السوريون يطردون أسماء الأسد من شوارعهم


07 شباط 2013

يحكى أن الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط قال في أحد جلساته العامة، حين سئل إن كان سيذهب لحضور افتتاح دار الأسد للثقافة والفنون، أن " بيت الأسد صار عندن حارة هونيك". وقتها تهامس الحاضرون فيما بينهم بما قاله الماغوط جهرا، و تناقلوه سرا في مجالسهم الخاصة فيما بعد، خوفا من سلطة باطشة، حيث كانت ثقافة الخوف لا تزال تسري في أعماق الناس وأرواحهم، وكان ينطبق على سوريا آنذاك لقب "مملكة الصمت" كما قال المعارض الشهير رياض الترك.

كان الماغوط في عبارته تلك، يحتج بشكل غير مباشر على احتلال السلطة السورية لكل الفضاء العام في البلد، وعلى ظاهرة تسمية المرافق العامة باسم الرئيس أو أبنائه، إذ عمدت السلطة منذ تثبيت أركانها في الحكم خاصة بعد أحداث الثمانيات، بالعمل على نشر التماثيل في كافة أرجاء البلاد وساحاتها وإطلاق تسميات الرئيس السابق حافظ الأسد وأبنائه على المدارس والمشافي والجامعات والبحيرات والشوارع والجسور و المكتبات وأغلفة الدفاتر المدرسية، بغية زرع الخوف في كل مكان، وبغية وضع المواطنين السوريين في أجواء تقترب مما وصفه جورج أوريل في رواية 1984.

صورة لغلاف دفتر مدرسي في المدارس السورية ... المصدر غير معروف
صورة لغلاف دفتر مدرسي في المدارس السورية ... المصدر غير معروف ","title":"..... EN

ولأن الجمهور السوري المتعطش للحرية كان يدرك مدى ما ترمز إليه هذه التماثيل والأسماء والرموز، كان أول ما فعله بعد بدء الثورة في الخامس عشر من آذار 2011 أن بدأ بعملية تحطيم التماثيل و تمزيق الصور إزالتها  من الساحات والأماكن العامة، في مرحلة أولى، إلى أن بدأ في مرحلة ثانية بإزالة كل آثار عدوان السلطة على المجتمع، حيث عمد الناشطون السوريون المنخرطون في فعاليات الثورة إلى ابتكار أساليب نضال سلمية ومدنية للتخلص من كل هذه الآثار والعمل على إعادة الحياة إلى طبيعتها بعيدا عما فرضته سلطة الاستبداد.

وكان من أهم الأشياء التي عمد الناشطون على تغييرها، أسماء الشوارع والساحات والمدارس والمشافي التي كانت سابقا تسمى بأسماء الأسد في الغالبية العظمى منها، سواء نسبة للأب المؤسس أو للابن باسل بعد وفاته، أو بأسماء لها علاقة بمفردات السلطة الأثيرة مثل البعث والثامن من آذار والثورة ( نسبة لانقلاب الثامن من آذار عام 1963 التي أسموه ثورة!) وكل ماله علاقة بفضاء السلطة الشمولي، حيث أطقلت مجموعة أيام الحرية حملة لتغيير أسماء الشوارع تحت اسم حملة استرداد أسماء الشوارع، مطلقة برومو يشرح الهدف من الفكرة ومعناها، لتحريض الناس للبدء بعملية تغيير الأسماء التي بدأ الناشطون بتطبيقها، إذ أقدموا على مسح أسماء الشوارع القديمة ووضع لافتات جديدة تشير إلى أسماء جديدة، عدا عن إطلاقهم صفحات على الفيسبوك تهدف إلى نشر الأسماء الجديدة ودعوة الناس للمشاركة والانخراط بفعالية بإطلاق أسماء جديدة على شوارعهم ومدارسهم، مثل صفحة "شارك معنا في اختيار أسماء شوارع ومعالم حمص مابعد الثورة" على الفيسبوك.

