موبايل ومقلاع وقلم تخطيط بوجه الدكتاتورية


18 حزيران 2013

في 2 حزيران 2013 ارتفعت في أحد تظاهرات مدينة درعا ( طريق السد) لافتة كتب عليها " هل تعلم لماذا هذه اللافتة جميلة، لأنها صوّرت بموبايل شخصي" موقعة باسم "ألوان متمردة"، ومرفقة بعبارة "ما أجمل أن نفهم ما معنى. هي لله".

اللافتة على بساطتها وخلو مفرداتها من أي تعقيد تكاد تختصر جزءا كبيرا من تاريخ الانتفاضة الغير مرئي، وتفاصيلها المحجوبة عن الإعلام.

 كلمات قليلة تختصر أولئك الجنود المجهولين الذين قاوموا الاستبداد بأدواتهم البسيطة و أيديهم العارية إلا من الأمل، الذين لا ترصدهم الكاميرا ولا محطات التلفاز، لجهلهم بأساليب الشهرة ربما، أو خوفهم من بطش نظام مستبد، إن عرف بما تقوله قلوبهم التي توحدّت على إزالة الاستبداد بأي شكل من الأشكال، كان مصيرهم السجن أو القتل.

وبقدر ما تحيي اللافتة من شأن النضال السلمي وأثر أولئك الجنود المجهولين، فإنها تضمر عتبا ممزوجا بمرارة حانقة على المعارضة والعالم لقلّة الإمكانات المتوافرة في أيديهم في حين تتوفر لهذا النظام كل أساليب القمع بدءا من الرشاش وليس انتهاءا بالطائرات والمدافع، دون الركون لليأس، وكأنّ لسان حالهم يقول: سنقاوم أقوى الدكتاتوريات بأبسط الوسائل وبكل ما توفر في أيدينا،  سنحوّل القلم إلى كلمة، والكلمة إلى احتجاج وتحدي وأمل، واللون إلى لوحة تجتاز سدود النظام وحواجزه التي قسّمت أرض الوطن.

تفتح اللافتة تلك الضوء ساطعا لدفعنا للبحث عن أدوات المواطن العادي في مقاومة الدكتاتورية، فبعيدا عن الناشطين والتنسيقيات الذين تمكنوا من إيجاد أدوات ووسائل تساعدهم على تفعيل مقاومتهم وتظهيرها إعلاميا، هناك غالبية كبرى من السوريين تقاوم الدكتاتورية بصمت وبشكل شخصي أحيانا، حيث نرى آثار تلك المقاومة دون أن ندرك من يقف خلفها حتى اللحظة.

وتظهر تلك الآثار من خلال لوحة مرمية في شارع و عليها رسوم ضد الدكتاتورية، أو قصاصات ورقية ملونة بعبارات تحض على رفض هذا النظام، أو  كلمة "حرية" مكتوبة على جدار وسط شارع عام، وبطريقة عفوية وغير منظمة، تدل على أن من فعلها قام بكتابتها بسرعة وبخوف أيضا، إذ تكاد تقرأ أثار الخوف في الكتابة المكتوبة على عجل خوف أن تلتقط أعين الأمن من كتبها في جنح الظلام.

مصدر الصورة : صفحة ألوان متمردة
مصدر الصورة : صفحة ألوان متمردة

هنا حوّل السوريون أنفسهم إلى جنود مجهولين في إطار الإطاحة بالدكتاتورية، لأنهم أدركوا بفطرتهم الشعبية كم تستفز هذه القصاصات الورقية أو الشعارات والكلمات المكتوبة على الجدران أجهزة الأمن، إذ نُقل عن أحد العاملين في قمع التظاهرات مع النظام قوله" أسهل عليّ أن أقمع ألف تظاهرة على أن ألمّ الشعارات المرمية على الأرض"، الأمر الذي دفع مجموعة من الشباب لكتابة رزمة من القصاصات، كتب على وجهها الأول شعارات ضد النظام، وعلى وجهها الثاني: "لم يا زبال"! وفي الوقت الذي كان العاملون مع الأمن يلمّون الشعارات كي لا يراها المارة، كان الناشطون ينظرون إليهم من بعد وهم يضحكون.

حاولنا في "سيريا أنتولد" الوصول إلى عدد من هؤلاء المناضلين بعيدا عن الإعلام، والذين حوّلوا خوفهم من النظام إلى عامل قوة، لأن سرّية هذا العمل و قيام شخص واحد فيه أحيانا تجعل من الصعوبة على أجهزة الأمن إلقاء القبض على الفاعلين، لأنه يشبه "البحث عن إبرة في كومة قش" كما يقول المثل العربي.

