لا يوفر السوريون فرصة تتاح لهم لإبراز وجه انتفاضتهم السلمي وجوهرها، وإلا ويستغلوها بسرعة من يسابق ريح العسكرة والنظام المستبد، لإدراكهم الكامل أن الانتفاضة في نهاية المطاف هي تفوق أخلاقي ضد النظام وثقافته المستبدة من جهة، و لإفشال سعي النظام و بعض الجهات الخارجية لتلويث وجه انتفاضتهم بالطائفية والجهاد وغيرها من التهم الكاذبة، لذا كانت حملة " ميلاد الحرية" التي أطلقتها تنسيقية الشباب السريان الآشوريين ) والشبكة الآشورية لحقوق الإنسان في سوريا )، والتي امتدت أسبوعا كاملا من يوم السبت 24 كانون الأول 2011 لغاية يوم السبت 31 منه، تزامنا مع عيد الميلاد المجيد، لإثبات أن الانتفاضة ليست انتفاضة طائفة ضد أخرى، بل انتفاضة كل السوريين بكامل مكوناتهم الإثنية والطائفية.
واختار القائمون على الحملة شجرة الميلاد المعروفة لتكون رمزا لهذه الحملة على أن تنصب في عدد من المدن السورية وغير السورية، وعلى أن تحمل الشجرة أسماء الشهداء والمعتقلين وصورهم بدلا من الزينات التي تعلق عليها عادة، تعبيرا عن الوفاء "لدمائهم الزكية وأرواحهم الطاهرة التي تنير دروب الأحرار في سوريا وتزين سماء الحرية لشعبها"، ولإثبات وحدة الشعب السوري و تضامن المسيحيين السوريين الذين يجري تخويفهم من الثورة مع أخوتهم في الوطن، عبر التأكيد على أنهم مواطنون سوريون لا مجرد "طائفة" تحتاج حماية كما يردد النظام وأبواقه.
وبدأت الحملة بشريط فيديو شارك به عدد كبير من قيادات المعارضة السورية بكلمات تدعو السوريون إلى الوحدة والتآلف بوجه الطائفية والفرقة، وتدعو الجميع مسيحيين ومسلمين للمشاركة في حملة " ميلاد الحرية"، و من هذه الشخصيات: " ريما فليحان، عمر ادلبي، عبد الأحد اسطيفو، سمير نشار، وليد البني، أحمد رمضان، ملهم الدروبي، أنس العبدة، عفراء جلبي، حسام القطلبي، زينة الحلاق، رضوان زيادة، رديف مصطفى، جبر الشوفي، وآخرون.
https://www.youtube.com/watch?v=_ke6LCIylNI
ونقل هؤلاء لمسيحيي سوريا أمنياتهم بعيد ميلاد جديد تغمره روح الإخاء والمحبة والتسامح، متمنين أن يكون العيد المقبل هو ميلاد سورية جديدة، وميلاد دولة الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة، مؤكدين لهم أن الدولة القادمة هي دولة يتساوى فيها جميع المواطنين أمام القانون، في محاولة لتكذيب الشائعات التي يبثها النظام من أن الانتفاضة دينية وجهادية وضد الأقليات في سوريا.
https://www.youtube.com/watch?v=z9tOaYdJ39E
وكتبت الناشطة السورية ريما فليحان بهذه المناسبة، مخاطبة السيدة مريم العذراء: " أيتها الأم العظيمة يا من مسحت الدماء والدموع عن ولدك الحبيب.. امسحي دموعنا و أزيلي الدماء عن بلد ينزف من الشمال حتى الجنوب... أمهاتنا اليوم لا يجدون حتى الأجساد ليكفنوها... أمهاتنا اليوم ثكلى...أيتها الأجراس التي ستقرع في كل مكان حول العالم لتحتفل بميلاد الطفل المسيح رسول السلام والمحبة.. أطفالنا ها هنا فقدوا الأمن والسلام.. واغتالهم الرصاص .. وشردوا بالبراري... صلوا من اجلهم... صلوا لنا .. ... وكونوا معنا "كالكلمة الطيبة للنفس العطشانة" ... نحن اليوم بحاجتكم.. نحن اليوم نريدكم معنا.. نحن اليوم نحتاج الى كتفكم لنبكي عليه.. أخوتنا المسيحيين... ميلاد مجيد طوبى لكم".
