مع ارتفاع قمع النظام ضد الناشطين المدنيين السلميين باستهدافهم بالقتل والسجن والتصفية، دفع من تبقى منهم للمغادرة أو الانزواء، ليتقدّم المكوّن العسكري ويتراجع السلمي عمّا كانه في الأشهر الأولى من انتفاضة الكرامة، إلا أن ثلّة من الشباب المغامرين المعاندين، رفضوا هذه المعادلة وتجذّروا في مدنهم وقراهم، مصمّمين على ممارسة نشاطهم السلمي المدني، مقلقين راحة النظام في عرينه الذين ظنّه آمنا بعد أن توّهم أنّ بدفعه الانتفاضة نحو العسكرة سيطوي صفحة النضال السلمي للأبد، فخرج هؤلاء ليؤكدوا تهافت روايته، ويتظاهروا في أحياء تقع في القلب من دمشق مثل: الصالحية، ركن الدين، باب سريجة.. إضافة إلى محافظات أخرى، ليبقى السؤال: من هؤلاء الذين بقوا وحدهم تقريبا حتى اللحظة، معاندين رواية النظام وهم يقفون في فم الردى؟
"سيريا أنتولد" حاول التقصي عنهم والبحث عنهم لرواية حكايتهم من ألفها حتى يائها كما يروونها هم. قصة شباب آمن أن "الشعب يستجيب القدر" وأن الحرية " تؤخذ غلابا"، فمن هؤلاء؟
إنهم " الشباب السوري الثائر"، هكذا يطلقون على أنفسهم، تمييزا لأنفسهم عن شباب آخرين يختلفون معهم بالنظر إلى الانتفاضة من جهة، وعن جيل آخر وتيارات فكرية وسياسية تكلست في الماضي، لأن "الثورة هي عفوية في قسم كبير منها، وليست ثورة تجمعات سياسية أو معارضة تقليدية أو تيارات فكرية معينة، فجاء اسم الشباب ليعبّر عن هذا المعنى بالذات"، كما يقول أحد نشطاء التجمع الذي يتألف من "مجموعة من الشباب اليساري الذين انخرطوا في الانتفاضة منذ أول يوم فيها، بعيدا عن أية رؤى أو تجمعات في البداية، إذ " بقينا نعمل ضمن إطار الثورة ككل، مشاركة في التظاهرات وفي أشكال احتجاجية أخرى".
إلا أنه في عام 2012 بدأت تظهر أشكال ومجموعات للعمل المدني السلمي، وبدأت هذه التجمعات تطرح رؤاها لما يحصل في سوريا، "وخاصة المطلوب من الثورة أو ما تمثله الثورة أو حتى أهداف الثورة، حيث رأينا من خلال النقاشات والمماحكات التي جرت بيننا كشباب آنذاك، أنّ ثمّة بعد أساسي يغيب عن فكر هذه التجمعات وهو المضمون الاجتماعي. حيث تركزت هذه التجمعات على البعد السياسي بأنّها ثورة حريات فقط، في حين نرى نحن أنها ذات بعد اقتصادي اجتماعي وهي ثورة شعب مفقر ضد نظام ناهب، وهنا طرحت فكرة تأسيس تيار يضم أصحاب هذه الرؤى، فبادر مجموعة من الشباب لتأسيس "تجمع الشباب السوري الثائر" الذي انطلق رسميا بتاريخ 1/5/2012، حيث كان أوّل نشاط للتيار تحت هذا الاسم هو مظاهرة في حي ركن الدين تلاها توزيع مناشير، " وفي الحقيقة كنا دائما نصعد بنفس المنطقة وبنفس الشعارات إلا أن التظاهرة أعطتنا هوية جامعة، إذ كنا للمرة الأولى نخرج تحت هذا الاسم".
ليس لشباب التجمع الذي ينشط في حمص ودمشق بالدرجة الأولى، إضافة إلى تواجده في محافظات أخرى، أي تحفظ "للمشاركة مع أي تنظيم آخر يخدم العمل السلمي والانتفاضة عموما"، إذ شارك التجمع في عدد من الحملات مثل "نحن بديل أخلاقي" و "ثورة انسان من أجل الحياة" وغيرها الكثير.