أحد الشباب الحماصنة الذي كان بيته يطل على منطقة تتجمع فيها المظاهرات عادة (نتحفظ عن ذكر اسم المكان حماية للشاب) اكتشف متعة التصوير من شرفة منزله، فبدأ يصوّر التظاهرات بكاميرا الموبايل الشخصي ويرسلها إلى صفحات التنسيقيات باسم مستعار.

بعد أشهر سيمتلك هذا الشاب كمّاً هائلاً من الفيديوهات المصوّرة، الأمر الذي جعله يتخوف من مداهمة البيت على حين غرة، مما دفعه لشراء فلاشة ذات حجم صغير، وبدأ يتعوّد على ابتلاعها إلى أن تمكن من الأمر، فنقل الأفلام من لابتوبه إلى الفلاشة التي تبقى في جيبه كي يقوم بابتلاعها إن دوهم البيت على حين غرة، ليتحول فعله هذا إلى فعل مقاومة شخصية تهز أسس الدكتاتورية دون أن يعرّض نفسه لأية مخاطر.

مصدر الصورة : صفحة ألوان متمردة
مصدر الصورة : صفحة ألوان متمردة

أما "هلا" التي تقطن في مدينة حلب التي لم تتظاهر في البداية ضد النظام، مما دفعها للبحث عن آلية تمارس من خلالها رفضها لهذا النظام، إذ تقول: "كنت أنتظر أن تتحرك منطقتي ولكن للأسف لم يتظاهر أحد، وكان في داخلي رفض هائل لهذا النظام منذ الصغر، كون أبي كان سجينا سياسيا وحرمت منه باكرا، وكنت أشعر أن من واجبي أن أفعل شيئا، وأشارك فيما يحصل، وبنفس الوقت كنت خائفة جدا من الاعتقال كوني عانيت من الصغر مضاعفات هذا الأمر بسبب اعتقال والدي لعشر سنوات، فكنت أعاني من مشكلة الثقة بالآخرين، والآن لو لم أكن في أحد المناطق المحررة لما تجرأت على قول هذا الكلام".

تتابع هلا قائلة: " لمعت الفكرة في بالي، فاشتريت قلم تخطيط، وارتديت حجابا يخفي الكثير من معالم وجهي لتمويه شخصيتي، وبدأت أدخل البنايات واحدة واحدة، وأكتب على الجدران كلمات مثل "حرية" و " يسقط النظام".. في المرة الأولى كنت أرتجف وكان قلبي يقفز إلى درجة كنت أظن أن أهل البناية كلهم يسمعون دقات قلبيّ ! ولم أجرؤ على دخول إلا بنايتين، إذ شعرت أني سأنهار من الخوف، لأعود إلى المنزل وأبقى أسبوع خائفة من اكتشاف فعلتي، وحين أدركت أن الأمر مرّ بسلام، بدأت أغزو البنايات واحدة واحدة، و كل مرة في مكان مختلف".

في حمص، عمد النظام إلى عزل المناطق عن بعضها البعض مع تفتيش دقيق أحيانا لمن يخرج من الأحياء التي قطع عنها الأنترنت لمنعها من إيصال صوتها للإعلام، الأمر الذي ضيّق على الناشطين أمر نقل ما تصوره الموبايلات الشخصية، فحاول الناشطون الذهاب إلى أطراف الحي ومحاولة التسلل مشيا على الأقدام إلى المناطق المجاورة، إلا أنّ القنّاص كان لهم بالمرصاد أيضا، الأمر الذي دفعهم للعودة إلى زمن الطفولة، حيث أيقظوا لعبهم القديمة التي كانوا يلعبون بها في البراري والبساتين، فجاؤوا بالمقلاع ووضعوا الفلاشة فيه ورموها باتجاه الحي الثاني حيث يكون نشطاء الحي الثاني بانتظارها لإيصال محتوياتها إلى المكان الذي يجب أن تكون تصل إليه.

 ما سبق غيض من فيض من أساليب المقاومة اليومية التي لازال يقوم بها السوريون حتى اللحظة، أساليب كثيرة نرى آثارها على الجدران والطرقات دون أن نتمكن دوما من معرفة من يقف خلفها، مقاومة تقوم على تجيير أبسط الأشياء لتقويض دكتاتورية تمتلك أقوى المعدّات العسكرية والتقنية، لنكون أمام حالة الماء ( الشعب) الذي يحت الصخور العاتية ( الاستبداد) ببطء ولكن بإصرار عنيد على التحدي والانتصار.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد