"تبّاً للجميع"..
تلك صرخة غضب وتحدي، يطلقها ناشط من أهم ناشطي حي بستان القصر في مدينة حلب بعد دخول الانتفاضة شهرها السابع والعشرين، لتطال الجميع، دون أن تستثني أحد، فـ"وائل إبراهيم الملقب بأبو مريم" ورفاقه الذين قدّموا أجمل آيات التظاهر والإبداعات المدينة في حلب، لم يتخيّلوا حين كسروا حاجز الخوف في رمضان 2011 وتظاهروا ضدّ النظام للمرة الأولى أن يكون دربهم نحو الحرية محفوفا بالمخاطر وطويلا إلى هذا الحد، إذ رغم الدمار والحرب المفتوحة التي تغرق فيها العاصمة الاقتصادية لسوريا (حلب) قفز اسم "بستان القصر" إلى مقدمة الأخبار والأحداث، ليس لأنها منطقة حرب ودمار، بل لأنها على العكس من ذلك تماما تمكنت أن تقدّم نموذجاً يصرّ على ممارسة سلميته بوجه النظام الذي خرج من الحي، وبوجه من يحاول سرقة الانتفاضة من مدنيتها وسلميتها لصالح أهداف خاصة به، الأمر الذي دفعنا في "سيريا أنتولد" لمحاولة البحث عن الحكاية، حكاية بستان القصر وشهدائها وإبداعها وسر أعراسها التي توّحدت مع التظاهرة، فغدا العرس تظاهرة والتظاهرة عرساً، إضافة إلى الأغاني وحفلات الحريّة التي تقام بين نوبات القصف، ساخرة من الدكتاتورية بالحياة، فكلّما قصفتهم الطائرات ردّوا عليها بأغنية أو لوحة أو بسمة ساخرة من وسط الحطام، بسمة تقول: إننا باقون، هنا لنا ماض وحاضر ومستقبل.
الحيّ الذي كسر حاجز الخوف من النظام في رمضان 2011، حيث خرجت المظاهرة "بعد صلاة التراويح من جامع حزيفة واستمرت بالمسير لمشفى الحياة، وهناك قام الأمن والشبيحة بتفريق المظاهرة، واعتقال العشرات"، مازال مثابرا على التظاهر رغم ما يتعرض له من قصف من قوّات النظام، وما تتعرض له الانتفاضة من تسلّق على ظهرها، إذ يصمم الناشطون على "العمل الإغاثي والطبي والتعليمي" و التظاهر ليس ضد النظام فحسب بل ضد " أي متسلق أو حرامي أو شخص يشوّه اسم الثورة"، و على رأسهم الإسلاميين و جبهة النصرة التي كان للناشطين المدنيين معهم أكثر من مواجهة بعد رحيل النظام، حيث يقول أبو مريم الذي اعتقل ثلاث مرات من قبل جبهة النصرة: " تم الاتفاق بعد مشاكل دارت بيننا لأكثر من ستة أشهر، على إسقاط النظام أولا، وعلى حلّ المشاكل بيننا بالحوار".
وعن هذا الصراع الناشئ داخل الانتفاضة بين هذه الجماعات والناشطين المدنيين، حيث يظهر علم القاعدة واضحا في بعض التظاهرات يقول "أبو مريم" أن "هناك فرق كبير بين الطرفين. من يطلبون الدولة المدنية كثيرو العدد، لكن لا يوجد أحد يحميهم أو يدعمهم ماديا، أما من يطلبون الدولة الإسلامية هناك الكثير ممن يدعمهم بالمال مثل جبهة النصرة والهيئة الشرعية وأحرار الشام وصقور الشام.. ونحن "حي بستان القصر" محاربين "من قبلهم إلى درجة أنهم يصفون الحي بالحي العلماني!".
ومع ذلك يوّزع ناشطو الحي أعمالهم على محورين: الأوّل يعمل على استكمال النشاطات المدنية الهادفة لإسقاط النظام بدءا من الاعتصامات ووقفات الحداد على أرواح الضحايا بالساحات ووقفات شموع واحتفالات بالذكرى الثانية للانتفاضة وعيد الشهداء وذكرى خروج أوّل مظاهرة بجامعة الانتفاضة (حلب) ، وذكرى استشهاد صديقهم الناشط "عبد الواحد هناوي" والرسم على الجدران وتزيين الحي بالأعلام . والثاني العمل على مواجهة التيارات الإسلامية المتشددة ومنعها من التسلق على ظهر الثورة"، بالحوار تارة وبالحيلة تارة أخرى، عبر جذبهم نحو النشاطات المدنية، فمرّة أراد أحد شباب النصرة أن يتزوّج "قلتلو عرسك عندي جمعت الشباب وساوينا مظاهرة ع شكل عرس".
أجمل إبداعات حي "بستان القصر" هو الأعراس التي أصبحت مظاهرة إلى درجة أنه لم يعد بالإمكان التفريق كثيرا بين العرس والمظاهرة التي باتت تجمع كل صفات الأعراس من غناء و مطرب يغني أمام جمهور، مع فارق أنه يغني للعروس/ الحرية التي تأخرت أو شتم الدكتاتورية ، أو للناشط / العاشق الذي يسقط وهو يحاول دفع مهر الحرية، فيعمل أصدقاءه على تشييعه في عرس "منروح قدّام بيت كل شهيد، ومنغنيلو ومنعملو عرس قدّام بيتو".
وعن سرّ هذه الأعراس التي باتت تميز "بستان القصر" يقول أبو مريم: "بدنا نفرجي العالم إنو نحنا رغم كل القصف والدمار وحالة الضغط النفسي يلي عايشينا إنو مو فارقة معنا ومصرّين ع المضي بثورتنا" رغم الكثير من العوائق التي تقف في دربهم كالبطالة الكبيرة في الحي والفقر وحاجة السكان للمساعدة وقلة الموارد الطبية والأدوية وانقطاع التيار الكهربائي والمياه والاتصالات.
https://www.youtube.com/watch?v=prDerVbd1PY
لبستان القصر لحظاته الاستثنائية التي حفرت بالدم على جدران وشوارع و أرصفة الحي، فـ "يوم تشييع الشهيد "أمير بركات" بـ 25/5/2012 قامت قوات النظام بارتكاب مجزرة، وقتلت 13 متظاهر أثناء تفريقنا بالتشييع، ووصل عدد المتظاهرين 65000 تقريبا وكنا ننوي المسير لساحة سعد الله الجابري والاعتصام بالساحة" هو يوم استثنائي بنظر أهالي الحي وناشطيه، كما أن هناك لحظات حزينة "لا تنسى" فهناك المجازر وقصف المظاهرات، و أكثر شيء محزن "دخول الشبيحة بين أفراد الجيش الحر مدّعين أنهم أحرار".
رغم أن ناشطي الحي لم يعودوا "قادرين الآن على القيام بأي نشاط لأنه لا يوجد أي داعم لنا، لكنّنا سنواصل التظاهر"، مصممين على نيل الحرية مهما كانت الصعاب.
بهذه الروحية يصرّ أهالي الحي على الاستمرار في انتفاضتهم، فالغناء وصوت المغني الصارخ بالحرية، الذي يقف على سوزوكي و العرسان الذين باتوا يزيّنون أعراسهم بالتظاهرة وهتافات الحرية هي زادهم وسلاحهم الوحيد لمحاربة النظام والمتسلّقين على ظهر انتفاضة الكرامة.