مع رحيل النظام عن بعض المناطق في سوريا، ورحيل السوريين إلى مخيّمات اللجوء هربا من الموت والدمار، بدأت تظهر مشاكل غياب الدولة ومؤسساتها، فانعكس الأمر على الأطفال الذين غدوا دون مدارس، مما تركهم للفراغ والشارع وألعاب السلاح، حيث باتت لعبة الأطفال المفضّلة " عسكر حر وعسكر نظامي" أو "حواجز"، مما ينذر بمستقبل قاتم، إن لم يتم تدارك الأمر والانتباه له.
ولأن الانتفاضة هي حلم ومستقبل وفرح قبل أيّ شيء آخر، انتبه الناشطون إلى خطورة الأمر، فكان منظر الأطفال الذين يقضون وقتهم في الشارع ميلاد انبثاق فكرة تأسيس مدارس جديدة وفق المتاح، إذ تقول "مها مصطفى كرمان" (زوجة الشهيد مصطفى كرمان): "بلشت الفكرة وقت طلعنا ( هي ومصطفى) بالعيد على بستان القصر، وشفنا إنو الولاد عم يقضو معظم وقتن بالشارع، ومتأثرين بمنظر السلاح . ففكرنا نفتح مدرسة يقضو فيها شوية وقت مفيد وبيتعلموا المواد الأساسية". في حين تقول هبّة الشواف التي تعمل في مدرسة "جيل الحرية" بدأت فكرة إنشاء مدارس بديلة للحاجة الكبيرة التي يعيشها الطفل السوري اللاجيء بالمخيمات، فأصبح توّفر التعليم معدوم بأوّل فترة، لذلك بادرت المؤسسات لإنشاء مدارس تعليمية ومراكز، وبعد التواصل مع عدد من الأطفال لاحظنا مدى ضعف الجانب الثقافي والتعليمي لديهم، لذلك قررنا المبادرة بإعادة تشغيل المدارس القريبة من المخيمات".
ولم تقتصر المدارس على المناطق التي رحل عنها النظام، "بل قد نقوم ببعض الدروس الخصوصية والتقوية في مناطق هيمنة النظام، لمساعدة الطلاب على الاستمرار بالتعليم إن حصل، وتغيّبوا فترات عن الذهاب للمدارس بسبب الوضع الأمني الخطر"، كما تقول هبة.
وعن أماكن قيام هذه المدارس، فالأمر يختلف من منطقة إلى أخرى حسب المتاح، إذ تقول مها: " أماكن المدارس متنوعة، فإما المدارس القديمة نفسها إذا كانت بعيدة عن القصف والقناصين أو ملحق جوامع متل مدرستنا ( مدرسة الشهيد مصطفى كرمان) وأحيانا بالجامع نفسو، أو أي مكان يعتبر نوعا ما آمن"، أما في المخيمات فالأمر مختلف إذ تقول هبة أن الطلاب كانوا يدرسون "بخيمهم الخاصة التي يسكن فيها 3 عائلات أو أكثر، لذلك قررت "جيل الحرية" أن ترمم أحد مدارسها بمنطقة قاح لتعيد جزء من الحياة الطبيعية لدى الطفل في المخيم، وتخلق له جو من الراحة النفسية بترميم المدرسة، بشكل يضيف عليها الألوان والنظافة، وبعض أمور المتعة التي يحتاجها كل طفل من نشاطات ترفيهية وألعاب".
رغم الأمل الكبير الذي يعيشه القائمون على المدارس والعاملين فيها، فثّمة مصاعب كثيرة تعوق عملها، أهمها النزوح المستمر وعدم الأمان وتفضيل الأهل في كثير من الأحيان عدم إرسال أبنائهم خوفا عليهم، وصعوبة تأمين الكادر التدريسي، إضافة إلى شح الموارد المالية التي غالبا ما تكون ( إن توفرت ) "تبرعات متفرقة أو تمويل شهري".