وتم تأسيس صفحات فيسبوك بهذه المناسبة لنقل أخبار الحملة وتغطيتها مباشرة، مثل حملة ميلاد الحرية وميلاد الحرية، وشباب ميلاد الحرية.
وما أن أطلقت الحملة حتى استجاب عدد من التجمعات المدنية في الداخل السوري للحملة وشاركوا بها، حيث نصبوا شجرات الميلاد في مناطق متفرقة من البلاد مزينة بصور الشهداء والمعتقلين، حتى في تلك المناطق التي لا يتواجد بها مسيحيين، إذ أراد هؤلاء مشاركة المسيحيين أعيادهم بصفتهم مواطنين وشركاء في الوطن لا "رعايا" أو "طوائف" عبر التأكيد على أن هذه الانتفاضة هي لكل السوريين، وهذا مانراه في مدينة سراقب في الشمال السوري:
https://www.youtube.com/watch?v=rhBxqEtblKA
وفي مدينة طرطوس اختار أحرار طرطوس نصب شجرة ميلاد والغناء حولها أغاني للثورة، مثل " علّي علّي الصوت.. يامنعيش بكرامة يا منموت" و " الليلة ليلة عيد.. إسلام ومسيحية منعمر بيت جديد"، حيث، نلاحظ تحوير أغاني الميلاد وتبديل الكلمات لتتلاءم مع الحالة الجديدة لميلاد الحرية، إضافة إلى وضع قالب حلوى والغناء حوله شعار "يلعن روحك ياحافظ"، بطريقة احتفائية تشي بالسخرية.
ولم يكتف الناشطون السوريون في الداخل بشجرة الميلاد بل عملوا على تطوير الحملة وتوسيعها وفق نشاطات جديدة، اختارها كل تجمع، فها هو تجمع نبض اختار أن يوزع "ستيركات" على بيوت ومداخل ومطاعم معظم مناطق دمشق، من باب توما إلى الحجاز والحمرا وسوق الحريقة والبرامكة، حيث اختاروا عبارات معينة من الإنجيل للسيد المسيح والرسول بولس، إضافة لأقوال رجال دين مسيحيين، مع إضافة مع بعض العبارات عليها لربطها بموضوع الحرية الذي يتوق إليها السوريين ويناضلون لأجلها، فمثلا تضمنت القصاصات عبارات للأب باولو داليليو في القصير "ماتخافوا من بعض خافو على بعض "، و" لقد حررنا المسيح لكي ننعم بهذه الحرية فاثبتوا إذن فيها ولا تعودوا ترتبطون بغير الحرية"، " على درب الجلجلة سار المسيح وعلى درب انعتاقها سارت سورية".
وفي مدينة زملكا التابعة لريف دمشق والقريبة من العاصمة، تم إقامة تظاهرة بهذه المناسبة، حضرها أحرار من حي القصاع الدمشقي المعروف بساكنيه المسيحيين وبحضور وفد من محافظة السويداء التي يقطن بها الدروز، للتأكيد على الوحدة الوطنية وعلى أن السوريين يد واحدة في وجه النظام المستبد، حيث شارك الصبايا والشباب جنبا إلى جنب وهم يرتدون بدلات بابا نويل، مطلقين شعارات التضامن مع المناطق السورية مثل " بالروح بالدم نفديك باب توما"، وموزعين الهدايا على الأطفال، إضافة إلى الغناء للحرية والوحدة الوطنية، حيث تحولت المظاهرة إلى احتفال للفرح ولوحدة السوريين وللوم العالم العربي عبر ترداد لازمة "وين وين الشعب العربي وين" التي كان يرددها المتظاهرون خلف مغني يهتف بهم بحضور الناشطة والحقوقية المعروفة رزان زيتونة.
