرباء البيوت.
كانت أمهما سيدة منزل لم تتلق تعليماً، إلا أنها ربتهما باستقامة أخلاق كبيرة تركت أثرها الطيب على علاقتهما مع محيط عملهما، أما أبوهما، مصطفى (الاسم الأول)، (60 عاماً) فهو من جيل البعثيين الأوائل في منطقتهما، تشبّع مبكراً بالرسالية والمناقبية التي تعيشها الأحزاب عادةً قبل أن تصيبها أمراض السلطة، وبقي كذلك رغم أنّه أصبح عضواً قيادياً في الحزب منذ الثمانينات، الأمر الذي اضطره مع عائلته للانتقال إلى مدينة اللاذقية، ولأنّ المدينة "غالية ولا ترحم" فقد استقر في حي "الرمل الفلسطيني" الشعبي في بيت مستأجر.
حين بدأ الرمل الفلسطيني (يعرف بالجنوبي أيضاً) بالغليان (ربيع 2012) مع انطلاق مظاهرات يومية تقريباً في تلك المنطقة الشعبية تطالب بإسقاط النظام، حاولت العائلة ككل البقاء بعيداً عمّا يجري، فما يجري بنظرها مؤامرة خارجية تريد النيل من "البلاد نتيجة لموقفها السياسي لا أكثر ولا أقل". يجادل الأب كثيراً، وهو البعثي العتيق، بأن ما يجري "تنفيذ عملي لتوجهات السياسة الأميركية في نشر الفوضى في المشرق العربي ومغربه، وهو ما وعدت به كونداليزا رايس علناً" كما يقول لـ"حكاية ما انحكت".
تابع شادي مهماته بإصلاح البرادات والغسالات متنّقلاً بسيارة صغيرة منحته إياها الشركة، يجول فيها في الساحل الذي اشتعل كلّه بالتوتر، فقد حاصر الجيش السوري منطقة الرمل وأدخل إليها الدبابات مع توّسع انتشار المظاهرات في قلب الأحياء السنية في المدينة ونزلت قوى الأمن يساندها البعثيون إلى الشوارع للتصدّي لها.
في ذاك الوقت لم يعد أحد من السنّة يتجرّأ على الصعود إلى الجبل (العلوي)، وبالمقابل لم يتجرّأ سكان المدينة العلويون على الاقتراب (إلا قليل من اليساريين) من مواقع التظاهر، وانتشرت إشاعات كثيرة قطّعت أوصال المدينة لشهور عديدة (آذار 2012 وما بعد)، وقتها طلبت الشركة بعد أن زادت الأعطال نتيجة انقطاع التيار الكهربائي موّظفاً لإصلاح الأعطال في الريف بعد أن رفض الموظف المعيّن القيام بعمله.
أعلن شادي استعداده للصعود إلى الجبل، أثار موقفه كثيراً من الخوف من احتمال تعرّضه للخطف أو القتل على يد "المشبّحين" الذين توالدوا في تلك الفترة بكثرة، إلا أنّ شادي لم يكن غريباً عن الجبل وسكانه، فقد عمل في إصلاح الغسالات والبرادات فيه لسنوات، ويعرفه الناس هناك حتى إنّه تزوج إحدى بنات الجبل، ولكن ما استجد أنّ الحراك هنا تحوّل إلى حراك طائفي لأسباب كثيرة، وهو سني، فكيف سيتقبله أهل الجبل العلويون في عقر دارهم؟ ولكن موقع والده في سلك البعث، ساعده على تجاوز صدام متوقع، لا بل رفع من موقعه بين الناس الذين أصابوا مؤيداً من غير طائفة يؤيد وجهة نظرهم تجاه الأحداث في تلك الفترة فباتوا يطلبونه من الشركة حصرياً ولو اضطروا لتأجيل الإصلاح إلى حين فراغه من عمله.
سرت الأخبار في الرمل الفلسطيني أنّ الأب الخمسيني من مؤيدي النظام وعضو قيادي في البعث، وهو لم يكن يتدخل في أي أمر يجري أمامه، إلا أنّ استفزازه أصبح هدفاً لبعض الناشطين، فاستجروه إلى معركة مفتعلة أكل فيها "قتلة" منهم، فكان قرار عودتهم إلى قريتهم التي تركوها قبل عقود، أما الأولاد فقد بقوا في المدينة لصعوبة تواصلهم مع أعمالهم من هناك، وعاد الأب إلى زراعة أرضه ورعاية أشجاره من جديد.