يعمل التجمع للتعبير عن مطالبه من خلال اللافتات التي يرفعها، إذ إلى جانب رفض النظام والتعبير عن موضوع الحريات، تركز اللافتات على إبراز "الجانب المطلبي الاجتماعي /الاقتصادي الذي تعبر عنه حركتنا"، إضافة إلى التصميم على ممارسة النشاط السلمي المدني في ظل العسكرة المتزايدة، "ردا على الكلام الذي يقول بأن الثورة تعسكرت بالمطلق، و أنّه لم يبق أي مكان لفعل مدني سلمي، ونشاطنا وعملنا على الأرض يؤكد تهافت هذه الرؤية".
وعن رؤيتهم للعلاقة بين المكون العسكري والسلمي، يقول أحد نشطاء التجمع "صحيح أنّ المكوّن العسكري هو القسم الأبرز إلا أنّ النشاط السلمي يأتي الآن كرديف، إضافة إلى أنّ الخيار العسكري لن يحقق مطالب الثورة كاملة، بل هو قد يوصلنا لنقطة ما، نحتاج بعدها لمواصلة النضال سلميا لتحقيق كافة المطالب المرفوعة".
ويمتاز التجمع بمشاركة نسائية لافتة حتى اللحظة في تظاهراته ونشاطاته، وهو أمر يؤكد عدم دقة الرؤية التي تقول بأن العسكرة ساهمت بتراجع مشاركة النساء، إذ ثمة مكان لمن يريد أن يشارك، فمنذ "البداية والصبايا يعملون معنا، ويشاركن في التظاهرات مثلهن مثل الشباب، وأحد مطالب التجمع هي التأكيد على حقوق المرأة كاملة، وخلال هذه المسيرة منذ التأسيس حتى الآن، لم تتوقف المشاركة النسائية"، ولم تتراجع رغم كل الضغوط التي يتعرض لها الحراك السلمي، وعلى رأسها الضغط الأمني حيث "اعتقل لنا خمس شباب"، إضافة إلى الضغط المادي فـ "بسبب استقلاليتنا نحن لم نتلق أي دعم من أحد، وكل النشاطات تموّل من جيوب التجمع القليلة أصلا. وبسبب هذا الأمر ثمة أشياء كثيرة كان يمكن أن نقوم بها ولم نفكر بها بسبب عدم وجود التمويل، مثل أنّه ليس لدينا نت فضائي للتواصل مع القنوات الإعلامية لنقل نشاطاتنا، حيث أغلب القنوات تطلب أن تكون تابعا لها سياسيا وهو أمر نرفضه، حيث أن ثمة تظاهرات كانت تخرج بعيدا عنّا بعدّة أمتار وتغطى بشكل كبير، في حين كان الاعلام يتجاهلنا بسبب استقلاليتنا السياسية ورفضنا الانخراط تحت وصاية أي جهة.
يعتبر التجمع أن أشهر صيف عام 2012 هي الأجمل في تاريخه، حيث "لم نكن نتظاهر فحسب، بل كنا نحول التظاهرة إلى ما يشبه الأمسية، حيث يجتمع أغلب ناشطي دمشق في التظاهرات التي ندعو لها فتتحول إلى مهرجان فرح وحرية"، في حين أن أكثر اللحظات حزنا هي "حين استشهد شابين، كل واحد في مكان مختلف وخارج إطار التظاهر، حيث شكل الأمر بالنسبة لنا حزنا عميقا، إذ لا نزال نتذكرهم بحزن مصممين بنفس الوقت على إكمال دربهم".
وعن أحلامهم يقول أحد الشباب: "نحن ليس لدينا أحلام، بل لدينا مجموعة أهداف واقعية نسعى لتحقيقها على الأرض، وهي دولة مدنية ديمقراطية تحقق العدالة الاجتماعية"، لنكون أمام حالة "شباب سوري ثائر" يركن للعلم وأدواته بعيدا عن التنجيم والرسم في الفراغ، لأن الشعب "إن أراد الحياة" فعليه "أن يستجيب القدر" وأن أراد الحرية فيجب أن " تؤخذ الدنيا غلابا"، وهذا ما يفعله هؤلاء الشباب على الأرض خطوة خطوة.