وتبقى مشكلة المناهج المدرّسة هي الأكثر إشكالية لأنّ المناهج القديمة كلها تمدح الرئيس والبعث، وهناك سعي من قبل بعض المؤسسات الدينية المانحة للأموال لفرض منهاج تعليمي ذو صبغة دينية، الأمر الذي جعل القائمين على هذه المدارس حذرين من هذا الجانب، إذ تقول مها "ما عندي معلومات دقيقة، لكن في بعض المدارس بتعطي نصف الحصص دروس دين وقرآن، والصبح تبدأ دروسها بقراءة الفاتحة ونهجها الديني واضح، حتى الجلاء المدرسي مكتوب عليه آيات قرآنية وأحاديث وعزيزي الطالب المسلم، ونحن بمنطقتنا منبوذون من قبل أصحاب هذه المدارس، ولكن قبول الأهالي لنا جيد، وأمّا المنهاج بالنسبة لمدرستنا، هو نفس المنهاج القديم مع حذف أي نص يشير للنظام أو طلائع البعث، مع حصة ديانة بالأسبوع" وهو ما تؤكده أيضا هبة التي تضيف "لدينا خطة مستقبلية لتكوين منهج داعم قوي للمنهج السوري، يشرف عليه أخصائيين حول العالم".
ورغم كل الصعوبات، إلا أن ثمة لحظات فرح لا تنسى، لحظات يقتنصها المدرسون من فم أطفالهم لتعينهم على الأمل الذي جاؤوا ليعطوه للأطفال فباتوا منهم يستمدون قدرتهم على الصمود، إذ ترى هبة أن استجابة الطلاب في مركز "جيل الحرية" وظهور مواهبهم وحبّهم للتعليم "تشعرك بالسعادة وتضيف لك الشعور بتقديم المزيد لأن المعلومة تدخل بأعماقهم"، إضافة إلى أن "الابتسامة الوردية على وجوه المصابين والمعاقين تجعلك تشعر أنّ سوريا سترجع أفضل بكثير من الماضي".
ذكريات كثيرة عالقة في ذهن هبة، إلا أنها لا تنسى أمرين اثنين: "وجه الطفلة رغد التي فقدت رجلها، ولكن أصبحت رمز بين الجميع بنشاطها وتقبّلها للواقع ومشاركتها اللعب مع أصدقائها". و "أجمل ما سمعته أن أحد الأطفال بعد ترميم المدرسة، قال بسعادة أنّه سيجعل صفّه كغرفة نومه بالحفاظ عليها، وستكون المدرسة منزلة الثاني".
وتبقى كمية الفرح نادرة وسط الحزن الكثيف الذي يعيشه أطفال المدارس هذه، إذ مهما حاوّل المختصون ثمّة أشياء ترسب في الذاكرة وتحتلها، ثمّة حزن يعجز المرء عن صدّه، حين سمعت هبة "طفلة بالخامسة من عمرها تتحدث عن أشرف ومحمد و جيرانها الذين تقطّعوا أشلاء من قذيفة هاون، وجمعوا أشلائهم بكيس ليستطيعوا دفنهم"، أو "ما سمعناه من بنات الصف التاسع واحتياجاتهم كمراهقات، أن يرجعوا إلى غرفة نومهم التي أصبحت ركام لينظروا لأنفسهم بالمرآة
، وإذا سقط النظام سيرجعوا إلى ديارهم يلبسون اللون الأسود، لأنهم لم فقدوا الأخ والأب والأم والديار".
الحزن هذا رغم قتامته ولؤمه لا يمنع هبة ومها ورفاقهما العاملين في تلك المدارس من التفاؤل، إذ "مهما واجهنا سنبقى نحمل رسالة التعليم، لأنّه أكبر سلاح للطفل وللشعب السوري، حتى ترجع بلدنا بخير وتنهض من جديد"، لنكون أمام جيل سوري جديد مصمّم على أن يكون بمستوى الحرية التي طالب بها، عبر بنائها حرفا حرفا.