في ربيع 2013 سيطرت المعارضة المسلحة على مناطق من ريف اللاذقية ومنها "ساقية الكرت"، وانضم إليه بعض أبناء تلك القرى، تجاهل الرجل في البداية نظرات أبناء قريته ممن انضمّوا للحر، هؤلاء الذين طالما نظر إليهم كمشكلة ستحدث بسبب عطالتهم عن العمل وعن التعليم، فليس (بتصوره) أسهل من إغرائهم بالمال والنفوذ والدور الاجتماعي والضحك عليهم باستخدام الدين الذي بقي أداة يمكن لمن يشاء استخدامها في أي صراع محتمل في المجتمع أو مع السلطة، أو من قبل السلطة نفسها، فأحداث الإخوان في الثمانينات لم تغب عن باله فقد كان وقتها في شعبة الحزب بالحفة وبقي حارساً فيها مع رفاقه ردحاً من الزمن.
تجرّأ "الشباب" أخيراً على الرجل الخمسيني، فحاصروا بيته وطلبوا منه إعلان "انشقاقه" عن "النظام" وإلا تعرّض للضرب والطرد من القرية والمنطقة ككل، سبق ذلك أن قطع مجهولون أشجار الجوز خاصته، وتعرّض أولاده للإيقاف مع الإهانات على حاجز الضيعة عدّة مرات أثناء زيارتهم لأهلهم، وبهدوئه المعتاد تجادل معهم دون نتيجة، هكذا وجد على باب بيته علامة X حمراء ذات صباح فتأكد له أن "الضرب ليس ضرب صحاب" وأنه لن تنفعه "سُنيته" وسمعة عائلته ولا دوره السابق في خدمة المنطقة، ولم يبق أمامه سوى أن يشدّ رحاله مع عائلته عن قريته مرة جديدة، وهذه المرة إلى حي المشروع السابع في قلب المدينة.
بعد أيام من مطلع العام الحالي (2017)، عاد شادي من مهمة إصلاح في ريف جبلة، فتم إيقافه على حاجز الجامعة للتأكد من عدم طلبه للاحتياط، لم يكن الأمر غريباً فهذا الحاجز كما غيره وجد أساساً "لتفييش" الناس والتأكد من طلبهم للخدمة العسكرية أو عدمه، لكن هذه المرة كان الوضع مختلفاً، فقد أخبره الشاب على الحاسب بغير ما يتوقع: أنت مطلوب للاحتياط.
كلّ من عاش هذه اللحظة يعرف الفرق بين قبلها وما بعدها، ويعرف أنّ حياةً جديدة ستلي تلك اللحظة لا يعرف فيها الإنسان مصيره، وما إذا كان سيعود حيّاً أم ميتاً إلى من ترك وراءه قبل بضع ساعات، تلك هي لعنة الحرب الأبدية، أبقاه العسكري في غرفة مخصّصة للمطلوبين بعد أن أخذ منه هاتفه المحمول ومنعه من إجراء أي اتصال رغم توسلات شادي له لإجراء اتصال واحد فقط مع أبيه، إلا أنّ محاولاته ذهبت أدراج الرياح.
اكتمل عدد ركاب الفان المستخدم لنقل المطلوبين للاحتياط مساء فأقلع بهم باتجاه الشرطة العسكرية في اللاذقية، حيث باتوا ليلتهم في زنزانة صغيرة دون طعام ولا شراب ثم نقلوا في اليوم التالي إلى العاصمة، فوجدوا أنفسهم بعد ساعات من السفر في قطعة عسكرية، رحّب بهم أحد ضباطها بالسباب والشتائم، واتهامات كثيرة بالتخلّي عن الوطن في لحظته المصيرية تلك، إلا أنّ شادي انبرى له وردّ عليه مؤكداً أنه ليس فاراً ولا مطلوباً للاحتياط وأنّ الخطأ خطأهم وسيتحملون مسؤوليته، فأكل صفعة قاسية من ذاك الكائن.
