إذا كان الأفراد يجمعون المجد من أوسع أبوابه ليحظون بشيء من السعادة والثروة، فإن مدينة داريا جمعت مجد النضال و الثورة والأمثولة من أوسع الأبواب، فهي مدينة "العنب البلدي"، والبلدة التي قدمت الورد لـ "جيش" رماها بالرصاص والحصار، والساحة التي ضمت مظاهرة الفزاعات كأغرب مظاهرة في تاريخ البشرية، دون أن تحظى بشيء من حلاوة المجد هذا. بل -على العكس- ذاقت مرارته حرمانا وقصفا وحصارا وموتا، ولم تزل. والأكثر إدهاشا أنها لا تزال تصر على متابعة الدرب والرسم للحرية، وسلوك دربها الوعر، الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة عن الوعي الكامن خلف هذا العمل، في ظل ظرف موحش وقاس، فمن أين يزهر هذا الوعي في صحراء الوهم؟
حكاية واحدة قادمة من داخل الحصار، قد تجيب أو تعطي مؤشرا واضحا عن أسباب صمود المدينة بعد أربع سنوات ونيف من الحصار والقتل، لأن القوة وحدها مهما بلغت لا تقدم شيئا ما لم تردف بوعي وإرادة وتصميم. وعي نراه كامنا في حكاية المكتبة الوحيدة في مدينة داريا اليوم، تلك المكتبة التي جمعت كتابا كتابا من بين ركام البيوت المهدمة، وتلك التي هجرها أصحابها، بهدف الحفاظ "على التراث العلمي والثقافي للمدينة" كما يقول أحد مؤسسي المكتبة لحكاية ما انحكت، و"Humans Of Syria الإنسان في سوريا" (H.o.s)، و"سوريالي".
بدأت الحكاية بعد أشهر من هجوم النظام على المدينة في نهاية عام 2012، حيث تعرضت المدينة وقتها لدمار هائل وكبير، الأمر الذي دفع عدد من تجمع "شباب التغيير" (اسمه الآن حركة فجر الأمة) الذي تشكل في بداية الثورة، للانتباه إلى أن ثمة كتب "كثيرة ومتنوعة وتعتبر كنزاً ثميناً إذا فقدناه فلن يعوَّض، وتعود ملكيتها إلى أهالي داريا الذين اضطروا لترك بيوتهم ونزحوا إلى مناطق مختلفة"، فقرروا جمع الكتب "رغم انشغالهم معظم الوقت بالعمل الثوري".
هكذا بدأت عملية جمع الكتب عبر مستويين، الأول جمع تلك الموجودة تحت الركام والبيوت والمهدمة لإنقاذها من التلف والتمزق جراء القصف في عملية بحث صعبة وخطيرة ومنهكة. والثاني جمع الكتب من البيوت التي تركها أصحابها، خوفا من تعرضها للدمار بأي لحظة، حيث تم التواصل مع أصحابها لأخذ أذنهم، ومن لم تتح الظروف بالتواصل معه تم حفظ حقه من خلال "أرشفة الكتب مع أسماء أصحابها بشكل دقيق كي يتمكن كل شخص من استعادة كتبه عندما يعود إلى المدينة".
بالتوازي مع عملية جمع الكتب كان قسم من الشباب يقومون بترميم الكتب التي طالها القصف، و"إعداد المكان وتجهيزه بالكامل من حيث تفصيل الرفوف والفرش والإضاءة والخدمات الفنية وغيرها"، في حين يقوم قسم آخر بوضع برنامج "فهرسة كاملة للكتب تحوي معلومات تفصيلية عن كل كتاب، وتبويبها وفق أقسام متعددة كي يسهل على القارئ عملية البحث عن الكتاب المطلوب وبأي اختصاص بالضبط"، لتصبح المكتبة جاهزة لاستقبال الزوار والإعارة، من خلال وضع نظام لإعارة الكتب، فهناك "أمين للمكتبة يشرف على إعارة الكتب"، يساعده عدد من الشباب الذين "يتناوبون في الدوام بما يتناسب مع التزاماتهم الأخرى" كما يقولون لحكاية ما انحكت.
المكتبة اليوم تضم أحد عشر ألف كتاب، تتوزع بين الروايات العربية والعالمية والكتب الدينية وكتب التاريخ والتنمية البشرية، وهي موضوعة بتصرف أهل المدينة الصامدين والشباب المؤمنين بالعمل والمعرفة، حيث يزورها ويقرأ بها "شباب من الجيش الحر و العاملين بالمدينة والثوار بالإضافة للناس المحاصرين" علما أن حركة الإعارة تتراوح بين 20 و30 كتاب يوميا، أغلبهم من شباب الحركة، الذين لهم يعود الفضل بنجاح المكتبة، لـ "إيمانهم الشديد بضرورة تفعيل جانب القراءة والمطالعة والبحث كي نستطيع النهوض بشبابنا وبالمجتمع ككل".
إذا عرفنا أن شباب داريا خلقوا حراكهم الخاص منذ عام 2003 أي قبل الثورة بثمان سنوات، سندرك معنى أن تلد المدينة الكثير من المبادرات والفعاليات والإبداعات الحرة، ومنها "مكتبة داريا" التي تأتي اليوم كثمرة وعي بأن المعرفة شرط أساس للحرية، ما يفسّر لنا جزئيا معنى أن تصمد داريا حتى اليوم في "وجه الزمان وجيشه" كما يقول محمود درويش.
هذه الحكاية أنتجت بالتعاون مع "الإنسان في سوريا" و "راديو سوريالي" وجريدة "سوريتنا".