و كان يهدف الناشطون من ذلك إلى توسيع نطاق الحملة في كل أنحاء سوريا، لكسر حاجز الخوف أمام الجماهير التي لم تتجرأ بعد على تجاوز محرمات السلطة من جهة، ولكسر احتكار السلطة وتحديها، لأن نزع سلطتها/ فضائها الرمزي هذا، يشكل اللبنة الأولى في عملية نزع سلطتها الفعلية، ويساهم في تحريض الناس وتشجيعهم، لأنه يثبت عجز السلطة وعدم قدرتها على منع هذه النشاطات ووأدها.

 هكذا انطلقت معركة من نوع آخر، بين أجهزة الأمن والناشطون، معركة كر وفر، إذ كلما أقدم الناشطون على تغيير اسم شارع ووضعوا لافتة له، تعمد الأجهزة الأمنية إلى إعادة الاسم القديم، ليعود الناشطون ويعيدوا اسمهم المقترح، وهكذا دواليك. وكان لهذا النشاط أهمية أخرى هامة، إذ تمكن الناشطون من تشتيت عمل أجهزة الأمن، حيث كانت الأجهزة الأمنية وعناصرها متفرغون لقمع التظاهرات، فأدت هذه النشاطات المجانبة للتظاهر إلى جعل الأجهزة تخصص بعض عناصرها لملاحقة هؤلاء وإعادة أسماء الشوارع، مما ساهم في إرهاق الأجهزة الأمنية، وتخفيف فعاليتها في قمع التظاهرات.

ولكي تحدث خطوات الناشطين تلك أكبر قدر ممكن من التأثير، عمد هؤلاء إلى تصوير نشاطاتهم وهم يقومون بتغيير أسماء الشوارع ووضع لافتات بأسماء جديدة  في دمشق ( برزة، القابون، ركن الدين، المزة، مشروع دمر) وحلب ( الغزالي، الفرقان، سيف الدولة، الحمدانية..) والحسكة، مع سعي واضح من قبلهم لنشرها وتعميمها الكترونيا، وعبر وسائل الإعلام كي تتحول إلى مسألة رأي عام وتصبح في متناول الجميع، مثل تغيير اسم شارع الثورة وسط العاصمة دمشق إلى اسم شارع الاتحاد العربي، وتغيير اسم شارع المعضمية في مدينة درايا ليصبح شارع الشهيد غياث مطر، حيث يقول أحد الناشطين من مدينة داريا في حوار لموقعنا: "في بداية الثورة أستشهد عدد قليل من النشطين السلميين على أيدي أجهزة الأمن السورية فقام بعض الشباب بالاتفاق تسمية شارع كبير في داريا أسمه شارع المعضمية باسم شارع غياث مطر تخليداً له و ثم استشهد الناشط طالب السمرة ( أبو صلاح ) تحت التعذيب لأنه قام بتحطيم تمثال باسل الأسد أخ الرئيس بسار الأسد فقام بعض الناشطون بتغير أسم دوار الباسل إلى دورا أبو صلاح تكريماً له ة تخليداً لذكراه".

صورة توضح تغير اسم احد الشوارع في مدينة دمشق إلى اسم الشهيد غياث مطر
صورة توضح تغير اسم احد الشوارع في مدينة دمشق إلى اسم الشهيد غياث مطر

كما عمد الناشطون إلى تنظيم حملة شاملة في يوم واحد مثلا، تستهدف نزع أسماء الشوارع القديمة ووضع الأسماء الجديدة في أكبر قدر ممكن من الشوارع، كما حدث في يوم الخميس 1/12/2011، حيث تم تغيير أسماء الشوارع في العديد من مناطق دمشق و منها برزة و مشروع دمر و الميدان و الصالحية و ركن الدين و داريا و القدم و القابون و زملكا، إضافة إلى قيام الناشطين بوضع ملصقات على الإعلانات الطرقية ضمن حملة إسترداد الشوارع، حيث يظهر  الملصق رقعة شطرنج تدل على إنتصار البيادق على الملك و حاشيته، في دلالة واضحة على انتصار الشعب على النظام.

