من الجمال وللحفاظ على الجمال بدأت ظاهرة "حيطان سراقب"، إذ رغم أنها ولدت ونمت وشبّت في حاضنة الثورة، إلا أنها في العمق ذهبت في معنى الثورة بعيدا، إلى خلف السياسوي والاقتصادي والاجتماعي، باحثة عن عمق الإنسان وجوهر جماله.
أو ليست الثورة هي جمال؟ جمال الحرية ضد قباحة الاستبداد، جمال الوضوح ضد غموض الاستخبارات، جمال الكائن الطبيعي ضد الكائن الملوث بفكر الاستبداد وإن كان ثوريا ويطالب بإسقاط النظام؟
إلى هنا، إلى هذا العمق الجمالي للثورة، انتمت "حيطان سراقب" التي بات يعرفها الجميع، باسم "دفاتر العشاق" (الفيلم الذي أنتج عن الظاهرة)، ولها من اسمها ومعناها نصيب، فإذا كان العشق يولد عفويا، فإن الفكرة ولدت ببساطة العشق وعفويته، إذ مع تمدد الثورة في سراقب أصبحت الكتابة والبخ على الجدران أمرا شائعا ومألوفا، وباتت الكتابات على الجدران تستوقف الجميع لقراءتها والتمعن بها وتحليلها. ولما كان الاستبداد قد جثم عقودا على كاهل أهالي سراقب، فإن اندفاعهم نحو الحرية كان كبيرا، ولكنه في بعض النواحي كان لايزال يعاني من مما تركه الاستبداد في الأرواح والنفوس، فإلى جانب العبارات والأشعار الجميلة ظهرت عبارات شاذة ومؤذية للعين والبصر، حتى وإن كانت تنتقد الدكتاتورية وتشتمها، وهو أمر غير مألوف بالنسبة لأهالي مدينة محافظة كسراقب، ناهيك عن كتابة البعض الشعارات على جدران الآخرين دون استئذانهم، الأمر الذي عنى أن "المشكلة تكبر"، ولا بد من حلها، ليفكر كل من إياس قعدوني ورائد بالعمل على "تنقية الروح من خلال البصر بذات الوسيلة"، أي أن يعملوا على توجيه الناس للتعبير عن أفكارهم بشكل صحيح ومهذب، وفي مكان عام مخصص لهذا الأمر، وهو ما كان حيث بدأ رائد بكتابة أشعار لمحمود درويش، سيحافظ على كتابتها طيلة عمر المشروع، في حين تخصص "إياس" بكتابة عبارات مستوحاة من اللحظة حينا، ومما يحصل في المدن الأخرى حينا، وتضامنا مع حدث أو تنديد بمجزرة، أو تحية لشهيد مثل كتابة عبارة الشهيد المخرج "باسل شحادة": "الثورة تذكرة دخول وليست تذكرة عبور"، أو حدث شخصي ذاتي أحيانا له مدلول عام، كما حصل معه حين رسم أول مرة، إذ كان ينتظر زوج أخته، ليأتيه خبر أنه استشهد برصاص القناص. وكون "إياس" لا يعرف كيف يبكي كما يقول، لم يجد إلا الرسم وسيلة للتفريغ، فحمل ألوانه وذهب إلى الحائط ليرسم لوحة بالفحم مرفقة بعبارة "سأكتب أني أحبكم"، قام أحد الشباب بتصويرها، ونقلها إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتلقى صدى جميل. وانضم إليهم فيما "سومر كنجو" متخصصا في الرسم للأطفال، و الناشط في المجال المدني الإغاثي الخطاط "ليث العبد الله" لاحقا.
في البداية كان تفاعل المحيط الاجتماعي مع الظاهرة حذرا ومشوبا بالخوف، جراء خوف الناس من عودة الجيش للمدنية ورؤية الكتابات على جدران منازلهم مما يعرضهم للانتقام، وكان الشباب يتفادون الأمر بعدم الرسم على جدران الآخرين مكتفين بالكتابة على جدران الأماكن العامة أو من يسمح لهم من الأهالي. إلا أنه تدريجيا ومع توسع انخراط المدينة في الثورة، بدأ عامل الحذر يسقط إلى درجة أن الناس باتت تطالبهم بالكتابة على الجدران، خاصة أمهات الشهداء اللواتي أردن أن تتحول جدران بيوتهن إلى حامل لأسماء الأبناء الصاعدين إلى السماء، وكأنهن بذلك يقاومن النسيان.
التفاعل الإيجابي والصدى الذي لقيته الحيطان على وسائل التواصل الاجتماعي كان عاملا مشجعا، إلى درجة أن القائمين على المشروع تفاجاؤوا بأن ثمة صفحة للحيطان على الفيسبوك لا يعرفون بها، الأمر الذي دفعهم لتأسيس صفحتهم الخاصة والعمل عليها من جهة، وتوسيع العمل في الداخل، حيث بدأ "إياس" مشروعا طموحا لرسم بانوراما للثورة منذ بدايتها حتى نهاية عام 2013، على أن يرسم كل يوم لوحة، في حين يتابع "رائد" في كتابة أشعار محمود درويش و"كنجو" الرسم للأطفال، علما أن إياس كان يعتبر أنه على الرغم من أن درويش شاعر ثورة، إلا أن الثورة السورية قادرة على التعبير عن حالتها الثورية بلغتها، كما يقول لـ حكاية ما انحكت. وهو ما جعله دائم البحث عن الجديد سواء عبر التعليق على الأحداث أو المشاركة عبر الحيطان مع فعاليات في مدن أخرى، أو حتى التضامن مع هذه المدن بوجه القصف والطيران الذي تتعرض له ولو عبر لوحة، ناهيك عن توظيف الأمر عمليا في خدمة الناس بمعنى مباشر، مثل الرسم على جدار الفرن عبارات تحض على الاحترام والمحافظة على الدور، إضافة للاحتجاج عبر اللوحة والكتابة على عدد من الممارسات مثل الكتابة على باب المدرسة" مدارسنا للتعليم ليست للاعتقال".
