يقطع رسام حوران عدة حواري وشوارع، مجتازا حواجز الأمن والجيش والقناصين المتربصين على أسطح الدوائر الحكومية، وهو يحمل رسومه الساخرة على موبايله الشخصي أو فلاشة، مخاطرا بحياته لأجل أن يصل إلى أحد البيوت السرية في درعا حيث يوجد "نت" كي يتمكن من إنزال رسومه على الصفحة التي خصصها لهذا الأمر، وحملت اسم "رسام حوارن الثائر"، محاولا من خلال الفن واللوحة والرسم إيصال صوت مهد الانتفاضة ( درعا)، بصورة غير تلك التي تكرسها وسائل الإعلام منذ انتشار السلاح، فللمدنية التي خطّ صبيتها شعارات الانتفاضة الأولى على جدران المدارس، نشاطات كثيرة غير السلاح الذي يطغى على كل شيء: نشاطات هي من البساطة والمدنية بحيث أنها تحفر عميقا في الراهن، وتؤسس لبناء مستقبل خال من العنف رغم قتامة اللحظة الراهنة، وكأنّ لسان حال مبدعو هذه النشاطات يقول: رغم كلّ هذا العنف: ثمّة لون يسطع خلف الدبابة، وثمّة قبلة لعاشقين أقوى من صوت الهاون، وثمة رسّام يقبض بريشته على لحظات صغيرة لشعب "يصعد إلى حريته باسما"، ساخراً من الدكتاتورية و العالم الميت وبلادة السياسيين وسلحفاة المعارضة.
يعمل رسّام حكايتنا في ظلّ ظروف قاهرة جدا، ليقدّم فناً "مغموس بالدم" على حدّ قوله، حيث انقطاع الكهرباء والقصف والدمار وقلة الإمكانيات والأدوات التي يصعب توافرها بسبب انقطاع المدينة عمّا حولها.. كلها معيقات تجعل من العمل صعبا ومرهقا وغير ناضج أحيانا، ورغم ذلك لابدّ من المقاومة، لإيصال الصوت، فهذه الظروف" لم تقف عائق أمام أيّ ناشط في الثورة لكن الأوضاع تزداد سوء (قصف، قنص، شوارع، طيران، معارك) مما أدّى أخيراً إلى انقطاع الكهرباء وانقطاع النت حيث الآن نستخدم الشبكة الأردنية، والتي توجد في بعض المناطق دون أخرى".
"رسّام حوران الثائر" أنشأ له أصدقائه هذه الصفحة إيماناً منهم بموهبته، ولتكون اللوحة لسان إعلامهم وناطقهم الشعبي، رغم قلّة الإمكانيات، حيث يرسم الفنان الشاب "بأدوات بسيطة: قلم رصاص، وقلم حبر و ألوان، ويتم تصوير الرسّمة بواسطة موبايل عادي"، ليتم نشرها لاحقاً على الصفحة، حين يهدأ القصف.
بدأت علاقته مع الثورة منذ يومها الأول، حيث كان موجودا " منذ اليوم الأول، وشاركت أمام المسجد العمري، بل وكنت أنتظر هذا اليوم مثلي مثل الآخرين"، حيث كان أول عمل له في الانتفاضة إلى جانب التظاهر "كتابة الافتات، بشكل سري تام، وكان الأمر لا يتعدّى بمعرفته ثلاثة أشخاص، وكان يتم توزيع اللافتات على المتظاهرين من قبل شخص مطلوب للأمن، أما الصعوبات التي كانت تواجهنا ذاك الوقت هي الاقتحامات والملاحقات الأمنية والمداهمات للمنازل، فكنا نضطر إلى تغيير أماكن العمل من مكان الى آخر، ونمحي أي أثر للعمل من أقلام خط ودهان وكراتين والقماش، ونضطر إلى وضع تلك المواد في الوادي القريب من الحي بين الأشجار أو بعض الثغور الصغيرة".
ظلّ الرسّام يخطّط لافتات المظاهرات لفترة طويلة مع أصدقائه، إلى أن رسم أوّل لوحة له في ظل الانتفاضة، حيث جسّد سقوط النظام بشخصيات كرتونية تمثّل مظاهرة يقودها أطفال صغار، تيمّناً بأطفال درعا الذين أطلّقوا شرّارة الانتفاضة الأولى.
تقوم لوحة الفنان على السخرية من شخصيات النظام وأركانه، حيث تصوّر لوحاته الكاريكاتورية: رأس النظام ومنحبّكجيته ووزرائه وإعلامه ورجال دين السلطة، مظهرا إياهم في حالات ساخرة، ومفنّدا بلوحته والكلام المرافق لها أحيانا تبريرات هؤلاء في الدفاع عن السلطة، كما في لوحته التي تسخر من الحل السياسي الذي يدعو له النظام، إذ يرسم بساطا يمثل الحل السياسي وتحته صاروخ سكود، مرفقا بعبارة " عجبا..؟! لمن يرى الحل السياسي ولا يرى صواريخ سكود"، دون أن تنسى لوحاته السخرية من المجتمع الدولي الصامت والأخضر الإبراهيمي و الموقف الروسي، وكل حديث سياسي يصب في خدمة الدكتاتورية ضداً من الانتفاضة.
"رسام حوران الثائر" هو انجاز انتفاضة أبت إلا أن تلد الجمال من رحم العنف، إذ بمجرد بدء الانتفاضة ضد الاستبداد بدأت دواخل السوريين بالتفتح لتنتج ما حرمه الاستبداد من ولادة طبيعية، وما رسوم وخطوط الرسام إلا واحدة منها، وهي رسوم تجمع بين طفولة الخط والإبداع الذي لم يزل في طور التعلّم وبين يقينية الوعي السياسي الذي أنضجته الثورة، إذ يبدو واضحا في اللوحات ارتباك اللحظة الأولى بالرسم الذي يعكس خلفه تصميم وإرادة صلبة تريد أن تقول شيئا، وتخاطر بكلّ شيء لأجل أن تقوله، ولهذا جمع لقبه بين "الرسام" و"الثائر" في جدلية تريد أن تتحرر من لحظية الانتفاضة باتجاه خلود الفن، لكن بشرط الانغماس في الواقع والتلوث به حد نقل أوجاع الناس وجروحهم وبكائهم وسخريتهم وخذلانهم وضعفهم وقوتهم.
الرسام الذي لم يزل مؤمنا بالسلمية يسعى مع رفاقه لتنظيم التظاهرات بين نوبات القصف والاقتحامات والمعارك. يقول: " قدمت بعض الرسومات في المظاهرات لكن القصف حال دون رسم المزيد فقد بدأت الناس بالنزوح، وبدأت الاقتحامات بالدبابات والمعارك بين النظام والجيش الحر لكن رغم ذلك بقي نفس صغير للمظاهرات"، لنكون أمام إصرار مجنون على القول: أن الانتفاضة لم تجنح للعنف إلا بسبب طغيان القوة الذي قلّص أي مساحة للتظاهر السلمي والنشاط المدني، وبمجرد بروز إمكانية لذلك نحن جاهزون لنملأ الساحات، وهذا ما يزيد جنون النظام وطغيانه الذي سعى جاهدا ( بمساعدة أطياف خارجية) للدفع نحو السلاح أملا نحو تخريب البعد المدني، الذي يصر الرسام ورفاقه على إحيائه بين نوبات القصف والطيران فإن لم يكن تظاهرا، فعبر لوحة تقول كل ما تريد أن تقوله التظاهرة: زمن الدكتاتورية انتهى.