وأما البداية:

يختلف الناشطون السوريون حول لحظة ولادة الفكرة، وكيفية ولادتها، بين من يرى أنها جاءت بمبادرة خاصة من الناشطين، أم أنها جاءت بوحي من حادثة حصلت أثناء اتصال أحد ناشطي مدينة حمص مع قناة الجزيرة القطرية، حيث قال الناشط للمذيعة أن القصف على "أبو موزة"، وهي كلمة تعني أن القصف شديد ومكثف، إلا أن المذيعة ظنت أن "أبو موزة" اسم لمكان، فسألته على الهواء مباشرة: أين يقع أبو موزة؟ فما كان من ناشطي مدينة حمص المعروف عن أهلها حبهم للنكتة واختراعهم إياها، أن أطلقوا على الدوار الذي كان يتحدث منه الناشط، اسم دوار أبو موزة، بدلا من دوار الرئيس حافظ الأسد، ليتلقف الناشطون الفكرة، مطلقين صفحة باسم " معا لتسمية معاً لتسمية دوار الرئيس بحمص دوار أبو موزي"، ويبدؤون بالعمل عليها، حيث أطلق الناشطون صورا وبروشورات للدوار المعني بعد أن أزالو تمثال الأسد الأب ووضعوا مكانه موزة لها رأس الأسد (الصورة الرئيسية)، لتبدأ التجربة تعمم في كل مدن سوريا،  خاصة في المدن التي تمددت فيها الثورة وتجذرت، وكذلك في العاصمة دمشق، حيث أطلق الناشطون اسم جسر ابراهيم القاشوش على جسر الرئيس الأسد في وسط العاصمة دمشق، و كذلك أصبح اسم شارع الثامن من آذار في وسط مدينة اللاذقية باسم ثورة الخامس عشر من آذار، و اسم مكتبة الأسد التي أصبحت المكتبة الوطنية، أو مكتبة الشام كما يسميها آخرون. وهنا من الجدير ذكره أن نلفت أن ثمة تداولا لأكثر من اسم جديد لنفس الموقع، فأحيانا يكون لمكان واحد أكثر من اسم، فمثلا البعض من الناشطين يطلق اسم العميد المنشق حسين هرموش على جسر الرئيس والبعض الآخر يطلق عليه اسم المغني ابراهيم قاشوش، والأمر سيتكرر لدى أكثر من مكان، وهو يشير إلى تعدد جماعات الناشطين التي تعمل على هذا الموضوع، وعدم وجود تنسيق فيما بينها أحيانا، إذ يقول ناشط من داريا "بشكل عام كان الموضوع محلي لكن تنسيقية داريا كانت تنشر الموضوع على صفحتها على الأنترنيت، و تقوم باقي التنسيقيات باعتماد الاسم الجديد"  وربما يكون الأمر ناتجا عن سبب طرح الأمر للتصويت في بعض الصفحات، فيقوم البعض بتداول الاسم الذي يريد قبل أن يعلن المسؤولون عن الصفحة نتائج التصويت!

وإلى جانب التسميات التي يطلقها الثوار من وحي الثورة، بحيث يختارون لها أسماء شهدائهم ونشاطائهم الذين مازالوا في السجون، بحيث يكون لها دور تحفيزي للجماهير من جهة، ومغيظ لأجهزة الأمن من جهة ثانية، إلا أن ثمة تسميات تدخل القاموس السوري من باب أحداث بعينها، بعضها يرتبط بما هو مبهج وسعيد، وبعضها يرتبط بما هو محزن ومؤلم، فمثلا تغير اسم شارع الستين في مدينة حمص إلى شارع الموت، حيث تقول الناشطة والممثلة فدوى سليمان: " وانطلقت الدراجة بنا كالسهم مجتازة شارع الستين، أو شارع الموت كما يسميه الناس منذ أن تزايد حجم الموت فيه، فهذا الشارع الفاصل بين الخالدية والبياضة مليء بالحواجز، وبين الحاجز والحاجز يفتح الله ما شاء من أبواب الموت وتفتح الحياة ما شاءت من أبواب حقيقتها".
وهناك تسميات ساخرة يطلقها الناشطون على بعض المدن بسبب تأييدها للنظام، أو بسبب وجود نسبة كبيرة من المؤيدين فيها، حيث يطلق البعض على ضاحية الأسد الواقعة بالقرب من مدينة حرستا اسم "ضاحية المنحبكجية"، نسبة لمؤيدي الرئيس الذين يرتدون كنزات بيضاء مرسوم على صدرها صورة للرئيس وتحتها كلمة منحبك.

