احتفالية الشارع: "سكود" ينبت حرية وأملا وألوانا


12 آذار 2013

ربما، لم يكن يتوقع منظمو احتفالية الشارع السوري أن يتجاوز احتفائهم بالذكرى السنوية الثانية للثورة معناه الاحتفائي إلى معنى  وجودي عام، يُخرج من قلوب السوريين وأرواحهم أجمل ما فيهم في لحظة يحكمها اليأس والقنوط، مسلّطا بذلك الضوء على أسطورة شعب إن أراد الحياة امتلك إرادة "كن فيكون" , من قلب الخراب والتدمير تخرج أيقونة الحياة حرة. من قلب البيوت المدمرة بصواريخ سكود، ومن بقايا الجدران المقصوفة بطائرات توزع الموت على القرى والمدن كما لو في نزهة في جهنم، ومن بقايا الأرض التي أتخمت بدم السوريين وفوراغ الرصاص يخلد السوريون أسطورتهم، إذ سيكتب التاريخ يوما: أن ثمة شعب صنع من آلة تدميره أملا ورسوما: ومن جدرانه المهدمة معارض فنية: ومن أنهاره ساعي بريد تنقل آلامه للعالم الصامت على موته: ومع ذلك بقي ينشد الحياة ما استطاع إليها سبيلا.

سيكتب التاريخ: أن ثمة شعب كان يفكر بتأليه الطفولة والسعادة في أحلك الظروف الإنسانية، مصمما على انتزاع الحب والحياة من براثن الطائرة والدبابة والرصاصة وكل مستحضرات الموت، ومؤكدا المرة تلو المرة أنه يطلب الحياة والكرامة، لا الموت والمذلة.

 هذه أهم رسالة تقدمها التنسيقيات والتجمعات والناشطون والتيارات السياسية التي شاركت في إحياء احتفالية الشارع بالذكرى السنوية الثانية للانتفاضة السورية والتي استمرت من الخامس عشر من آذار (2013) وحتى الثاني والعشرين منه، عبر سلسلة من الحملات التي تضمنت رسوما وغرافيتي ومعارض تشكيلية ومهرجانات سينمائية توزعت على ثلاثة أماكن: المناطق المحررة والمناطق التي لا تزال تحت سيطرة النظام والخارج بما فيه مخيمات لجوء السوريين، إذ كان لكل مكان النشاطات التي تتلاءم مع طبيعته ودرجة الأمان.

معنى الاحتفالية فاض عن كونها مجرد احتفالية وعلى كون الثورة ضد الاستبداد و كسر أيام العبودية فحسب، بل جاءت لتؤكد قدرة السوريين على تنظيم حياتهم ورسمها من جديد، وهو ما تعكسه نشاطات الاحتفالية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام في الرقة و الباب وحلب وتلبيسة وسراقب وتل أبيض ، حيث ثمة رغبة عارمة بالفرح للخلاص من الدكتاتورية تقابلها رغبة بالبناء والعمل وإصلاح المدمر وبنائه من جديد، وكأننا أمام سيزيف الذي لم يمل من دحرجة الصخرة إلى أعلى الجبل، فكلما رسم السوريون جدرانهم ولونوها تقصفها الصواريخ من بعيد، ليعيدوا التلوين والرسم والكتابة مكان سقوط الصاروخ" الحرية لا بد منها" في إصرار يتحدى المستحيل ذاته، ويؤكد عجز آلة الموت أمامهم، بما يشبه ظهور نبتة الحياة في صحراء قاحلة، سيرعاها السوريون ليحولوها إلى واحة حرية وحب كما يحلمون.

غرافتي على بناء مدمر من القصف ضمن إحتفالية الشارع ... المصدر صفحة الشارع للتنمية و الإعلام على الفيس بوك
غرافتي على بناء مدمر من القصف ضمن إحتفالية الشارع ... المصدر صفحة الشارع للتنمية و الإعلام على الفيس بوك

كان للسينما حصة كبيرة في نشاطات الاحتفالية التي أقامت مهرجانا سينمائيا في مدينة الرقة ومدن أخرى بدءا من جرابلس والباب وسراقب و ليس انتهاء باسطنبول والسويد وروما، حيث تعاونت إدارة الاحتفالية مع عدد من وسائل الإعلام لتقديم أفلام أنتجها السوريون وهم يقاومون الموت وبعضهم استشهد بينما يحمل آلة تصويره التي توثق همجية الاستبداد، كحال السينمائي باسل شحادة الذي قدمت الاحتفالية فيلمه الذي كان يعمل عليه أثناء استشهاده: "شوارعنا...احتفالية الحرية"، الذي يصور شهادات لناشطين عايشوا لحظات مهمة في تاريخ السنة الأولى من الانتفاضة.

ومن نشاطات الحملة الهامة دعوة الأطفال لرسم لوحات دون تدخل من الكبار، ليعبروا عن كل ما يخطر ببالهم، ليعاد وضع الرسوم على قماشة كبيرة تحمل اسم " قماشة الحرية"، في خطوة تعكس مدى الاهتمام بالطفولة من جهة، ومدى الإيمان بأن البناء يبدأ من هنا، عبر الاستثمار بالإنسان الذي أهمله الاستبداد، في خطوة تعكس أن الانتفاضة  هي هدم للاستبداد من جهة، وبناء وعمل وتراكم من جهة ثانية.

إلا أن حملة " الحرية ... لا بد منها" التي خصها الفنان السوري منير الشعراني بواحدة من أجمل لوحاته، تبقى هي الأهم والأكثر قدرة على التعبير عن هذا النشاط، لأنها تحمل دلالات متعددة: فكرية، وتعبوية نضالية، وبناء وأمل. فعلى المستوى الفكري تأتي الحملة "لاستعادة الفضاء العام الذي سرق من المجتمع السوري مرتين: على يد النظام الذي هيمن على المجتمع من خلال تماثيل حافظ الأسد وصوره وأقواله في الشوارع والساحات والأسواق والبيوت، واليوم على يد الكتائب العسكرية في سوريا من خلال ما تكتبه على جدران المناطق المحررة "جبهة النصرة مثلاً"، وفرض أعلامهم في الشوارع والمظاهرات"، ليغدو النضال محددا ضد قوتي الاستبداد والثورة المضادة في آن، وهو ما يعكس وعي السوريين والقائمين على الحملة على صعوبة معركتهم من جهة وتصميمهم على خوضها من جهة ثانية، وهو ما تجلى فعليا في الدلالة الثانية ( التعبوية، النضالية) حيث قام النشطاء بالإعداد لحملتهم جيدا وتحريض الناس عبر الإعلام بهدف دفع الناس للمشاركة، بهدف الوصول للدلالة الثالثة التي تمثلت بتلوين الجدران و كتابة " الحرية لا بد منها" ليس على الجدران التي هدمها الاستبداد فحسب بل أيضا على مقرات جماعة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"  إذ كتب الناشطون " حي على الشارع" على باب المركز، في تأكيد أن من أسقط الاستبداد البعثي لن يقبل بأي استبداد آخر، وأن من يجعل الجدران المهدمة معارض فنية تنطق بالحب والأمل والحرية والمستقبل الواعد لن يعجز عن إسقاط أي شيء، وأن من يجعل من نهر الفرات في جرابلس ساعي بريد حين تخذله التكنولوجيا ليبث أشواقه ورسائله إلى المدن الأخرى عبر شموع تسبح في نهر شبع من دم السوريين، لاشك أنه سينتصر، ولاشك أنه يمتلك من الدهاء والمحبة والقدرة على الإبداع ما يفيض على انتفاضات لاحقة.

 

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد