كانت مدينة دير الزور الواقعة في شرق سوريا من أوائل المدن التي انتفضت بوجه الاستبداد بعد مدن درعا وبانياس وحمص، ولكن لأن المدنية بعيدة نسبيا عن المركز السوري وقعت أسيرة جغرافيتها التي جعلت من انتفاضتها الأقل تغطية إعلاميا بين زميلاتها من المدن السورية الأخرى.
و يعود هذا الأمر لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها البعد الجغرافي عن المدن السورية و خاصة مدن المركز ( دمشق – حلب) إضافة إلى توسطها في منطقة صحراوية وبعدها عن بلدان الجوار، أي أنها ليست منطقة حدودية كدرعا وحمص اللتين استطاعتا تغطية انتفاضتهما عبر تهريب المواد الإعلامية عبر الحدود لبلدان الجوار لتجد طريقها إلى الفضائيات، إضافة إلى سهولة دخول الإعلام الغربي والعربي إليها تهريبا عبر الحدود، وهو ما افتقدته مدينة دير الزور التي كان موقعها الجغرافي ظالما لها.
ويضاف لذلك قلة انتشار وسائل الاتصالات الحديثة بين أهالي المدنية في دير الزور وقلة خبرتهم باستعمال الأنترنت والنشاط المدني، إلا قلة من الناشطين التي أخذت على عاتقها القيام بالمهمة دون أن تتمكن من تغطية النشاطات بشكل كامل.
هذا الأمر خلق حسرة كبيرة عند عدد من الناشطين المنتمين للمدينة الذين كانوا يفعلون فعلهم بشكل يومي لحض زملائهم الناشطين في المدن الأخرى لنقل أخبار مدينتهم و إيصالها للإعلام، وهذا ما كان يفعله بشكل يومي الناشط الروائي عبد الناصر العايد حين يكتب على صفحته على الفيسبوك أخبار مدينته طالبا من الآخرين نقلها دون جدوى، الأمر الذي دفعه فعلا للكتابة أكثر من مرة كلاما يدين هذا الإعلام الذي يعمل وفق أجندته فقط ضاربا بأحلام السوريين عرض الحائط. هذا التعتيم الإعلامي على المدينة، دفع العايد لمغادرة المدينة هربا إلى تركيا، حاملا معه العديد من الفيديوهات والصور والمعلومات لكي يتمكن من نقل معلومات الانتفاضة في مدينته والعسف الذي تتعرض له للإعلام.
أمام هذا الواقع الذي تعرضت له بعض المدن السورية، قام بعض الناشطين بإطلاق حملة المدن المنسية إعلاميا، وذلك للرد على الإعلام الذي يرفض نقل أخبار تلك المدن من جهة، ولإعطاء تلك المدن حقها من التغطية الإعلامية من جهة أخرى، بحيث بات الناشطون العاملون في تلك الحملة يركزون على تلك المدن ويساهمون في إيصال أخبارها إلى المدن الأخرى وإلى الإعلام خاصة.
ولكن الحملة السابقة لم تنجح على نطاق كبير، و إن كانت تقدمت خطوة على صعيد تقديم تلك المدن ونشر أخبارها، الأمر الذي دفع أهالي مدينة دير الزور وناشطيها إلى الاعتماد على أنفسهم عبر ابتكار وسائل خاصة بهم تساهم في كسر التعتيم الإعلامي على مدينتهم، ومن أهم هذه الوسائل والتي نجحت فعلا وتميزت في فرض نفسها على صفحات الناشطين هي صفحة "كرتونة من دير الزور"، بهدف "رفع التعتيم على الحالة المدنية للمدينة، والعمل على إظهار هذا الجانب، والتركيز على الدور الرئيسي للمدنيين حتى بعد أن توجهت الثورة للتسليح"، كما يقول المشرفون على هذا المشروع ( في حوار أجراه موقعنا معهم) الذي تمكن من فرض نفسه، بحيث باتت ما تنجزه الصفحة محط إعجاب الكثيرين، وباتت " إنجازاتها/ كرتوناتها تتنقل بين صفحات الناشطين حتى أن بعضهم اتخذ منها خلفية دائمة لصفحته.
الصفحة التي تجعل من صورتها الرئيسية موضواعا يحاكي الساخن المطروح في اللحظة الراهنة، فمرة يكون كرتونة تعلن تضامنها مع المعتقلين، ومرة كرتونة مرسوم عليها خريطة سوريا بطريقة تشي طريقة رسمها بأنها رسمت على عجل، كأي كرتونة يرسمها طفل ثم يرميها، تعبر عن سرعة اللحظة السورية المتدفقة، لحظة لا مكان فيها للتأمل أو التوقف، لأن الزمن السوري المتسارع لا يستطيع التوقف لالتقاط الأنفاس الموزعة بين شهيد و معتقل وجريح، حيث يقول فريق العمل أن الفكرة ولدت "بعد الاجتياح الثاني لمدينة ديرالزور من قبل الجيش النظامي بتاريخ 22-6-2012، وفرض الحصار الخانق الذي ما زال مستمراً حتى اليوم. وبعد شهر تقريباً من الحصار خطر لنا أن نجد طريقة لرفع التهميش والتعتيم الإعلامي الحاصل للمدينة ، فكان الاقتراح هو بسبورة (لوح مدرسي) أو ما يشبهها، وما يعطي الإحساس بالصف المدرسي والطبشور وهو ما قادنا بالنهاية إلى فكرة كرتونة سوداء كمساحة مفتوحة للأمل والحب رغم لونها الأسود".