المعركة تنتقل إلى الإعلام و أروقة الأمم المتحدة:

ما سبق أدى إلى نشوب معركة معلنة بين النظام وأجهزته من جهة والناشطون السلميون من جهة أخرى، لتغيير كل الأسماء، حملة وصلت إلى الإعلام بشقيه الموالي والمعارض، حيث باتت أجهزة الإعلام الموالية للثورة تنشر تقارير عن عمل الناشطين في هذا المجال وتروج لأسمائهم الجديدة، بحيث حظي هذا النشاط بمتابعة وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها، وكتب عنه العديد من التقارير الصحفية في أهم الصحف العربية والأجنبية، وهو أمر يشير إلى نجاح الناشطين في تحويل الأمر إلى قضية رأي عام، وهو الأمر الذي أغاظ الأجهزة الأمنية التي أوعزت إلى  أجهزة الإعلام الموالية للسلطة بشن حملة ضد تغيير أسماء الشوارع، حيث جندت السلطة قناة الدنيا الخاصة للرد على ذلك كما في هذا الفيديو المأخوذ من قناة الدنيا.

إلا أن أهم ما يمكن قوله أن الناشطين تمكنوا من تسجيل سبق على مستوى العالم لم يسبقهم إليه أحد، حيث قاموا باستخدام برنامج على "غوغل" يسمى "ماب ميكر" بهدف إعادة تسمية الشوارع الرئيسية، مستخدمين أحدث صيحة في الجهود المبذولة لاستخدام ما يسمى بتقنيات "التعهيد الجماعي" أي الاستعانة بالجماهير بغية الحصول على معلومات، للترويج لوجهات النظر السياسية. وهذا الأمر دفع ستيفان جينس، وهو صاحب مدونة "غوغل إيرث" إلى القول أن "الثورة السورية تعد الأولى التي يقوم خلالها النشطاء باستخدام برامج للخرائط على الإنترنت لإعادة كتابة التاريخ".

وأدى نشاط الناشطين هذا إلى تغير الأسماء على "غوغل" بمرور الوقت، حيث تم تحديث الخرائط بمقترحات من جانب المستخدمين بعد موافقة مستخدمين آخرين ومحرري "غوغل". وفي البحث سنجد أن الأسماء الموجودة على "غوغل مابس" في بعض الأحيان تختلف عن الأسماء الموجودة على برنامج "غوغل إيرث"، حيث أن مقارنة خريطة على "غوغل" لمدينة اللاذقية مع خريطة على موقع "أوبن ستريت ماب" لنفس المدينة، سنجد أن كل منهما يظهر شارع 8 آذار، ولكن خريطة "غوغل" تظهر أيضا 15 آذار، مشيرة إلى الاسم الذي أطلقه الثوار على الشارع.

وكان هذا الأمر نقلة نوعية في نشاط الثوار السلميين، وهو ما دفع مندوب سوريا في الأمم المتحدة للاعتراض على هذا الأمر في كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بشار الجعفري، حيث قال: "ما علاقة (غوغل) بأسماء الشوارع في القرى والمدن السورية الصغيرة؟ يعد هذا انتهاكا صارخا للجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرار جامعة الدول العربية بتوحيد الأسماء الجغرافية"، متهما الموقع بالتورط في مؤامرة ضد سوريا!

في النهاية يمكن القول، أن حملة الناشطين السوريين في تغيير أسماء الشوارع والمدن والمشافي، كانت من النشاطات السلمية الناجحة في تحقيق أهدافها، إذ هتكت الفضاء الرمزي للسلطة، وكانت عامل من عوامل تقويضها، بأقل الأثمان الممكنة.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد