"خرجت مظاهرة من الخشب والقماش في مدينة داريا بريف دمشق، تطالب بإسقاط النظام ومحاسبة الرئيس الأسد"، "حتى فزاعاتنا خرجت نصرة لثورتنا"، " قوات الأمن تطلق النار على رجال من خشب يتظاهرون في داريا"...
العنوان أعلاه، والعبارات السابقة ليس نكتة أو سخرية أو مادة للضحك، بل حقيقة جرت في سوريا في يوم الرابع عشر من تموز 2012 ضمن نشاطات الانتفاضة السورية ضد نظام القمع، حيث تظاهرت مجموعة من "الفزّاعات" وهي تحمل لافتات مناهضة للنظام، كتلك التي يحملها المتظاهرون في تظاهراتهم العادية، ليسجل السوريون أحدث الابتكارات المدنية و السلمية التي تخترق حاجز القمع والعنف الوحشي الذي حاول النظام فرضه على النشاط السلمي السوري من خلال دفعه الأمور نحو العسكرة.
الفزّاعة عند السوريين تعني رجل مصنوع من الخشب ويتم إلباسه بعض الثياب القديمة، ليظهر في المحصلة النهائية كرجل، يستخدم من قبل الفلاحين لوضعه في الحقول بهدف إخافة الحيوانات ومنعها من الاقتراب من المحاصيل، ومن هنا جاء اسمها "الفزّاعة" التي أعاد الناشطين نبشها من التراث الشعبي السوري، وإحيائها بهدف إخافة رجال الأمن الذين أرعبهم المنظر وأربكهم، والأهم أنه حيّد آلة قمعهم العمياء، فبدا رصاصهم المصوّب نحوها مهزوم سلفا، لأنه مصوّب نحو فكرة تتحداهم أكثر مما هو هدف عسكري ثابت كما في التظاهرات التي يسهل عليهم إيقاع الضرر بها.
ومن جهة ثانية، جاء إحياء الفزّاعة السورية وبث الحياة بها لتؤكد استمرارية النضال السلمي رغم كلّ القمع، إذ لم يترك الناشطون ذرّة فراغ تلوح وسط هذا العنف المنظم إلا واستغلّوها لتكون شاهدا على أن جوهر نضالهم هو سلمي، حيث يسعى أبناء مدينة الشهيد غياث مطر وصديقه المعتقل يحيى الشربجي وحاملي مشعلهم، للسير على دربهم في المدينة التي شهدت أجمل أساليب النضال السلمي، حتى باتت تجربة داريا مدرسة بحدّ ذاتها، لا تني تقدم الشهيد تلو الشهيد، إذ كان آخرهم الصحفي "محمد قريطم" مبتكر مظاهرة الفزّاعات تلك، حيث كتب رسالة لأمه متوّقعا اعتقاله فيها، إذ لم يكن يدرك أن الشهادة ستكون بانتظاره، حيث قال: "أنا على قناعة تامة بأنني سأسجن الآن، وسأحرم من حرارة الشمس ووضوح النهار وضوء القمر، قد أذل اليوم من أجل ألّا يذل أحد أبداً، سأقف خلف القضبان فلا يقف أحد خلفها، سأخاطر بحرّيتي فلا يسجن أحد بعد اليوم.. أعينيني أمي بدعائك، فقد اخترت حريتي وحريتكم".
وضمن نشاطهم اليومي في الانتفاضة، قام النشطاء في مدينة داريا بصنع مجموعة من الفزاعات التي تأخذ شكل إنسان، مراعين أن تكون الفزاعات ممثلة لكلّ الأعمار، وتم إلباسها ثياب متنوعة وحملّوها لافتات كتلك التي يحملها المتظاهرون في التظاهرات العادية، لتكون الناطق الرسمي باسمهم والمعبّر عن أحلامهم وطموحاتهم بعد أن ضاقت بهم سبل التعبير جرّاء العنف الوحشي والعسكرة التي دخلت بها الانتفاضة السورية، لتبدو كلّ فزّاعة وكأنّها رجل في قلب مظاهرة.
واختار النشطاء ساحة التربة في وسط مدينة داريا مكانا لتظاهرة الفزاعات تلك لهدفين اثنين: أوّلهما أن هذه الساحة كانت المكان الذي شهد تظاهراتهم الأولى في عزّ نشاطهم السلمي، فأرادوا أن تكون الخطوة تعبيرا رمزيا عن عودتهم للساحة التي منعتهم قوات النظام من التظاهر بها، حيث أرادوا للفزاعات أن تحقق حلمهم بالعودة إلى الساحة. وثانيا: لأن الساحة هي المكان المفضل لعناصر الأمن في كل اقتحام للمدينة، حيث يتمركزون وينتشرون فيها ويرهبون الناس، حيث تفاجأ رجال الأمن بوجود الفزاعات، فبدؤوا إطلاق الرصاص عليها بهدف تخريبها وتكسيرها، ليقوم النشطاء بعد رحيل أجهزة الأمن عن المدينة بإعادة ما بقي سليما منها أو "حيا" ( بلغة الناشطين) وإصلاحها وإعادتها إلى الساحة بهدف متابعة "نشاطها الثوري والنضالي" كما وصفوا الأمر.
ولعل المدقق في الشريط الذي يعرض التظاهرة سيلحظ إصرار الناشطين على أن تمثل الفزاعات كامل النسيج الوطني السوري من خلال تحميلها لافتات منسوبة لكافة الطوائف السورية، وهي تحمل لافتات مكتوب عليها شعارات مدنية مثل "الدولة المدنية حلمنا" و "الثورة أملنا" و " لا أريد أن أذبح، من حقي أن أتعلم"، عدا عن الشعارات التي تستصرخ ضمير العالم النائم كهذا الذي يظهر في بداية شريط الفيديو الذي يعرض التظاهرة " أوربا، أمريكا، أيها العالم، أي إنسانية وحضارة تدعون"، إضافة إلى تمثيل الفزاعات لكل الأعمار ( أطفال وكهول وشباب) والأجناس ( ذكورا وإناسا)، وكأن حال تلك الفزاعات تسعى (كحال المتظاهرين) لأن تنفي عن ثورتها صفة "الإسلامية" التي يحاول النظام وبعض الأطراف إلباسها إيّاها، مؤكدة المرّة تلو المرة أنهم مناضلون في سبيل إسقاط نظام دكتاتوري وبناء دولة مدينة بديلا عن نظام الاستبداد القائم.
ولعل أهم درس أرادت تظاهرة الفزاعات إيصاله للنظام المستبد هو ما قاله أحد النشطاء من أن "فكرة مظاهرة الفزاعات أو الأشخاص الخشبية هي طريقة جديدة للتظاهر، توصل رسالة أنّه لو لم يبقَ رجال ونساء في سوريا فسوف تخرج الشخوص الخشبية لتتظاهر ضد النظام وترفض سياساته"، وهو ما يعكس روح التحدي لشعب بات مصمما على بلوغ أهدافه مهما كانت التضحيات.
ورغم أن أحد أهداف الخطوة هو تحييد قوة النظام الأمنية التي وقفت عاجزة أمام الفزّاعات رغم إطلاق الرصاص عليها، إلا أن أجهزة الأمن الذي أدركت هزيمتها عمدت إلى تصعيد العقاب ضد سكان المدينة، فعمدت إلى قصفها مجددا بقذائف الهاون التي انطلقت من مطار المزة العسكري لتحطّ عشوائيا في أرجاء المدينة، وهو ما يعني في النهاية هزيمة السلطة التي لم تعد تملك إلا القصف من بعيد، رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه المتظاهرون لقاء كل ابتكار جديد.
وفعلا كانت تظاهرة الفزاعات خطوة مهمة في إطار تأصيل الحراك السلمي والتأكيد عليه، حيث تحدثت وسائل الإعلام عن الأمر و نشرت بعض التقارير المكتوبة والمرئية. ، وهو مالا يعكس قوة الحدث الذي فرض نفسه ليقول على لسان رجال من خشب: أن شعبا يملك هذه الروح الثائرة وهذه القدرة على الابتكار من الصعب أن يهزم.