وكان لليلة رأس السنة مذاق آخر في مدينة القامشلي الواقعة في الشمال الشرقي من سورية، والمعروفة بتعايش سكانها المنتمين إلى أديان وأعراق متعددة، مع وجود عدد كبير من المسيحيين فيها، حيث اختار الناشطون تنظيم تظاهرات واعتصامات ليلية، لتتحول ليلة رأس السنة إلى احتفال خاص لمناهضة النظام وسط شعارات تحتفي بالحرية وتلعن الدكتاتور متوعدة إياه بمصير سيء، دون أن يغيب عن الشعارات حس الفكاهة والضحك، مثل: سنة سودا يا بشار، سنة حلوة ياثوار"، " بشار ما منريدوا". إضافة إلى غناء أغنية سكابا يا دموع العين سكابا بما يتناسب مع الحالة الثورية الجديدة، ويمكن رؤية الفيديوهات هنا.
وفي الشمال السوري احتفى الناشطون بعيد الميلاد كل على طريقته، حيث اختارت مدينة إدلب عنوان "دعم الوحدة الوطنية" شعارا لاحتفالها، إذ تجمع المتظاهرون في إحدى الساحات وأطلقوا العيارات النارية مرددين حرية حرية، إضافة للغناء تحديا للنظام المستبد. في حين اختار أهالي عندان التابعة لمدينة حلب الاحتفال عن طريق غناء مواويل تؤكد الوحدة الوطنية وتتوعد الدكتاتور بأن حروف الحرية اقتربت، مؤلفين مواوويل خاصة لهذه المناسبة مثل: "ياعمي الناس تفرح بعيدها وعيدنا بسقوط النظام".
ومن جهة أخرى، اختار بعض الناشطين إغناء الحملة سينمائيا، حيث قدم المخرج السوري "عمر حكمت الخولي" فيلم "القيامة" بتمثيل "غالب خويلد" الذي مثل شخصية المسيح، حيث يقدم الفيلم رؤية تقول بعودة المسيح من جديد ليجد سوريا غارقة بدماء أبنائها فيقرر العودة إلى الصليب من جديد في دلالة جميلة على اغتيال قيم المحبة والسلام التي دعا إليها المسيح الذي يطلق صرخة ضد الظلم في نهاية الفيلم، كما قدم رسام الكاريكاتير المعروف جوان زيرو لوحة تعبر عن إبتسامة الأطفال الذين قتلوا على أيدي عناصر الأمن و الجيش السوري تضيئ شجرة الميلاد.
https://www.youtube.com/watch?v=FsVrASSIdM8
ولقيت حملة ميلاد الحرية حقها من الإعلام الذي سلط الضوء عليها، وهو ما يحسب للناشطين الذين تمكنوا من لفت انتباه الإعلام وسط الحجم الهائل من الإبداعات التي تصدرها الانتفاضة السورية، حيث غطيت الحملة من قبل صحف و محطات إخبارية مثل فرانس 24 والجزيرة وغيرهما.
تؤكد حملة ميلاد الحرية على أن الشعب السوري مصمم على نيل حريته من جهة، وعلى محاربة كل الدعوات الهادفة إلى تشويه صورة انتفاضته، عبر التصميم الدائم على استعادة شعارات الانتفاضة الأولى، وكأن حملة ميلاد الحرية تقول: "واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد"، وهو من أوائل الشعارات التي رفعتها الانتفاضة حين انطلقت في الخامس عشر من آذار، مستعيدة بذلك جوهر الثورة وأخلاقيتها قبل أي شيء آخر.