وفي المعلومات عن الصفحة نجد أن الجوائز التي نالتها الصفحة هي:" نرفض أي مادة تدعو إلى الطائفية أو تحرض عليها"، وهو ما يدل على وعي مدني سيتجلى في كل الكراتين المرفوعة في الصفحة، والتي ترفض الطائفية من أي جهة كاتت كما في تلك الكرتونة الموجهة للأخضر الإبراهيمي والتي كتب عليها "هكذا يريدونها لا للعزل" للفنان سعد ربيع.
وفي سبيل تفاعلها مع الآخرين كتبت الصفحة: "نرحب بكراتينكم المرفوعة مهما احتوت من فنون شرط أن لا تدعو للطائفية, نرحب برسوم الأطفال وندعم نشرها".
وأما المواضيع التي تبنتها الصفحة عبر الكرتونة فتنوعت من الاهتمام بالمعتقلين ونشر أسمائهم ومهنهم ومكان إقامتهم التي غالبا ما تمهر بكلمة ( معتقل) والعلامة المميزة: (سوري)، وكل هذا بهدف إبقاء قضيتهم حية والمطالبة بإطلاق سراحهم.
الملاحظ هنا أن اهتمام الكرتونة لم يتوقف على مدينة دير الزور فقط، رغم ما عانته المدينة من جحف إعلامي، بل جعلت قضيتها كل السوريين، وهذا ما يدل عليه الشعار المرفوع على الكرتونة حين قصفت منطقة الحجر الأسود في دمشق: "حجرنا الأسود صار أحمر فلتبك ياجولان"، وهو شعار يدل على وحدة السوريين من دير الزور حتى الحجر الأسود مرورا بالجولان المحتل من قبل الإسرائيليين.
ولعل من أهم الشعارات التي رفعتها كراتين دير الزور " مدنيون رغم كل هذا السلاح"، فهذا الشعار يأتي ليؤكد أن السوريين اضطروا لاستخدام العنف تحت وقع الدفاع عن النفس، وأن كل هذا العنف لا يغطي على جوهر انتفاضتهم السلمية والمدنية واللاعنفية، فالشعار يأتي ليؤكد أن جذوة الثورة سلمية ومدنية، وأن هذا العنف ليس إلا عارضا عابرا زائلا، وهو ما عبروا عنه بالقول" الهدف الرئيسي من الصفحة هو رفع التعتيم على الحالة المدنية للمدينة، والعمل على إظهار هذا الجانب، والتركيز على الدور الرئيسي للمدنيين حتى بعد أن توجهت الثورة للتسليح، ولكن قناعتنا الثابتة أن المدنيين هم الحاضن الرئيسي للحراك،لذلك كان علينا أن نصمد في المدينة لندافع عن أفكارنا وما ثرنا من أجله".
وردا على تجاهل الإعلام أحيانا لمعاناتهم وأخبارهم في دير الزور كتب على أحد الكرتونات: " إلى كل فضائيات وصحف الكون: كل سوري وثيقة والدكتاتورية خبر"، وهي عبارة تحمل من المعاني والذكاء الكثير، عدا عن جماليتها وقدرتها على التأثير إلى درجة أن العديد من الناشطين تناقلوا الكرتونة على صفحاتهم وبعضهم جعل منها خلفية لصفحته.
وتواصلت الكرتونة مع عدد كبير من الفنانين والسوريين في الخارج الذين قدموا لها إبداعاتهم أعربوا عن تضامنها معهم، حيث شارك الفنان سعد ربيع بلوحة والفنان محمد عمران بلوحة " قافلة جديدة من الشهداء" والفنانة فرح حطاب بلوحة "حبيبتي والمجزرة" وشاركت إحدى المغتربات بلوحة جميلة "لسنا معكم بأجسادنا ولكن قلوبنا معكم".
لإنجاز عملهم بشكل أفضل يتعاون الفريق المكون حاليا من ثلاثة أشخاص بقوا ضمن المدينة بعد أن وصل عددهم سابقا إلى 31 ناشط، مع صفحات ومجموعات وتنسيقيات أخرى، منها "تجمع أمارجي" و "تنسيقية شباب الثورة بدير الزور" و "ثلاثاء أحرار سوريا " وتعاوننا يكون في دعم ما هو مدني من حملات وتظاهرات أو لافتات، وتخصيص أيام لأحداث معينة يتفق عليها سابقاً، مثل أسبوع المعتقلين، أو رفع الحصار عن حمص القديمة، أو حملة لا للتخوين وغيرها" .
أهم ما في قصة " كرتونة من دير الزور" أنها أثبتت أنه بوسائل بسيطة جدا ليست أكثر من كرتونة وقلم حبر تمكن أهالي المدنية من فضح الدكتاتورية و كسر الاحتكار الإعلامي المفروض على مدينتهم، مؤكدين أن ثورتهم سلمية ومدنية رغم كل هذا العنف والدمار الذي لم يجعلهم يشكون يوما بولادة "سوريا جديدة".