التضامن مع المدن المحاصرة، له حكايته الخاصة مع الفريق، فمرة حين كان إياس يرسم عبرت سيارة بها مسلحون، ثم عادت ثم عبرت مرة أخرى ثم عادت وتوقفت ليترجل منها المسلحون ويجلسون بجانبه، الأمر الذي دفعه لمتابعة الرسم في الوقت الذي كان الخوف يشله، خاصة أن الصدام مع بعض أصحاب الفكر المتطرف قد بدأ، كما تجلى في تظاهرة حدثت قبل أيام حين رفع النشطاء المدنيون علم الثورة في حين رفع الإسلاميون رايتهم، ليفاجأ "إياس" بقيام أحدهم بالاقتراب منه واحتضانه، لأنه كان يرسم لوحات تضامنية مع مدينتي داريا ودوما في ريف دمشق، وكان هناك اثنان من المسلحين من كلتا المدينتين، الأمر الذي فتح سجالا امتد لأشهر قادمة، خاصة أن المسلحين هم ذاتهم الذين اعترضوا "إياس" ورفاقه في التظاهرة محاولين منع رفع علم الثورة، الأمر الذي جعلهم يخجلون منه لأنهم كانوا قالوا له في المظاهرة عبارة "بالذبح جيناكم"، الأمر الذي دفع إياس للقول: "هذه الحادثة تؤكد أن الألوان أو أي منتج بصري يحترم ذاته والإنسان ويخدم الثورة حقيقة، قادر على أن يعمل فرقا هاما"، فرغم الابتعاد الإيديولوجي بين إياس وهؤلاء المسلحين إلا أن التواصل استمر بينهم، إلى لحظة مغادرتهم المنطقة عائدين إلى ريف دمشق حيث لقيا حتفهم هناك.
مع دخول داعش إلى المدينة تغيّر الوضع، مع قيام الأخيرة بمسح الكثير من الجدران، دون أن تكون الوحيدة في ذلك، إذ شاركهم في الأمر بعض الحاسدين والمسيئين والرافضين لأي نجاح وكتائب أخرى، إذ يقول إياس: "الأعمال تأثرت بوجود داعش في المنطقة وجند الأقصى والنصرة وغيرها. حتى أن بعض الأعمال تمت إزالتها بشكل كامل. تعاونت قذائف النظام والغلات على إزالة جزء جميل وأصيل من الحراك المدني في سراقب"، الأمر الذي دفع المؤسسين للخروج من البلد، إذ لم يعد أحدا منهم موجود إلا "ليث" الذي انكفأ جرّاء تعرضه لحادثة اختطاف جعلته يشعر بالخذلان لأن الناس بدأت تساير الإسلاميين، و لشعوره بأنه ترك وحيدا وهو الذي قدّم للثورة بأمانة ونزاهة دون أي مقابل، علما أن الفريق رفض طيلة المشروع أن يأخذ تمويلا من أحد، فـ "الفريق كان فكرة تطوعية. تعاونت مع الجميع لأجل الهدف والمصلحة العامة. وبقيت تطوعاً للنهاية" كما يقول إياس لـ حكاية ما انحكت.
أوجه الصدام مع الرافضين لحرية الآخرين بالتعبير، تجلت بشكل مكثف حين قام إياس بكتابة عبارة باللغة الفارسية موجهة للمعارضة الإيرانية، فقام أحدهم بمسحها، الأمر الذي دفعه لأن يكتب قبل أن يغادر المدينة بعد تهديد بالقتل "بايع من شئت فأنا بايعت موطني، وشعب يصرخ بالحرية"، دون أن يعني ذلك الهزيمة، حيث يفكر إياس من منفاه اليوم، بكيفية إعادة تفعيل الرسم، من خلال إرسال ألوان ومواد لكي يرسم أطفال المدينة على الجدران ويتابعون ما بدأه ذات يوم هو ورفاقه، ساعين لنقل بذرة اللون والحرية لهم.
إنها الحرية التي سمحت لدفاتر العشاق بأن تولد وتكون أهم ظواهر المدينة محاربة القبح باللون، والاستبداد بالكلمة، والتشليح الذي طالما عرفت المدينة به بالوجه الجميل، والتطرف بالسخرية والحب، أليس ما هذا ما كتب على الجدران؟:
صديقي الشهيد
متعبة هي الجدران وحزينة هي كل الحكايا
في بلادي أصبح الموت عادة وتلذذ ورواية
سنبقى سنصدح بالحب
حتى يعود الحب سيد الحكاية.