بعد عدة أيام وجد شادي نفسه مقاتلاً على جبهة ريف حماة دون أن يحمل في قلبه ضغينة، فهذا "واجبه وقدره"، كان قد سُلّم هاتفه المحمول فأخبر أهله بما جرى معه، بدأ أبوه حملة اتصالاته لتصحيح الخطأ الحاصل، إلا أن شادي منعه من متابعة تحركاته فهو يريد أن يقاتل مثله مثل آخرين معه.
بعد شهر آخر التقط الحاجز نفسه أخوه فادي غير المطلوب للاحتياط أيضاً، ونقل بنفس الطريقة إلى العاصمة ومن هناك وصل إلى جبهة حلب المشتعلة وقتها، ملتحقاً بإحدى الكتائب العسكرية. كانت الحجة أنّ هناك تعبئة عامة تقتضي جمع عدد من المقاتلين وإرسالهم إلى الجبهات.
حين علم فادي ما صار إليه حال أخيه شادي المتزوج، تذكر أنّ هناك قانوناً يمنع وجود أخين في الجيش معاً، فطلب من أبيه البدء بمعاملة لتسريح شادي من الخدمة فهو أولى منه بالتسريح كونه متزوج ولديه طفلان.
بين إيمانه بضرورة قتال الدواعش "والإرهابيين" وخوفه على مصير ولديه الوحيدين، عاش الرجل الخمسيني شهراً من القلق والضياع فزاد شيبه وضيقه من طريقة التعامل مع ولديه، فالقانون المفترض أنه يحترم البشر ليس إلا حبراً على ورق، بنفس الوقت، كان انتقاله الثالث إلى الحارة الجديدة (المشروع السابع) نقطة تحوّل مضافة في تاريخ حياته، فرغم أنّ هناك آلاف السنة ممن قطنوا في الحارات العلوية أغلبهم مهجرين مثله، إلا أنّه لم يستطع نسيان قريته وأشجاره ومواسمه التي أصبحت بعهدة الدفاع الوطني وبالتالي لن ينال منها أيضاً أي شيء.
لم يستطع الرجل كذلك مناقشة قيادته الحزبية سوى بطلب تسريح أحد ابنيه، رغم أنّ غالبية القيادات البعثية حسب المتداول بين الناس "هرّبت" أبناءها، إما إلى الخارج أو إلى الحواجز القريبة أو أحضرتها إلى "كتائب البعث"، تقول حكاية شعبية متداولة هنا أن سبب عدم استدعاء أمناء الفرق وأفراد الجمارك ورجال الدين للاحتياط هو تقليل حالات الخيانة في الجيش.
تعرّضت جبهة حماة إلى اشتعال مفاجئ، فقد هاجمت كتائب "أحرار الشام" قوات الجيش المتمركزة في الريف من عدّة محاور، وسقط شادي غير المطلوب للاحتياط صريعاً بنيرانها، في ذاك اليوم تحديداً اتصل بأخيه (فادي) صباحاً ليوصيه بأهله خيراً.
في لحظات الموت هذه يغيب أي يقين ويصبح عدم التصديق أمراً حقيقياً، رحل شادي غير المطلوب للاحتياط إلى الأبدية تاركاً وراءه كل شيء، ليس لأنه أراد أن يموت، فلا أحد يتمنى الموت ولا قيمة أعلى من قيمة الحياة، فجعت الأم والزوجة والأب والأطفال والعم برحيله، كانت المعاملة قد أفضت إلى قرار نهائي بتسريحه، وصدر أمر تسريحه في الليلة التي سبقت مشاركته في تلك المعركة، لقد تأخر البريد 24 ساعة، وذهبت معه حياة كاملة.
(الصورة الرئيسية: تصميم: كوميك لأجل سوريا. خاص حكاية ما انحكت)
(ملاحظة: تم تعديل عبارة "في ربيع 2013 سيطر الجيش الحر" إلى عبارة في ربيع 2013 سيطرت المعارضة المسلحة، وتم حذف الكنية من الأسماء لضرورات الأمان، وتم التعديل بتاريخ 16حزيران/ يونيو 2017)